لماذا تقدموا... ولماذا تأخرنا؟ في ظلال الرياضيات

لماذا تقدموا... ولماذا تأخرنا؟ في ظلال الرياضيات

هـناك‭ ‬سـؤال‭ ‬قـديم‭ ‬
‭- ‬جديد‭ ‬يُطرح‭ ‬دائماً‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬النخب‭ ‬العربية،‭ ‬وهو‭: ‬لماذا‭ ‬تقدم‭ ‬الغرب،‭ ‬ولماذا‭ ‬تأخرنا؟‭ ‬وثمة‭ ‬أجوبة‭ ‬عدة‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬وجهات‭ ‬نظر‭ ‬مختلفة،‭ ‬سياسية،‭ ‬أو‭ ‬فلسفية،‭ ‬أو‭ ‬دينية،‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬كثير‭. ‬وتتفاوت‭ ‬صحة‭ ‬وجهات‭ ‬النظر‭ ‬تلك‭ ‬وفق‭ ‬طبيعة‭ ‬منطلقاتها،‭ ‬وخاصة‭ ‬مدى‭ ‬التصاقها‭ ‬بـاالنموذج‭ ‬الإرشاديب‭ ‬Paradigm‭ (‬بالمعنى‭ ‬الاصــــــطلاحي‭ ‬للـــــــــكلمة‭)‬للحقل‭ ‬المعرفي‭ ‬الذي‭ ‬تنطلق‭ ‬منه،‭ ‬وفق‭ ‬تصوّر‭ ‬توماس‭ ‬كون‭. ‬وكثيراً‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬هذه‭ ‬المنطلقات‭ ‬غطاء‭ ‬لدوافع‭ ‬سياسية‭ ‬كامنة؛‭ ‬لهذا‭ ‬تفتقر‭ ‬هذه‭ ‬الدراسات‭ ‬للموضوعية‭ ‬العلمية‭.‬

والمقاربة المطروحة حالياً، للإجابة عن هذا السؤال, تتسم بقدر كبير من التجريد, لكونها تمتح من الفكر الرياضي, أكثر العلوم موضوعية. لأن الرياضيات, من وجهة نظر عديد من فلاسفة الرياضيات, تُكتشف ولا تُخترع, أي إنها «هِبَة إلهية», وفق ما يقوله أفلاطون (427-347 ق.م). وهذا سيمنح هذه المقاربة درجة كبيرة من الوثوقية, التي قد تفتقدها غيرها من وجهات النظر. إضافة إلى أنها تعتمد على أدوات عقلية بحتة, إلاّ أنها ليست «وضعية»، إذا سلّمنا بما يقوله أفلاطون. لهذا يصعب أن يشوبها بعض ما يشوب غيرها؛ وهذا يساعدها في أن تحافظ على «طهارتها» العقلية, إن جاز التعبير. ولذلك ستكون أداتنا الرئيسة في هذه المهمة أهم أدوات التفكير الرياضي, وهي «التفكير المفاهيمي» المتحرر من طبيعة أي سياق. لأن التفكير ضمن السياق غالباً ما يكون ملاصقاً له، ومتأثراً به. كما يمكن أن يطغى على «العلاقات» القائمة فيه، ويدثرها، مع أن هذه «العلاقات» هي المفتاح لفهم ما يجري، وليس السياق، لأن «العلاقات» هي الصورة, والسياق هو المادة التي تظهر به هذه الصورة. ومن أجل ذلك لن نستخدم سوى المعايير العقلية في إجلاء هذه الصورة، وبلورة ما نصبو إليه، متكئين في مسعانا على الفكر الرياضي. فضلاً عن ذلك فإن الرياضيات هي «اللغة الكونية» - إن جاز التعبير - التي وهبنا إياها الخالق كي نعبّر بها عما تعجز عنه اللغات الأخرى. 

