جماعة «أبولّو».. ثورة شعرية تجديدية

جماعة «أبولّو».. ثورة شعرية تجديدية

حين‭ ‬أُعلن‭ ‬عن‭ ‬قيام‭ ‬جماعة‭ ‬أبولّو‭ ‬الشعرية‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬عام‭ ‬1932‭ ‬برئاسة‭ ‬أحمد‭ ‬زكي‭ ‬أبوشادي،‭ ‬والرئاسة‭ ‬الشرفية‭ ‬لأمير‭ ‬الشعراء‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي،‭ ‬حياها‭ ‬شوقي‭ - ‬مشيداً‭ ‬بالدور‭ ‬التجديدي‭ ‬والمستقبل‭ ‬الواعد‭ ‬الذي‭ ‬يمثله‭ ‬شعراؤها‭ ‬المجددون‭ ‬الشباب‭ ‬ذ‭ ‬بقصيدة‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬مطلعها‭:‬

أبولّو،‭ ‬مرحــباً‭ ‬بك‭ ‬يــا‭ ‬أبولّو

فإنك‭ ‬من‭ ‬عكاظ‭ ‬الشعر‭ ‬ظلّ

يقال‭ ‬إنها‭ ‬كانت‭ ‬آخر‭ ‬ما‭ ‬أبدع‭ ‬من‭ ‬شعر،‭ ‬قبل‭ ‬رحيله‭ ‬بأيام‭ ‬معدودة‭.‬

  لم يلتفت أحد إلى «التوجيه» الذي قصد إليه شوقي في قوله: «فإنك من عكاظ الشعر ظل»، وهو توجيه قصد به لفت نظر الجماعة الوليدة إلى أنها امتداد لعكاظ الشعر العربي (أكبر سوق للشعر في العصر الجاهلي)، وأنها لابد أن تنتمي إلى تراث أمتها، خشية أن يكون اتخاذها لاسم «أبولو» انجرافاً إلى ثقافة غير عربية، وإعلاناً عن نزعة في التجديد تقطع الصلة بكل ما هو تراثي قديم.

  من هنا كان قول شوقي في بقية أبيات قصيدته:

عســــــــــــــى‭ ‬تأتيننــــــا‭ ‬بمعلقاتٍ

نروح‭ ‬على‭ ‬القديم‭ ‬بها‭ ‬نُدلّ

لعلَّ‭ ‬مواهباً‭ ‬خفيت‭ ‬وضاعت

تذاع‭ ‬علــــى‭ ‬يـــــديك‭ ‬وتُستغلُّ

صحائفك‭ ‬المُدبَّجة‭ ‬الحواشي

ربى‭ ‬الورد‭ ‬المـــــــُفتَّح‭ ‬أو‭ ‬أَجــــَلُّ

رياحين‭ ‬الرياض‭ ‬يُملُّ‭ ‬منها

وريـــــــحان‭ ‬الـــــقرائح‭ ‬لا‭ ‬يُــــمــــلُّ

يُمــــــهّد‭ ‬عبــــقريُّ‭ ‬الشعر‭ ‬فيها

لكـــــلّ‭ ‬ذخـــــيرةٍ‭ ‬فيـــــها‭ ‬محلُّ

 

  لكن واقع الحال – بعد رحيل شوقي– لم يحقق ما كان يدعو إليه في قصيدته من الإتيان بمعلقات جديدة نفاخر بها معلقات القدماء (وهو يقصد استمرار النَّفَس الشعري المعهود والنهج المألوف في القصيدة التقليدية). ذلك أن الجماعة قد أتاحت الفرصة لمبدعين جدد من شباب الشعر – في مصر والوطن العربي – وكشفت عن مواهب شعرية مقتحمة، كانت بمنزلة رياحين الشعر وورده النضير الـمُفتّح، وكان أبوالقاسم الشابي في تونس والتيجاني يوسف بشير في السودان وإبراهيم طوقان في فلسطين وعمر أبوريشة في سورية، ومحمد عبدالمعطي الهمشري وإبراهيم ناجي وعلي محمود طه وأحمد رامي ومحمود حسن إسماعيل وصالح جودت ومحمود أبوالوفا وخليل شيبوب ومختار الوكيل وأحمد زكي أبوشادي نفسه وكامل ومأمون الشناوي وجميلة العلايلي وجليلة رضا وأحمد فتحي، وغيرهم في مصر، نماذج بديعة لعالم شعري جديد كان بمنزلة الحدث الشعري الثوري، والمنعطف الكبير في مسار الشعر العربي الحديث والقصيدة العربية الحديثة، وجسْراً بين ما صنعه الإحيائيون (من أمثال البارودي وشوقي وحافظ وإسماعيل صبري) وما سيبدعه شعراء حركة الشعر الجديد في ما أطلق عليه قصيدة الشعر الحرّ. وعلى ضفاف هذه الثورة الشعرية كان شعر المهجر العربي في الأمريكتين ينهمر ويتدفق ويثري نهرُه ديوان الشعر العربي الحديث، أما النهر الثاني فكان يمثله شعر جماعة الديوان (العقاد وشكري والمازني) رافعة لواء شعر الوجدان.  

