فتح القسطنطينية... ذكرى غالية تتكرر كل عام

فتح القسطنطينية... ذكرى غالية تتكرر كل عام

تَحل‭ ‬ذكرى‭ ‬فتح‭ ‬القسطنطينية‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬مايو‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬لتذكّرنا‭ ‬نحن‭ ‬المسلمين‭ ‬بأمجاد‭ ‬الفتوحات‭ ‬الإسلامية‭ ‬العظيمة‭ ‬التي‭ ‬تحققت‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ‭ ‬الإسلامي‭ ‬الممتد‭ ‬منذ‭ ‬ظهور‭ ‬الإسلام‭ ‬وتأسيس‭ ‬الدولة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬المنورة‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬رسولنا‭ ‬الأكرم‭ ‬محمد‭ ‬،‭ ‬مروراً‭ ‬بعصر‭ ‬الخلفاء‭ ‬الراشدين‭ ‬الذي‭ ‬بدأت‭ ‬فيه‭ ‬حركة‭ ‬الفتوحات‭ ‬الإسلامية‭ ‬العظيمة،‭ ‬ثم‭ ‬العصر‭ ‬الأموي،‭ ‬وفيه‭ ‬استكملت‭ ‬الجيوش‭ ‬العربية‭ ‬الفتوحات‭ ‬حتى‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬حدود‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الصينية‭ ‬شرقاً،‭ ‬وبلاد‭ ‬الأندلس‭ ‬غرباً،‭ ‬ثم‭ ‬جاء‭ ‬دور‭ ‬الأتراك‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬لاحقة‭ ‬زمن‭ ‬الخلافة‭ ‬العباسية‭ ‬ليستكملوا‭ ‬حركة‭ ‬الفتوحات‭ ‬الإسلامية‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬آسيا‭ ‬الصغرى‭ (‬الأناضول‭) ‬الكتلة‭ ‬الرئيسة‭ ‬للإمبراطورية‭ ‬البيزنطية،‭ ‬أو‭ ‬بلاد‭ ‬الروم‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يطلق‭ ‬عليها‭ ‬زمن‭ ‬الفتوحات‭ ‬الأولى،‭ ‬حيث‭ ‬تغلبوا‭ ‬على‭ ‬الدولة‭ ‬البيزنطية‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬ملاذ‭ ‬كرد‭ ‬الحاسمة‭ ‬سنة 1071م‭.‬

فتح هذا النصر الباب أمام الأتراك المسلمين للتوطن في بلاد الأناضول بأعداد كبيرة، واستمرت هجرات القبائل التركية لهذه البلاد مئات السنين عقب معركة ملاذ كرد، وقد أعقب هذه المعركة تأسيس أول دولة إسلامية كبرى في عُقر دار الإمبراطورية البيزنطية، وهي دولة سلاجقة الروم أو سلاجقة الأناضول، كما تُعرف عند الأتراك، وكان ذلك من أعظم إنجازات السلطان السلجوقي ملكشاه سلطان السلاجقة الكبار.   

 ومنذ ذلك التاريخ بدأت صفحة ناصعة من صفحات الجهاد والفتوحات الإسلامية، حيث لم تتوقف الفتوحات داخل أملاك الدولة البيزنطية زمن سلاجقة الروم، وأيضاً زمن الدولة العثمانية التي حَلَّتْ محل دولة السلاجقة في الأناضول، ثم واصلت الجهاد والفتوحات داخل بلاد الروم وخارجها في البلقان وأوربا حتى وصلت جيوشها إلى أبواب فيينا، واستطاعت الدولة العثمانية في النهاية تحقيق حلم المسلمين الذي ظل يراودهم أكثر من ثمانية قرون ونصف القرن، وتم فتح القسطنطينية على يد السلطان العثماني الشاب محمد الثاني بن السلطان مراد الثاني مساء يوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى سنة 857هـ/ 29 مايو سنة 1453م، ولُقّب نتيجة هذا الفتح العظيم بلقب محمد الفاتح، وكان شاباً يبلغ من العمر 21 عاماً فقط عندما حقق هذا الإنجاز الكبير.  