  وهذه المقاربة تستبطن كشف «العلاقات» بين ظواهر لا يبدو أن بينها أي علاقة. وفي هذا تكمن قوة الرياضيات التي تشكّل القوام الأساسي للعلم الحديث. لذلك يقول بول ديفيز Paul Davis في كتابه «الجائزة الكونية الكبرى»: إن «إيجاد الصلات الخفية بين ظواهر مستقلة ظاهرياً هو الذي يجعل الطريقة العلمية قوية ومقنعة». والرياضيات، وحدها دون غيرها, هي المؤهلة للقيام بهذه المهمة نتيجة لطبيعتها المجردة. ويضيف: «إن العلم كله عبارة عن بحث عن التوحيد». وهذا هو عين ما تنشده الرياضيات في المحصلة, وأبسط مثال على ذلك مفهوم «العدد» المألوف للجميع. فالعدد «ثلاثة», مثلاً, ببساطة, هو ما تشترك به ثلاث وردات, وثلاثة كتب, وثلاثة طيور... أي إن هذا «المشترك» بين هذه المجموعات قاد إلى تشكيل مفهوم «الثلاثية». أو نصوغها بلغة أخرى, إذا نظرنا إلى المجموعات الآنفة الذكر وسألنا: ما طبيعة العلاقة بينها؟ نجد أن ثمّة تقابلاً (واحداً إلى واحد) بين أي مجموعتين منها. وهذا «التقابل» تولّد عن الشيء المشترك بينها. نسمي هذا المشترك في هذه الحالة العدد «ثلاثة». أي إننا لم نعط أي أهمية لطبيعة عناصر المجموعة, بل انصب اهتمامنا على «العلاقة» بين تلك الأشياء. كذلك الحال بالنسبة للعدد أربعة, أو خمسة, أو غيرهما من الأعداد. ومن هذه الروح انبثقت أهمية مفهوم «العلاقة» في الرياضيات, التي خضعت لتطوير كبير, ثم انتقلت إلى مختلف العلوم الحديثة. 

  ومن المعروف أن كل من درس, أو عاش, في إحدى الدول المتقدمة، قد لاحظ أن مجتمعاتها تعيش على «إيقاع» معيّن مضبوط في كل نواحيه. ونخص من ذلك طبيعة العمل في تلك البلدان, إن كان عاماً أو خاصاً, لا فرق بينهما. وكلما كان المجتمع متقدماً كان «إيقاعه» أوضح, ومضبوطاً أكثر, ويعبّر
- مجازياً - عن «معزوفة» معينة, فضلاً عن انبثاق إيقاعاته المختلفة عن «روح» واحدة تميّز ذلك المجتمع. فهذه البلدان تصطنع, في كل سياق, نوعاً من «المنظومة» الخاصة به تسهل العودة إليه, وهي تعبير عن تلك «الروح» وفقاً لطبيعة السياق. لهذا تنتشر في هذه المجتمعات عملية التوثيق في كل شيء لضرورة ذلك. وهذا تعبير عما تتسم به من ثقافة «كتابية» (بالمعنى الاصطلاحي للكلمة), على خلاف حال مجتمعاتنا التي توصف بـ«الشفاهية» والبون الشاسع بينهما كما أشار إليه والتر.ج.أونج في كتابه «الشفافية والكتابية». لذلك غياب أي فرد في تلك المجتمعات, لا يؤثر على عمل أي من منظوماته, طالما أن ثمة مرجعية مدونة تمكن العودة إليها. والسؤال الجوهري: لماذا تخلق هذه المجتمعات «منظومة» في كل سياق؟ والأهم من ذلك, هل هناك علاقة بين كل تلك «المنظومات»؟ أو بتعبير آخر, عمَّ تعبّر هذه المنظومات؟ وربما يكمن في الجواب سر تطورها.

  