  ولقد أتيح لجماعة «أبولّو» قيادة تجديدية مستنيرة تمثلت في أحمد زكي أبوشادي الشاعر والطبيب، الذي اشتغل فترة بالطب، ثم عكف على تربية النحل، مؤسساً نادياً دوليًّا للنحل، قبل أن ينتقل من الاهتمام بعسل «النحل» إلى الاهتمام بعسل الشعراء، مؤسساً لجماعة أبولو ومجلتها «مجلة أبولو» التي صدر عددها الأول في سبتمبر 1932 وعددها الأخير في ديسمبر 1934. وعلى صفحاتها قرأ جمهور الشعر قصائد لبعض ممثلي الاتجاه المحافظ في الشعر أمثال أحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومحمد مهدي الجواهري، متجاورة مع قصائد لرواد التجديد الشعري، أمثال الشابي وإلياس أبوشبكة ومحمد محجوب وشفيق المعلوف وإلياس قنصل. واتسع صدر المجلة لبعض المحاولات التجديدية والتجريبية الجريئة في مجال القالب الشعري مثل الشعر المرسل ومجمع البحور والأوبرات الشعرية، ولدراسات تُعرّف بالمذاهب الشعرية كالرومانسية والرمزية، ولترجمات شعرية ونثرية لقصائد من عيون الشعر الغربي.

  والمتأمِّل في الشعر المصري والعربي في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، يرى كيف انطلقت كوكبة شعراء الشباب، تعزف أنغامها الجديدة، وتقدم قصيدتها المغايرة للقصيدة السائدة في زمانها، لغة وحساسية ووجداناً وتصويراً وموسيقى. وكيف تأثر هؤلاء الشعراء بقراءاتهم في الشعر الأجنبي، وبخاصة ما ترجم من قصائد - عن الإنجليزية والفرنسية – إلى اللغة العربية، وكيف دبَّت روح جديدة في الشعر المصري والعربي، سادت وذاعت مع اكتمال ثلاثينيات القرن العشرين، وأصبح شعر هؤلاء الشعراء المعبِّر عن ثورة شعرية جديدة، لها سمْتها وسماتها المميزة في الفكر والخيال واللغة والتوجّه، والأفق الشعري الرحب الذي ينتظم دوائرها العاطفية والوطنية والقومية والإنسانية. وسرعان ما أصبح هذا الشعر صوت عصرهم الشعري، يتجاوب مع نظائره في الآداب الإنجليزية والفرنسية والألمانية وغيرها، ويوطّد لمكانته الثورية الجديدة، المتجاوزة لقيم شعر الإحياء التي سادت منذ مطالع العصر الحديث، بفضل الدور الذي قام به البارودي وتابعه فيه شوقي وحافظ وإسماعيل صبري وغيرهم، بالرغم من وجود عناصر ولفتات وجدانية في شعر هؤلاء وأضرابهم، لم يخْلُ منها الشعر العربي على مدار تاريخه، منذ كان شعر العذريين في العصرين الإسلامي والأموي يحمل عناصر هذا الاتجاه الذي أطلق عليه الناقد الكبير الدكتور عبدالقادر القط «الاتجاه الوجداني» بديلا لـ«الاتجاه الرومانسي» الذي عُرفت به جماعة أبولّو، وكانت لها الريادة فيه والإضافة الحقيقية إليه.

  وفي ضوء ما أطلق عليه «الاتجاه الوجداني» أو «الاتجاه الرومانسي»، يمكننا متابعة لُمعٍ منه في شعر شوقي، وبخاصة في ثنايا مسرحه الشعري، كما نجد أمثلة ونماذج له في شعر جماعة الديوان عند العقاد وشكري والمازني، كما نجدها في القصائد المبكرة للأخطل الصغير بشارة الخوري وأمين نخلة وإلياس أبوشبكة وسعيد عقل في لبنان، وبدوي الجبل وعمر أبوريشة في سورية، والجواهري والرصافي في العراق، وغيرهم من مجايليهم في أقطار عربية شتى.

   لكن هذه الإرهاصات الوجدانية والرومانسية المبكرة في شعر هؤلاء، لم يتح لها ما أتيح لشعراء جماعة أبولّو من نفاذ وذيوع وتأثير. فقد أصبحت الدواوين الأولى والقصائد المنشورة لهؤلاء الشعراء: «أغاني الكوخ» لمحمود حسن إسماعيل، و«الملاح التائه» لعلي محمود طه، وقصائد الشابي في مجلة أبولّو (قبل أن ينشر ديوانه «أغاني الحياة» بعد رحيله بسنوات عدة)، أصبح هذا كله وغيره، بمنزلة النيران الشعرية المقدسة التي اشتعلت في الفضاء الشعري العربي، معلنة عن ثورة شعرية، وعن مدٍّ شعري سكب حُميّاه في عروق القصيدة وشرايينها، صانعاً قصيدته الجديدة وإيقاعها المختلف والمغاير.