 والقسطنطينية من المدن القليلة التي أدت دوراً مؤثراً ومهماً في سير الحوادث التاريخية التي مر بها العالم، سواء في العصور الوسطى أو العصر الحديث، وتُشير المصادر التاريخية إلى أن هذه المدينة العريقة أُسست للمرة الأولى سنة 658 قبل الميلاد على يد بعض البحارة المغامرين الذين وفدوا إلى هذه المنطقة المطلة على البوسفور من ميجارا، ونسبت المدينة إلى قائد هذه المجموعة، وكان يُدعى بيزاس وعُرفت المدينة باسم «بيزانطيوم» أي بيزنطة، وكان سكان بيزنطة الأوائل من أصول هندية أوربية من القسم الشرقي من شبه جزيرة البلقان. وفي عام 324م حاصر الإمبراطور الروماني قسطنطين العظيم (الأول) بيزنطة واستولى عليها عام 325م، وفي العام نفسه شرع في تعمير وإعادة إنشاء هذه المدينة لاتخاذها مقراً وعاصمة لحكمه، واستمرت عمليات الإنشاء والبناء خمس سنوات، وافتتحت المدينة في احتفال مهيب أقيم في 11 مايو سنة 330م، وكان على رأس الحضور الإمبراطور قسطنطين الذي أطلق على المدينة اسم «روما الجديدة»، وبعد وفاته وتخليداً له أطلق سكان المدينة اسمه عليها وأصبحت تعرف باسم قسطنطينوبوليس، أي مدينة قسطنطين. وقد عَلَقْ هذا الاسم بهذه المدينة العريقة طوال العصور اللاحقة، وعُرفتْ به أيضاً المدينة عند العرب المسلمين، وانتقل الاسم برسمه العربي «القسطنطينية» إلى الأتراك والفرس وبقية المسلمين، وبعد وفاة الإمبراطور ثيودوسيوس العظيم سنة 395م صارت القسطنطينية عاصمة للإمبراطورية الرومانية الشرقية أو  البيزنطية، واستمرت تؤدي هذا الدور طوال عصر الإمبراطورية البيزنطية حتى سقوطها في 29 مايو سنة 1453م على يد الأتراك العثمانيين الذين اتخذوها عاصمة جديدة لهم، وبهذا تكون هذه المدينة العظيمة قد قامت بدور العاصمة لاثنتين من الدول الكبرى في التاريخ؛ الإمبراطورية البيزنطية طوال 1123 عاماً تقريباً، والدولة العثمانية طوال 470 سنة حتى سقوطها سنة 1923م.

 

موقع‭ ‬فريد

تحتل مدينة القسطنطينية موقعاً جغرافياً فريداً وممتازاً في العالم قلما توافر لمدينة أخرى، حيث إنها أقيمت فوق منطقة حيوية تُشْرف على مضيق البوسفور (البوغاز) الفاصل بين قارتي أوربا وآسيا، وتأخذ شكل مثلث تُحيط به المياه من ثلاث جهات، وهي بذلك عبارة عن شبه جزيرة، حيث يوجد في شمالها خليج القرن الذهبي، وفي شرقها يقع مضيق البوسفور، أما في الجنوب فيوجد بحر مرمرة، والجهة الوحيدة المتصلة باليابسة هي الجهة الغربية، وبهذا الموقع الفريد تتحكم القسطنطينية في مضيق البوسفور، وكـــــذلك بها ميناء طبيعــــي داخلــــــي، ونعني به ميناء الــــقرن الذهبي، وكان هذا الموقع يوفر للقسطنطينية الحماية الطبيعية، وكانت المدينة تتكون من سبعة تلال مرتفعة، شُيّد بها أهم العمائر والمنشآت خلال العصر البيزنطي، وكذلك العصر العثماني بعد الفتح.  