خط‭ ‬التجميع‭ ‬وروح‭ ‬المجتمع‭ ‬الصناعي

 ولدراسة ما أسميناه «روح» تلك المجتمعات, وكيف تظهر في كل سياق, سنلجأ إلى مثال عملي واضح من بيئتها يساعد على فهمها، يُسمى «خط التجميع» Assembly Line، الذي أضحى سمة مميزة للمجتمعات الصناعية. وهو باختصار: «إجراء صناعي، حيث تضاف الأجزاء من محطة إلى أخرى، وهذه الأجزاء تضاف على التتالي حتى الانتهاء من صناعة المنتج». وهو أسرع طريقة للحصول على المنتج بجهد أقل مما لو كان العامل يعمل الجزء المطلوب منه على حدة. فمن المعروف أنه قبل الثورة الصناعية كانت كل المنتجات الصناعية تصنع باليد. وبعد تصنيع كل جزء على حدة، تجمع هذه الأجزاء لتشكل المنتج المطلوب. ولا يعزى هذا الإجراء لشخص محدد بعينه. وأول خط تجميع تم تطويره كان لشركة فورد الأمريكية Ford Motor Company, بدأ العمل به عام 1913, وشكّل فتحاً علمياً كبيراً في فلسفة التنظيم الصناعي, وكان له تأثير عميق على سيرورة العالم المتقدم. وقد استغرق التحضير له سبع سنوات, وبجهد عديد من الرجال المتميزين في أمريكا. وأدخله إلى شركة فورد ويليام باكلان William Paklann (أحد مهندسي الشركة). لهذا يقول آر.إيه. بوكانان مؤلف كتاب «الآلة قوة وسلطة»: «جاءت الخطوة الكبيرة التالية في مجال تطوير نظم الإنتاج الكبير مقترنة بتطبيق تقنيات خط التجميع، الذي جسدته المنشأة الضخمة لصناعة السيارات التي أنشأها هنري فورد في ديترويت في مطلع القرن العشرين». وإذا أردنا أن نفهم فلسفة هذه الفكرة من منظور واسع, ولجأنا إلى تعريف الرياضيات للرياضي والفيلسوف الفرنسي هنري بوانكاريه Henri Poincaré
(1912 - 1845) بأنها: «فن إعطاء اسم واحد لأشياء عدة مختلفة»، نجد أن «خط التجميع» هذا يمكن التعبير عنه «كمنظومة دينامية» Dynamical System منتهية من نوع خاص. والمنظومة الدينامية
– ببساطة – تتألف من مجموعة من الحالات الممكنة, مع قاعدة (قانون) تحدّد الحالة الراهنة بدلالة الحالات السابقة. لأن ناتج عمل أي شخص (عنصر) في خط التجميع يكون مدخلاً لمن يأتي بعده, ومدخلات هذا الشخص كانت مُخرجات من أتى قبله. والفكرة الكامنة وراء هذا التنظيم هي أن العامل لا يستطيع أن يتقاعس, أو يتباطأ, إطلاقاً، في عمله، لأن وظيفته (دوره) مرتبطة, على نحو عضوي, بالعامل الذي قبله, ومع الذي يليه. أي إن توجه هذه المجتمعات أضحى نحو بناء «العلاقة» التي تصوغ «الكل» من خلال حُسن استخدام الأجزاء. فتقاعس أحد مكونات خط التجميع يؤدي إلى خلل في الخط بكامله. لهذا يسهل كشف الخلل, وموضعه, مباشرة, وحتى من دون رقابة على ذلك. وبذلك أصبح المصنع يعمل كماكينة كبيرة. وهذا ربما ما أوحى بأهمية «المكننة» بمعناها الواسع, والإيجابي, في تلك المجتمعات.

  وإذا نظرنا إلى البلدان المتقدمة، نلاحظ أن مجتمعاتها تعمل كـ«خط تجميع» بالمعنى الإيجابي للكلمة,  نتيجةً لوضوح «العلاقات» المنسوجة بين مكوناتها. بغض النظر عن العاطلين عن العمل الذين يقعون خارج أي من هذه المنظومات. والبطالة في المجتمعات الصناعية ضرورة لا غنى عنها, لأن وجودها, في حد ذاته, يعد تهديداً غير مباشر لأي فرد لا يقوم بواجبه على أكمل وجه, وقبوله الاندماج الطوعي في أي من المنظومات, كي يتحول إلى جزء منها.