  هذه الجِدّة الثورية، وهذا الإيقاع الجديد، وهذه اللغة الشعرية المغايرة وهذا الافتتان بالخيال المحلق والقدرة على التجسيد، لم تغب عن بصر رواد حركة الشعر الجديد الذين انطلقت قصائدهم التجديدية منذ ختام الأربعينيات وأوائل خمسينيات القرن العشرين، مندرجة في تيار شعري سُمِّي باسم الشعر الحر أو الشعر الجديد أو شعر التفعيلة. ولم يُخْفِ شعراء الموجة الأولى في العراق ومصر حقيقة إعجابهم وتأثرهم بأعلام الحركة الرومانسية من شعراء أبولو، معتزين بالدور الثوري والطليعي لهؤلاء الشعراء الكبار، وبخاصة علي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل وإبراهيم ناجي.

  وقد أفصح عن هذا الإعجاب والتأثر في مناسبات عدة، بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي وبُلند الحيدري في العراق، وعبدالرحمن الشرقاوي وصلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي في مصر.

  يقول علي محمود طه – أشهر شعراء جماعة أبولو وأكثرهم تأثيراً بشعره ودوراناً لذكره - في قصيدة عنوانها «ميلاد شاعر»:

هبط‭ ‬الأرض‭ ‬كالشعاع‭ ‬السِّنيِّ

بعصا‭ ‬ساحرٍ‭ ‬وقلب‭ ‬نبيِّ

لمحة‭ ‬من‭ ‬أشعة‭ ‬الروح‭ ‬حلّت

في‭ ‬تجاليد‭ ‬هيكلٍ‭ ‬بشريّ

ألهمت‭ ‬أصغريْه‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬الحكـــ

ـــمة‭ ‬والنور‭ ‬كلَّ‭ ‬معنى‭ ‬سَريِّ

وحبتْهُ‭ ‬البيان‭ ‬رِيًّا‭ ‬من‭ ‬السِّحـ

ـرِ،‭ ‬به‭ ‬للعقول‭ ‬أعذبُ‭ ‬رِيِّ

حينما‭ ‬شارفت‭ ‬به‭ ‬أفق‭ ‬الأر

ضِ،‭ ‬زها‭ ‬الكون‭ ‬بالوليد‭ ‬الصبيِّ

وسَبى‭ ‬الكائنات‭ ‬نور‭ ‬مُحيّا

ضاحك‭ ‬البشر‭ ‬عن‭ ‬فؤادٍ‭ ‬رضيِّ

صورُ‭ ‬الحسن‭ ‬حُوّمٌ‭ ‬حول‭ ‬مهدٍ

حُفَّ‭ ‬بالورد‭ ‬والعمار‭ ‬الزكيِّ

وعلى‭ ‬ثغره‭ ‬يضيءُ‭ ‬ابتسامٌ

رفَّ‭ ‬نوراً‭ ‬بأرجوانٍ‭ ‬نديِّ

وعلى‭ ‬راحتيْهِ‭ ‬ريحانةٌ‭ ‬تنـ

ـدى،‭ ‬وقيثارةٌ‭ ‬بلحنٍ‭ ‬شجيِّ

فحنت‭ ‬فوق‭ ‬مهده‭ ‬تتملّى

فجر‭ ‬ميلاد‭ ‬ذلك‭ ‬العبقريِّ

وتساءلن‭ ‬حيرةً‭: ‬مَلَكٌ‭ ‬جا

ءَ‭ ‬إلينا‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬الإنسيِّ؟

من‭ ‬تُرى‭ ‬ذلك‭ ‬الوليد‭ ‬الذي‭ ‬هشَّ

له‭ ‬الكون‭ ‬من‭ ‬جمادٍ‭ ‬وحيِّ

من‭ ‬تُراهُ؟‭ ‬فرنّ‭ ‬صوتٌ‭ ‬هتوفٌ

من‭ ‬وراء‭ ‬الحياة‭ ‬شاجي‭ ‬الدَّويّ

إن‭ ‬ما‭ ‬تشهدون‭ ‬ميلاد‭ ‬شاعر‭!‬

 وصولاً إلى قوله:

ادخلوا‭ ‬الآنَ‭ ‬أيها‭ ‬المحسنونا

جنةً‭ ‬كنتم‭ ‬بها‭ ‬تُوعدونا

اجعلوها‭ ‬من‭ ‬البدائع‭ ‬زُونا

واملأوها‭ ‬من‭ ‬الجمال‭ ‬فنونا

وانشروا‭ ‬الصَّفو‭ ‬فوقها‭ ‬والسكونا

غير‭ ‬لحنٍ‭ ‬يرفُّ‭ ‬فيها‭ ‬حنونا

تتــــغنَّى‭ ‬بـــــــــه‭ ‬الـــــطيور‭ ‬وُكُونا

وتغــــنّوا‭ ‬بهـــــــا‭ ‬كما‭ ‬تـــــــــشتهونا

وصِـــفوها‭ ‬جـــــــــداولاً‭ ‬وعُـــــــيونا

ووروداً‭ ‬نــــــــــــــــديَّةً‭ ‬وغُـــــصــــــــــــونا

لا‭ ‬تُثيروا‭ ‬بها‭ ‬الهوى‭ ‬والمجونا

واحذروا‭ ‬أن‭ ‬تُذكّـــــروا‭ ‬المجنونا

فلقد‭ ‬ذاب‭ ‬من‭ ‬هواه‭ ‬شجونا

وخلا‭ ‬مهــــــــجةً‭ ‬وجـــفً‭ ‬شُؤونا

وهو‭ ‬في‭ ‬جَنَّتيَّ‭ ‬أسعدُ‭ ‬شاعر‭!‬

أيها‭ ‬الــشاعر‭ ‬اعتمدْ‭ ‬قيثاركْ

واعزفِ‭ ‬الآن‭ ‬مُنشداً‭ ‬أشعاركْ

واجعل‭ ‬الحبَّ‭ ‬والجمالَ‭ ‬شعارك

وادْع‭ ‬ربًّا‭ ‬دعا‭ ‬الوجودَ‭ ‬وباركْ

فزها‭ ‬وازدهى‭ ‬بميلاد‭ ‬شاعر

 

 عُرف علي محمود طه بالشاعر الملاح، بعد أن أطلق اسم الملاح على ديوانيه الأولين: الملاح التائه، وليالي الملاح التائه. وذاعت شهرته بين كل شعراء جماعة أبولو وأصبح أكثرهم نفاذاً وأوسعهم دوراناً بعد أن تغنى الموسيقار محمد عبدالوهاب برائعتيه: «الجندول» و«كليوباترا»، ثم أتبعهما بغناء قصيدته «فلسطين». وهي الشهرة التي أتيحت لإبراهيم ناجي – ولكن بعد رحيله – حين تغنَّت أم كلثوم بمقاطع من قصيدته «الأطلال» في لحن عبقري للموسيقار رياض السنباطي. وكأنما كان التلحين والغناء لعدد من قصائد شعراء أبولو وراء ذيوع بعض أسمائهم، مثل: محمود حسن إسماعيل، ومحمود أبوالوفا، وكامل الشناوي، وصالح جودت، ومأمون الشناوي، وأحمد رامي (في شعرهما الفصيح)، ومختار الوكيل وعبدالرحمن صدقي وأحمد فتحي (فى قصيدتيه: الكرنك، وأنا لن أعود إليك).

  يقول إبراهيم ناجي في قصيدته «العودة» مقدماً لها بهذه الكلمات: «عاد الشاعر إلى دار أحباب له فوجدها قد تغيرت»، ثم يقول:

هذه‭ ‬الــــــــــكعبة‭ ‬كنــــا‭ ‬طائفيها

والمــــــــصلين‭ ‬صــــباحاً‭ ‬ومـــــــساءَ

كم‭ ‬سجدنا‭ ‬وعبدنا‭ ‬الحسن‭ ‬فيها

كيف‭ ‬بالله‭ ‬رجعنا‭ ‬غُرباءَ

‭***‬

دار‭ ‬أحـــــــلامي‭ ‬وحـــــبي‭ ‬لقيتنا

في‭ ‬جمود،‭ ‬مثلما‭ ‬تَلْقَى‭ ‬الجديدْ

أنكرتْنا،‭ ‬وهي‭ ‬كانت‭ ‬إن‭ ‬رأتْنا

يضحك‭ ‬النور‭ ‬إلينا‭ ‬من‭ ‬بعيدْ

‭***‬

رفرف‭ ‬القلب‭ ‬بجنبي‭ ‬كالذبيحْ

وأنا‭ ‬أهــــــتفُ‭: ‬يا‭ ‬قلـــــبُ‭ ‬اتئدْ

فيجيب‭ ‬الدمع‭ ‬والماضي‭ ‬الجريح

لم‭ ‬عُـــــدْنا،‭ ‬لــــيت‭ ‬أنَّا‭ ‬لم‭ ‬نعُدْ

‭***‬

لم‭ ‬عُدْنا؟‭ ‬أَوَ‭ ‬لمْ‭ ‬نَطْوِ‭ ‬الغرامْ

وفرغْنــــــا‭ ‬مـــن‭ ‬حنيــــــنٍ‭ ‬وأَلــــمْ

ورضـــــــــــينا‭ ‬بســــــــكون‭ ‬وسلام

وانتهينــــــــــــــــــا‭ ‬لفــــــــراغٍ‭ ‬كالعدم

أيها‭ ‬الوكرُ‭ ‬إذا‭ ‬طار‭ ‬الأليفْ

لا‭ ‬يرى‭ ‬الآخرُ‭ ‬معنًى‭ ‬للمساءْ

ويرى‭ ‬الأيام‭ ‬صْفراً‭ ‬كالخريفْ

نائحــــــاتٍ‭ ‬كريــــــاح‭ ‬الصحراءْ

‭***‬

آهِ‭ ‬مـما‭ ‬صنــــــــــــــع‭ ‬الدهــــر‭ ‬بنا

أَوَ‭ ‬هذا‭ ‬الطللُ‭ ‬العابس‭ ‬أَنْتا

والخيالُ‭ ‬المطرقُ‭ ‬الرأس‭ ‬أنا؟

شدَّ‭ ‬ما‭ ‬بتْنا‭ ‬على‭ ‬الضنْكِ‭ ‬وبِتّا؟

‭***‬

أين‭ ‬ناديك‭ ‬وأين‭ ‬السَّمرُ؟

أين‭ ‬أهلوك‭ ‬بساطاً‭ ‬وندامى؟

كلما‭ ‬أرسلتُ‭ ‬عينــــــــــــي‭ ‬تنظرُ

وثب‭ ‬الدمعُ‭ ‬إلى‭ ‬عيني‭ ‬وغاما

‭***‬

موطنُ‭ ‬الحسن‭ ‬ثوى‭ ‬فيه‭ ‬السَّأمْ

وســـــــرت‭ ‬أنفاســــــهُ‭ ‬في‭ ‬جَـــوِّهِ

وأنـــــــــــاخ‭ ‬الليــــــــــلُ‭ ‬فيه‭ ‬وجَثمْ

وجرتْ‭ ‬أشباحـــــــــهُ‭ ‬في‭ ‬بَهْوهِ

‭***‬

والبِـــــلى،‭ ‬أبصرْتهُ‭ ‬رأى‭ ‬العِيانْ

ويــــداه‭ ‬تنسجانِ‭ ‬العنكبوتْ

صحتُ‭: ‬يا‭ ‬ويْحك‭ ‬تبدو‭ ‬في‭ ‬مكان

كـــــلُّ‭ ‬شــــيْءٍ‭ ‬فيه‭ ‬حيٌّ‭ ‬لا‭ ‬يموت‭!‬

‭***‬

كلُّ‭ ‬شيْءٍ‭ ‬من‭ ‬سرور‭ ‬وحَزَنْ

والليــــالي‭ ‬مــــن‭ ‬بهيجٍ‭ ‬وشجِي

وأنــــا‭ ‬أسمعُ‭ ‬أقــــــــــــدام‭ ‬الزَمنْ

وخُطى‭ ‬الوحدة‭ ‬فوق‭ ‬الدَّرِج

‭***‬

رُكنيَ‭ ‬الحاني،‭ ‬ومَغْنايَ‭ ‬الشفيقْ

وظلال‭ ‬الخلدِ‭ ‬للعاني‭ ‬الطّليح

علم‭ ‬اللهُ‭ ‬لقد‭ ‬طال‭ ‬الطريقْ

وأنا‭ ‬جُئتُكَ‭ ‬كيْما‭ ‬أَستريحْ

‭***‬

وعـــلى‭ ‬بابــــك‭ ‬أُلقـــــــي‭ ‬جُعبتي

كغريب‭ ‬آب‭ ‬من‭ ‬وادي‭ ‬المحنْ

فيـــكَ‭ ‬كفَّ‭ ‬اللهُ‭ ‬عني‭ ‬غُربتي

ورسا‭ ‬رحْلي‭ ‬على‭ ‬أرضِ‭ ‬الوطنْ

‭***‬

وطني‭ ‬أنت،‭ ‬ولكني‭ ‬طريـــــدْ

أبديُّ‭ ‬النفي‭ ‬في‭ ‬عَالمِ‭ ‬بُوْسي

فإذا‭ ‬عُدْتُ‭ ‬فللنجوى‭ ‬أعودْ

ثم‭ ‬أمضى‭ ‬بعدما‭ ‬أُفرغ‭ ‬كأسي‭!‬

 

  هذه القدرة على التخييل والتصوير في شعر كل من علي محمود طه وإبراهيم ناجي، وهذه القدرة الفذَّة لدى ثانيهما على التجسيد وإبداع الصور المحسوسة للمعنويات، وهذا الإيقاع الموسيقي الهادر، وهذه اللغة الشعرية المرهفة الرصينة، كلها بعض سمات هذه الجماعة الشعرية: جماعة أبولو. وهي التي تضمَّن بيان تأسيسها في عام 1932 العمل على تحقيق الأهداف التالية: السموّ بالشعر العربي وتوجيه جهود الشعراء توجيهاً شريفاً، ومناصرة النهضات الفنية في عالم الشعر، وترقية مستوى الشعراء أدبيًّا وماديًّا واجتماعيًّا، والدفاع عن كرامتهم ومصالحهم. وكان مجلس إدارتها الأول يضم من الشعراء: أحمد شوقي رئيساً، وخليل مطران وأحمد محرم نائبين للرئيس، وأحمد زكي أبوشادي (وهو مؤسسها) سكرتيراً عامًّا، وإبراهيم ناجي وعلي محمود طه وعلي العناني وكامل كيلاني ومحمود عماد ومحمود صادق وسيد إبراهيم وأحمد الشايب ومحمود أبوالوفا أعضاء.

  وعلى الرغم من أنها قد فتحت باب عضويتها للشعراء من كل الاتجاهات، فإنها - كما يقول عنها الدكتور علي عشري زايد في قاموس الأدب العربي الحديث – كان الاتجاه الرومانسي هو الغالب عليها، وكان شعراؤها البارزون هم الممثلين الحقيقيين للرومانسية المصرية التي كانت موجة مصاحبة لموجات الرومانسية العربية في كثير من أقطار الوطن العربي.