يذكــــر أن مدينة القسطنطينية تعرضت عبر تاريخها الطويل للحصار تسعاً وعشرين مرة، وسقطت في أيدي الغزاة سبع مرات، وكانت في كل مرة تعود إلى ملك القياصرة، إلى أن سقطـــت في المرة الثـــــامنة والأخيــــرة في يد القوات التركيــــة العــــثمــــانــــية سنة 1453م كما أسلفنا، وخرجــــت لأول مــــرة من تحــــت الحــــكم المسيحي إلى الحكم الإسلامي بصفة نهائية.   

 

مسلسل‭ ‬حملات‭ ‬فتح‭ ‬المدينة

 أما إذا تحدثنا عن محاولات المسلمين فتح القسطنطينية، فالواقع أنها تعود إلى فترة مبكرة من تاريخ قيام الدولة الإسلامية، حيث حاول العرب منذ الفتوحات الإسلامية المبكرة إسقاط الإمبراطورية البيزنطية (بلاد الروم) عن طريق إسقاط عاصمتها القسطنطينية،  وتكررت محاولاتهم، بدءاً من عهد الخلفاء الراشدين ومروراً بالعصر الأموي، لكن الحظ لم يحالفهم في كل هذه المحاولات، وكانت أولى هذه المحاولات العربية سنة 32هـ/653م في عهد الخليفة عثمان بن عفان  الذي أرسل جيشاً لفتحها بقيادة معاوية بن أبي سفيان عامله على بلاد الشام، وقد فشلت هذه الحملة بسبب تحصينات المدينة، ثم تواصلت محاولات الدولة الإسلامية بهدف فتح القسطنطينية وإسقاط الدولة البيزنطية، وأخذت بُعداً جديداً عقب قيام الدولة الأموية، حيث اتجه معاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة الأموية إلى استكمال حركة الفتوحات الإسلامية، بعد أن صار خليفة للمسلمين ووطَدْ دعائم حكمه، ولهذا أعد معاوية جيشاً كبيراً ضم بعض الصحابة أمثال عبدالله بن عمر، وعبدالله بن الزبير، وعبدالله بن العباس، وأبي أيوب الأنصاري (خالد بن زيد) ، وجعل معاوية قيادة هذه الحملة الكبيرة لابنه يزيد، وكان شاباً صغيراً لا يتجاوز عمره ثمانية عشر عاماً، وبالفعل خرج هذا الجيش في صيف عام 49هـ/669م، وتوغل داخل آسيا الصغرى واستولى على البلاد والمدن التي مر بها حتى وصل أخيراً إلى القسطنطينية التي ضرب حولها الحصار، واستمر الحصار والقتال عاماً كاملاً، وعلى الرغم من ذلك فقد فشلت هذه الحملة ولم تستطع فتح المدينة العتيدة، وذلك بسبب قوة تحصينات وأسوار القسطنطينية، واستبسال أهلها في الدفاع عنها، وأخيراً بسبب برودة الطقس الشديدة، وقد استشهد نحو 30 ألفاً من المسلمين، وكان من بينهم الصحابي الجليل أبوأيوب الأنصاري الذي دُفن خارج أسوار القسطنطينية. وفي عهد الخليفة الأموي سليمان بن عبدالملك، كُررت المحاولة الكبرى الثانية في عهد الأمويين لفتح المدينة، وكانت الدولة في أوج مجدها وقوتها العسكرية، وعلى الطرف الآخر كانت الإمبراطورية البيزنطية تعاني الضعف والانحلال، ورأى الخليفة الأموي أن يستغل هذه الظروف، وحشد بالفعل جيشاً كبيراً في البر والبحر فاق عدده مائة ألف جندي، وقدرته بعض المصادر بمائة وثمانين ألفا، وهي بذلك تعتبر أكبر حملة عسكرية عربية إسلامية تم تجهيزها حتى هذه الفترة من تاريخ الدولة الإسلامية، وجعل قيادة هذه الحملة لأخيه مسلمة بن عبدالملك، وسارت القوات الإسلامية في أوائل عام 98هـ/716م واخترقت هضاب الأناضول إلى أن وصلت إلى القسطنطينية، وفرضت عليها الحصار الشديد من البر والبحر، وعلى الرغم من كثرة عدد أفراد هذه الحملة العسكرية الضخمة وكثرة عدد السفن المشاركة في الحصار البحري، فإنها فشلت في اقتحام القسطنطينية، وكان ذلك راجعاً إلى قوة أسوار وأبراج وتحصينات المدينة، واستبسال الجنود البيزنطيين في الدفاع عنها، وبسبب الشتاء القارص وسقوط الجليد.