 

المفهوم‭ ‬البنيوي‭ ‬الرياضي‭ ‬يقود‭ ‬المجتمع

  إن تعميم هذه الفكرة (أي الانتقال من الخاص إلى العام, أو أكثر تحديداً من الصناعة إلى المجتمع) ينطوي على نوع من «التفكير البنيوي», بالمعنى الاصطلاحي الرياضي للكلمة. لأنه في الحالتين كان التركيز على «العلاقة» بين الأطراف, لا على طبيعة هذه الأطراف. لهذا تُهْمَل طبيعة عناصر السياق في «التفكير البنيوي». ومن ثم نجد أن طبيعة العلاقة بين مختلف الأطراف (طريقة صوغها) هي السبب في نجاح تلك المجتمعات. وهذا ما أضحت تنزع إليه الرياضيات الحديثة عندما استبدلت بالأبحاث الدائرة حول طبيعة الفكرة أبحاثاً حول «وظيفة», أو «دور» هذه الفكرة. وقد كانت هذه نقطة انعطاف في التفكير الرياضي الحديث, لأنها أطلقت العنان لهذا التفكير بأن يتحرر من طبيعة الأشياء (الكائنات) إلى التركيز على الوظيفة والدور, ومن ثم الانتهاء بـ«العلاقات» بين هذه الأشياء. وهذه هي الأطروحة المركزية في التفكير البنيوي. أي إن لكل مجتمع متقدم «بنية» خاصة به, تتلون وفق السياق الذي تظهر فيه. بيد أنه يصعب «القبض» عليها, لما يتطلبه الوصول إليها من قدرة كبيرة على التجريد، لأنها تتطلب نوعاً من التفكير الصوري. ولكن مع ذلك نستطيع أن نرى تجلياً لها في مناحي ذلك المجتمع. أي إن المنظومات المختلفة التي يصطنعها ذلك المجتمع هي تجل لـ«بنيته» وفق السياق الذي تظهر فيه تلك المنظومة. 

  ونلوذ بالبنيوية الرياضية في هذا المقام كونها تكشف العلاقات المستترة بين الظواهر المختلفة, فضلاً عن أنها أداة توحيد لها. أو باختصار هي طريقة للإدراك العقلي, مشبعة بالموضوعية. وقد لا نبالغ إذا قلنا إن جزءاً كبيراً من مشكلات الإنسان يعزى إلى طريقة الإدراك عنده. ومن المعروف أن مفهوم «البنية» في الرياضيات هو رحيق الفكر الرياضي، الذي استغرقت بلورته بضعة قرون، وخاصة بعد أن ظهرت ملامح التركيز على الجانب الفكري، وانحسار عمليات «الحسابات»، و«الإجراءات»، في الرياضيات الحديثة. والمفاهيم الرياضية، وفق وجهة نظر أفلاطون، كما أشرنا,  ليست اصطناعاً, بل هي هبات فطرية وطبيعية، وأبدية، وعلينا اكتشافها. لأنه يعتقد بأن موضوع الرياضيات أبدي، وغير متغير. و«البنية» في الرياضيات واحدة من ذلك. 

  وإذا قاربنا فكرة تقدم تلك المجتمعات من منظور آخر مختلف, وإن كان يبدو بعيداً عن ذلك, فإنه يمتح من المصدر نفسه (الرياضيات), وهو النقد الأدبي البنيوي, حيث يتحدث هذا النقد عن «الأدب الممكن», و«الأدب الفعلي». يقول الفيلسوف الفرنسي تزفتيان تودوروف Tzvetan Todorov
(  1939 - ) كما جاء في كتاب «النظرية الأدبية الحديثة» للكاتبين آن جفرسون وديفيد روبي: «يُنظر إلى كل عمل أدبي باعتباره مجرد تجلٍ لبنية مجردة وأكثر عمومية بكثير، وباعتباره واحداً لا أكثر من تجسيدات عدة ممكنة لها. وإلى ذلك الحد، لا يتعامل هذا العلم مع الأدب الفعلي، وإنما مع الأدب الممكن». وهذا هو عين الحالة التي نحن بصددها. فالبنية نظير «الأدب الممكن», وأي من منظومات ذلك المجتمع (بما فيها خط التجميع) نظير «الأدب الفعلي»، أي تعبير عنه. 

   وظهور «البنية» في تلك المجتمعات ليس عبثياً, أو مصادفة قادتها الأقدار, بل هو حصاد مكابدة ذهنية, ومساءلة فيزيائية (مادية) كبيرتين عانتهما تلك المجتمعات. لذلك هي تراكم نتاج ثقافي, وعلمي, وحضاري, ومجتمعي, ثم تفاعلها. وربما ثمة عناصر أخرى تؤثر في ذلك, منها العامل اللغوي إذا قبلنا «فرضية الحتمية اللغوية» Linguistic Determinism,  في اللسانيات التي أشار إليها ولهالم همبولدت وأعاد طرحها إدوار سابير. 