  وقد استمر تأثير جماعة أبولو في مسار الشعر العربي الحديث فترة طويلة، وظل أعلامها من الشعراء والأدباء الذين ترعرعوا في أحضانها في طليعة حركات التجديد الشعرية التالية.

 الشاعر محمود حسن إسماعيل في قصيدة عنوانها «أغاني الرقّ» تصور الرغبة الدفينة لدى كثير من شعراء جماعة أبولو في الانطلاق والتحليق إلى فضاء الحرية والثورة، وآفاق التمرد على كل أنواع القيود:

ألقيتني‭ ‬بين‭ ‬شِباكِ‭ ‬العذاب

وقُلْتَ‭ ‬لي‭ ‬غَنِّ

وكلّ‭ ‬ما‭ ‬يُشجي‭ ‬حنين‭ ‬الربابْ

ضيَّعتهُ‭ ‬مني

هذا‭ ‬جناحي‭ ‬صارخ‭ ‬لا‭ ‬يجُابْ

في‭ ‬ظلمة‭ ‬السِّجْنِ

ونشوتي‭ ‬صارت‭ ‬بقايا‭ ‬سرابْ

في‭ ‬حانة‭ ‬الجِنِّ

أواهُ‭ ‬يا‭ ‬فني

لو‭ ‬لم‭ ‬أعشْ‭ ‬كالناس‭ ‬فوق‭ ‬التراب‭!‬

‭***‬

رمانيَ‭ ‬الرقّ‭ ‬بدنيا‭ ‬زوالْ

مغلولةِ‭ ‬الجنْبِ

وقال‭: ‬حوّم‭ ‬في‭ ‬سفوح‭ ‬الجبالْ

واهبط‭ ‬على‭ ‬العُشبِ

واضرب‭ ‬جناحيْك‭ ‬بأفْق‭ ‬المُحالْ

واسأل‭ ‬عن‭ ‬الغيْبِ

وها‭ ‬أنا،‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬إلا‭ ‬ضلالْ

سارٍ‭ ‬مع‭ ‬الركبِ

أوّاهْ‭ ‬يا‭ ‬ربي

لو‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬عبداً‭ ‬لهذا‭ ‬الخيالْ

‭***‬

جعلْتَ‭ ‬زادي‭ ‬من‭ ‬عويل‭ ‬الرياحْ

وغرْبة‭ ‬الطيْرِ

ومن‭ ‬أسى‭ ‬الليل‭ ‬ووجْد‭ ‬الصباحْ

وشهقة‭ ‬النهرِ

وسُقْتني‭ ‬ظمآن‭ ‬بين‭ ‬البِطاحْ

إلا‭ ‬من‭ ‬السّحْرِ

وقلت‭ ‬لي‭: ‬رفرفْ‭ ‬بهذا‭ ‬الجناحْ

واشرب‭ ‬من‭ ‬السرِّ

والسرُّ‭ ‬في‭ ‬صدري

قيّدْتَ‭ ‬ساقيه‭ ‬بتلك‭ ‬الجراحْ‭!‬

 

‭***‬

خدْعتني‭ ‬يا‭ ‬نايُ،‭ ‬حتى‭ ‬الغناءْ

لم‭ ‬تُعْطني‭ ‬سرَّهْ

والعالم‭ ‬الرَّحبُ‭ ‬ومُلْكُ‭ ‬الفضاءْ

زيّفْتَ‭ ‬لي‭ ‬أَمْرَه

ورُحْتَ‭ ‬تُغريني‭ ‬بفنّ‭ ‬السماء

والوحي‭ ‬والفطرة

وأنت‭ ‬عبدٌ،‭ ‬من‭ ‬جحيم‭ ‬الشقاء

جرَّعْتني‭ ‬جمرة‭ ‬

وقلْتَ‭ ‬لي‭: ‬خمرة‭!‬

وسقْتَني‭ ‬عبداً‭ ‬لهذا‭ ‬الرّياءْ‭!‬

الموج‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬كركبٍ‭ ‬طليقْ

يمشي‭ ‬بلا‭ ‬حادِ

غناؤهُ‭ ‬أشواقُ‭ ‬ماضٍ‭ ‬عميقْ

في‭ ‬صدر‭ ‬آبادِ

ولُجُّهُ‭ ‬الطامي‭ ‬هُتافٌ‭ ‬سحيق

في‭ ‬قلب‭ ‬جلاّدِ

لكنه‭ ‬عبدُ‭ ‬النسيم‭ ‬الرقيقْ

إنْ‭ ‬هبَّ‭ ‬في‭ ‬الوادي

من‭ ‬غير‭ ‬ميعادِ

تخالُ‭ ‬شطَّيْهِ‭ ‬ذراعيْ‭ ‬غريقْ

 

‭***‬

والريحُ‭ ‬كالبغْتةِ‭ ‬فوق‭ ‬القفارْ

تأتي‭ ‬بلا‭ ‬وعدِ

كأنها‭ ‬ثكْلى‭ ‬تريدُ‭ ‬الفِرارْ

من‭ ‬ضجّةِ‭ ‬الَّلحْدِ

جبارةٌ‭ ‬بعد‭ ‬خلود‭ ‬الإسارْ

فرَّت‭ ‬من‭ ‬القيْدِ

أخنتْ‭ ‬عليها‭ ‬قبضةٌ‭ ‬من‭ ‬نهارْ

في‭ ‬قارظٍ‭ ‬صهْدِ

فخيَّمتْ‭ ‬عندي

كأنها‭ ‬ضيف‭ ‬قديمُ‭ ‬المزارْ

 