ويعزى الفشل أيضاً إلى كرات النار الإغريقية (كرات مشتعلة تسير فوق سطح الماء إلى أن تصل إلى سفن المسلمين، وقد أشعلت أكثرها)، التي كان لها تأثير كبير في حروب البيزنطيين البحرية خلال هذه المرحلة، ويضاف إلى الأسباب السابقة أسباب طبيعية وهي أن مدينة القسطنطينية لها موقع استراتيجي طبيعي ومحصن قلما توافر لمدينة أخرى، حيث إنها مُشيَّدة في موقع يطل على مضيق البوسفور عند التقاء قارتي آسيا وأوربا على شكل مثلث، وتحيط بها مياه بحر مرمرة والبوسفور وخليج القرن الذهبي من ثلاث جهات، أما الجهة الرابعة المتصلة باليابسة فكانت جنوب المدينة وتصلها بمدينة أدرنه (أدرنه بوليس)، وبعبارة أخرى فإن هذه المدينة التي تشبه شبه جزيرة أصبح حصارها بشكل تام أمراً غاية في الصعوبة، وأخيراً وبعد حصار طويل للقسطنطينية فشلت هذه الحملة، وتوفي الخليفة سليمان بن عبدالملك في شهر صفر سنة 99هـ717م أثناء فترة الحصار، ولم يجد الخليفة الأموي الجديد عمر بن عبدالعزيز بداً من رفع الحصار عن القسطنطينية، وأمر بعودة الجيش الإسلامي، وذلك في شهر المحرم سنة 100هـ/أغسطس 718م، وبهذا الشكل انتهت أكبر محاولة إسلامية في عهد الدولة الأموية لفتح القسطنطينية.   

 وخلال العصر العباسي قام العباسيون بمحاولتين لفتح المدينة، غير أن محاولتيهم لم تكونا بضخامة حملة سليمان بن عبدالملك وانتهتا أيضاً بالفشل، وكانت أولى المحاولتين في زمن خلافة المهدي، حيث أرسل حملة عسكرية سنة 165هـ/780م بقيادة ابنه هارون الرشيد لغزو الدولة البيزنطية، وبلغ عدد أفراد هذه الحملة حوالي 96 ألف جندي، وأنفق عليها الخليفة المهدي كثيراً من الأموال لتحقيق أهدافها، وبالفعل وصلت الحملة إلى مياه البوسفور وخليج القرن الذهبي، وحاصرت المدينة التي استبسل جنودها في الدفاع عنها ومات منهم الآلاف، وتم أسر عدة آلاف كذلك، وفي النهاية عقدت اتفاقية بين العباسيين والبيزنطيين، تم بموجبها فك الحصار عن القسطنطينية، على أن تدفع الدولة البيزنطية سنوياً 90 ألف دينار على مرتين. أما الحملة العباسية الثانية فكانت بقيادة هارون الرشيد أيضاً لكن بعد أن تولى خلافة المسلمين، حيث أعد حملة عسكرية كبيرة لغزو الدولة البيزنطية وتأديب قيصرها نقفور، وبالفعل خرج هارون في عام 190هـ/805م  على رأس هذه الحملة الكبيرة التي بلغ عدد أفرادها 135 ألف جندي وبعد أن توغل الجيش الإسلامي داخل آسيا الصغرى، خشي الإمبراطور على نفسه ودولته وأرسل في طلب الصلح مع الخليفة هارون الرشيد وأرسل له 50 ألف دينار، ووافق هارون الرشيد على مقترح نقفور، بعد أن زاد في قيمة الجزية السنوية عن ذي قبل، فأصبحت 300 ألف دينار، وبذلك عادت الجيوش الإسلامية العربية التي اقتربت للمرة الأخيرة خلال العصر العباسي من القسطنطينية ولم تفتحها. ومع ظهور الأتراك السلاجقة على مسرح الأحداث في العصر العباسي الثاني بدأت صفحة جديدة في تاريخ الصراع الإسلامي - البيزنطي، وسبق أن أشرنا إلى معركة ملاذ كرد، وقيام السلاجقة بإنشاء أول دولة إسلامية تركية داخل أراضي الدولة البيزنطية نفسها، وهي دولة سلاجقة الروم التي اتخذت من مدينة قونية عاصمة لها، وكان لهذه الدولة التركية أمجاد عسكرية كثيرة، حيث خاضت مراحل مهمة في الصراع الإسلامي -البيزنطي في بلاد الأناضول، ثم سقطت هذه الدولة وأعقبها قيام دولة تركية أخرى عظيمة في بلاد الأناضول، ونعني بها الدولة العثمانية التي حملت الراية بعد سلاجقة الأناضول في الدفاع عن الإسلام ونشره في هذه الأراضي الشاسعة، وأيضاً نشره خارج الأناضول في البلقان ووسط وشرق أوربا، وكان من أهم إنجازاتها وأمجادها العسكرية على الإطلاق فتح مدينة القسطنطينية واتخاذها عاصمة للدولة العثمانية حتى سقوطها في الربع الأول من القرن العشرين.   