   يذكر أن مفهوم «المأسسة» في تلك المجتمعات هو صدىً لمفهوم «البنية» الرياضي، أو بتعبير آخر, «المأسسة» تستبطن «بنية» من نوع خاص, وتختلف هذه البنية وفقاً لطبيعة المؤسسة. والأكثر من ذلك أن هذه «المأسسة» هي سر نهوض تلك الأمم.

  ولابد من الإشارة إلى أن التقدم, في أي مجتمع, هو وليد طبيعة «البنية» التي تحكمه. وكلما كان المجتمع متقدماً كانت «بنيته» مبلورة, وأكثر وضوحاً, والأهم من ذلك أن «منظوماته» المختلفة متسقة مع تلك البنية. وهذا يرشحه لأن يكون خالياً تقريباً من كل أنواع «التناقضات المنطقية» التي تكثر في مجتمعات العالم الثالث. لذلك تأتي هذه المنظومات تعبيراً عن اختيار عقلي بامتياز, وليس اختياراً مزاجياً, وفي هذا يكمن سر استدامتها. 

  جدير بالذكر أيضاً أن هذه «البنية» تتناول «برمجيات» Software ذلك المجتمع (أي الجانب غير المرئي منه), وليس «عتاده» Hardware (الجانب المرئي منه), وذلك إذا استخدمنا استعارات حاسوبية للتفريق بين «روح» تلك المجتمعات, وبنيتها التحتية التي قد لا تختلف كثيراً عن بعض دول العالم الثالث الغنية. أي إن مفتاح التقدم هو تلك «البرمجيات»، و«العتاد» يُعد شرطاً لازماً لذلك, لكنه غير كافٍ.

  ولانزال نسمع صدى قول رفاعة الطهطاوي (أحياناً ينسب لغيره) عندما رجع من رحلته لفرنسا وسألوه ماذا رأيت, فأجاب: «رأيت إسلاماً ولم أر مسلمين»؛ لأن كل فرد فيها يؤدي واجبه الوظيفي على أكمل وجه. والحقيقة أن هذا القول, إن صح نسبه، يجانب الصواب, لأن هذا ليس له علاقة بالدين, أو بالتربية الدينية؛ بدليل أن أي تصرف, من قبل أي فرد في هذا المجتمع, خارج «خط التجميع» (بالمعنى المجازي)، الذي يتحكم بالمجتمع, نجده مباحاً, ولا ضير فيه، طالما أنه لا ينتهك «حرمة» هذا الخط. فمثلاً, العلاقات غير الشرعية لا ضير فيها, خارج المؤسسة الزوجية, على الرغم من أن الدين والقانون في تلك البلدان يحافظان على تماسك هذه المؤسسة وقدسيتها. لأن هذا يقع خارج «خطوط التجميع» لذلك المجتمع. والمسألة الأخلاقية مختلفة تماماً، فعلى الرغم من إيلائها أهمية تربوية كبيرة، فإنها تبقى من النوافل من هذا المنظور.

  وما قمنا به, في حقيقة الأمر, في تناولنا لتلك المجتمعات, هو «نسج » نوع من المنهج الموضوعاتي (نسبة إلى موضوعة Axiom ويترجمها بعضهم «بديهية»، وهذا خاطئ من وجهة نظر الرياضيات الحديثة), أو ما يسميه بعضهم المنهج الأكسيوماتيكي, للمجتمع, أو ربما لكل جزء منه على حدة. أي يتم بناء كل شيء في ذلك المجتمع على نحو موضوعاتي, وليست المقاربة المطروحة هنا ذات طابع موضوعاتي. ومن الفوائد الجمّة لذلك المنهج, في تلك المجتمعات, أنه يسهّل عملية البناء, ويكشف الخلل بسهولة, ويسهّل خضوعه للمنطق, ولا توجد معاناة في تعلّمه, وسهل إقناع الآخرين به. كما يحقق العدالة, ويضمن الاستمرار, لأنه يحمل مقومات الاستدامة. كما أن هناك ترشيداً كبيراً في الطاقة البشرية المبذولة, وسهولة دائمة في التصويب .