‭***‬

والليل‭ ‬كم‭ ‬هزَّ‭ ‬سياط‭ ‬الظلامْ

وعذَّبَ‭ ‬الناسا

وراح‭ ‬كالراهبِ‭ ‬فوق‭ ‬الأنام

يدقُّ‭ ‬أجراسا

يُديرُ‭ ‬كأساً‭ ‬لم‭ ‬تُطقْها‭ ‬مُدامْ

ويحتسي‭ ‬كاسا

وفجأةً‭ ‬أَوْما‭ ‬إليه‭ ‬غلامْ

ومدَّ‭ ‬نبراسا

الفجرُ‭ ‬قد‭ ‬داسا

بنوره‭ ‬أشلاء‭ ‬هذا‭ ‬القتامْ

 

  وهي قصيدة طويلة تقع في خمسة وعشرين مقطعاً، وتجُسّد صورُها الشعرية هموم النفس الإنسانية وتوْقها للتحرر من أسْر الوجود، والكيان الترابي الذي تنتمي إليه، تطلعاً إلى شفافية النور وحلم البقاء والغناء للكون.

وعندما حملها ديوان الشاعر «أين المفرّ؟» إلى الناس، رأوا فيها توهّج ثورة شعرية وإنسانية لم تكن لتكون لولا ما صنعته جماعة أبولو في إبداع شعرائها الكبار. 

  ومن تونس، حيث كانت أصداءُ جماعة أبولّو تُحرّك وجدان أبي القاسم الشابي، وتشدُّه إلى الوتر الجديد، والانطلاق الحرّ، وتجعله يبعث بمخطوطة ديوانه إلى الدكتور أحمد زكي أبو شادي لكتابة تقديم لها، ثم الاكتفاء بنشر بعض قصائده المسكوبة في حُميّا شاعرية مغايرة، وكان في مقدمتها قصيدته «صلوات في هيكل الحب»، وفيها يقول:

عذبةٌ‭ ‬أنتِ،‭ ‬كالطفولة‭ ‬كالأحلا

مِ،‭ ‬كاللحن،‭ ‬كالصباح‭ ‬الجديدِ

كالسماء‭ ‬الضحوكِ،‭ ‬كالليلة‭ ‬الْقمْـ

ـراءِ،‭ ‬كالـــــــورد،‭ ‬كابتسام‭ ‬الوليدِ

يا‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬وداعةٍ‭ ‬وجمالٍ

وشـــــــــــــبابٍ‭ ‬مُــــنــــــــــعّمٍ‭ ‬أُمــــلودِ

يا‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬طهارة‭ ‬تبعث‭ ‬التَّقْـــ

ـديس‭ ‬في‭ ‬مهجة‭ ‬الشقيِّ‭ ‬العنيدِ

يا‭ ‬لها‭ ‬رقةً‭ ‬يكاد‭ ‬يرفُّ‭ ‬الـــــ

ـوردُ‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬الصخرة‭ ‬الأُملودِ

أيُّ‭ ‬شيءٍ‭ ‬تُراكِ؟‭ ‬هل‭ ‬أنتِ‭ ‬فينو

س،‭ ‬تهادت‭ ‬بين‭ ‬الورى‭ ‬من‭ ‬جديد؟

لتعيد‭ ‬الشبابَ‭ ‬والفرح‭ ‬المعْـــــ

ـسولَ،‭ ‬للعالم‭ ‬التعيس‭ ‬العميدِ

أم‭ ‬ملاكُ‭ ‬الفردوس‭ ‬جاء‭ ‬إلى‭ ‬الأر

ض،‭ ‬ليُحيي‭ ‬روح‭ ‬السلام‭ ‬العهيد؟

أنتِ،‭ ‬ما‭ ‬أنت؟‭ ‬أنت‭ ‬رسم‭ ‬جميلٌ

عبقريٌّ‭ ‬من‭ ‬فنّ‭ ‬هذا‭ ‬الوجودِ

فيك‭ ‬ما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬غموضٍ‭ ‬وعُمقٍ

وجــــــــمالٍ‭ ‬مُــــقـــــدّسٍ‭ ‬مــــــعبودِ

أنتِ‭ ‬ما‭ ‬أنتِ؟‭ ‬أنتِ‭ ‬فـــجر‭ ‬من‭ ‬السِّحْـــ

ـرِ،‭ ‬تــــجلَّى‭ ‬لــــقلبيَ‭ ‬الــــمعمودِ

فأراه‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬مــونق‭ ‬الحـــــــــسـْ

ـن،‭ ‬وجـــــلّى‭ ‬له‭ ‬خفايا‭ ‬الخلودِ

أنتِ‭ ‬روح‭ ‬الربيع‭ ‬تختالُ‭ ‬في‭ ‬الدُّنـْ

ـيا،‭ ‬فــــتهـــتزُّ‭ ‬رائــــعاتُ‭ ‬الـــــورودِ

وتهبُّ‭ ‬الحياهُ‭ ‬سكرى‭ ‬من‭ ‬العطْـ

ـر،‭ ‬ويدْوي‭ ‬الــــــوجودُ‭ ‬بالتغريدِ

كلَّما‭ ‬أبصرتْكِ‭ ‬عنيايَ‭ ‬تمشـيـِ

ـن،‭ ‬بخـــــطوٍ‭ ‬مُـــوقَّعٍ‭ ‬كالــــنشيدِ

خفق‭ ‬القلب‭ ‬للحياة‭ ‬ورفّ‭ ‬الزَّهْـ

ـرُ،‭ ‬في‭ ‬حــــقل‭ ‬عُـــمريَ‭ ‬المجرود

وصولاً إلى قوله في هذه القصيدة البديعة:

خـــــطواتٌ‭ ‬سكــــرانةٌ‭ ‬بالأناشــيد

وصــــوتٌ‭ ‬كــــرجْعِ‭ ‬نــــايٍ‭ ‬بعــــــــيدِ

وقوامٌ‭ ‬يكاد‭ ‬ينطق‭ ‬بالألحا

نِ،‭ ‬فــــي‭ ‬كـــــــلِّ‭ ‬وقــــــفـــةٍ‭ ‬وقــــُعودِ

كلُّ‭ ‬شيء‭ ‬مُوقَّعٌ‭ ‬فيكِ،‭ ‬حتى

لفْتةُ‭ ‬الـــجيد‭ ‬واهــــتزازُ‭ ‬النهودِ

أنتِ،‭ ‬أنتِ‭ ‬الحياةُ،‭ ‬في‭ ‬قُدْسها‭ ‬السَّا

مي،‭ ‬وفي‭ ‬سحرها‭ ‬الشجيِّ‭ ‬الفريدِ

أنت،‭ ‬أنتِ‭ ‬الحياةُ‭ ‬في‭ ‬رقَّة‭ ‬الفجـْ

ـر،‭ ‬وفي‭ ‬رونق‭ ‬الربيع‭ ‬الوليدِ

أنتِ،‭ ‬أنت‭ ‬الـــــحياةُ‭ ‬كـــــلَّ‭ ‬أوانٍ

في‭ ‬رُواءٍ‭ ‬من‭ ‬الشــــبابِ،‭ ‬جديدِ

أنتِ،‭ ‬أنت‭ ‬الحياةُ،‭ ‬فيكِ‭ ‬وفي‭ ‬عينيْـــ

ـكِ،‭ ‬آيـــــات‭ ‬سحــــرها‭ ‬المـــــمدودِ

أنتِ‭ ‬دنيِا‭ ‬من‭ ‬الأناشيد‭ ‬والأحْـ

ـــــــلامِ،‭ ‬والسّحر،‭ ‬والخيال‭ ‬المديِدِ

أنتِ‭ ‬فوق‭ ‬الخيال،‭ ‬والشعر،‭ ‬والفنِّ

وفـــوق‭ ‬النــــــهى،‭ ‬وفوق‭ ‬الحدودِ

أنتِ‭ ‬قُدسي،‭ ‬ومعبدي،‭ ‬وصباحي

وربيــــعي،‭ ‬ونـــشـــوتي،‭ ‬وخـــلودي

 

   إلى آخر هذه الغنائية الفريدة، التي يعدُّها كثير من الدارسين، خلاصة الشعرية لدى شعراء جماعة أبولو، في تدفقها الشعريّ الهادر، وامتلائها واحتشادها بالصور البديعة للمحبوبة، وحركتها في الوجود، وفي هذه القدرة الفذَّة على استدعاء التفاصيل والجزئيات التي تضيء هذه اللوحة الجمالية الفاتنة. وقد أشعلت هذه القصيدة النار في صدور كثير من شعراء مصر الكبار في جماعة أبولو، فنسجوا على منوالها وحاكوها، بعد أن رأوا فيها النموذج الفني لاكتمال عناصر الأداء الشعري الرومانسي في القصيدة الشعرية الحديثة، ووصلت الحال ببعضهم إلى نهْب معجمها الشعري، والسّطْو على صوره وإيقاعاته وانطلاقاته.

  وهو الأمر الذي هيأ المجال لبزوغ حركة الشعر الجديد وتفجُّر قصيدة الشعر الحر، في خواتيم أفول الشعر الرومانسي لدى جماعة أبولو. وبدأ قارئ الشعر يطالع منذ بواكير خمسينيات القرن الماضي الانبثاقات الأولى لحركة شعرية جديدة ومغايرة، كان من روادها عبدالرحمن الشرقاوي وصلاح عبدالصبور ومن بعدهما أحمد عبدالمعطي حجازي في مصر، وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي في العراق، وغيرهم من صُنّاع القصيدة الجديدة ومبدعيها، المقتحمين لآفاق شعرية مغايرة تجمع بين الواقعية والرمزية، وإن لم يتخلوا تماماً عن النفَّس الرومانسيّ
المتوهِّج .