 

‭ ‬الفتح‭ ‬العثماني‭ ‬للقسطنطينية‭  

 مع ظهور الأتراك العثمانيين وقيام دولتهم في شمال غرب الأناضول سنة 1299م بدأت صفحة جديدة من الصراع الإسلامي - البيزنطي حمل رايته خلال هذه المرحلة شعب إسلامي مجاهد نجح في استكمال مسيرة الفتوحات الإسلامية التي توقفت فترات طويلة، ونعني به الأتراك المسلمين الذين خاضوا غمار الحروب والفتوحات داخل أراضي الدولة البيزنطية نفسها، ومع مرور الزمن توسع العثمانيون في آسيا الصغرى على حساب البيزنطيين، وفي الحقيقة فقد اتجهت أنظار العثمانيين إلى القسطنطينية منذ تأسيس دولتهم حتى إن مؤسس الدولة عثمان غازي كان قد أوصى أولاده قبل وفاته بضرورة فتح القسطنطينية، ولم تكن إمكانات الدولة تسمح حينها بتحقيق هذا الهدف الكبير، كذلك كانت وصية السلطان مراد الثاني لابنه الأمير محمد بضرورة فتح القسطنطينية، وهذا الأمر يُشير بوضوح إلى رؤية السلاطين العثمانيين الأوائل وإدراكهم أهمية القسطنطينية وضرورة فتحها وتحطيم الإمبراطورية البيزنطية.  وكانت أولى محاولات العثمانيين لفتح القسطنطينية على يد السلطان العثماني يلدريم بايزيد (الأول) الذي حاصرها سنة 1391م وشيَّد قلعة آناضولي على الطرف الآسيوي المقابل للمدينة، بهدف إحكام الحصار عليها وقطع الإمدادات القادمة من الغرب، غير أن هذه المحاولة باءت بالفشل، وعاد السلطان بايزيد مرة أخرى في العام التالي، وحاصر المدينة للمرة الثانية وأحكم حصاره عليها هذه المرة، لكنه اضطر إلى فك الحصار بسبب خطر تيمورلنك الذي كان قد اقترب من حدود الدولة العثمانية، وانتهت حياة هذا السلطان المجاهد في الأسر لدى تيمورلنك، بعد أن انتصرت جيوشه على الجيوش العثمانية في معركة أنقرة سنة 1402م، وكان بايزيد يلقب بيلدريم، أي الصاعقة، بسبب خفة حركته خلال حملاته العسكرية الكثيرة.  وحاصر الأمير موسى جلبي بن بايزيد الأول القسطنطينية مرة أخرى، لكنه لم يوفق في فتحها، وفي عهد السلطان مراد الثاني بن محمد شلبي تم حصار القسطنطينية للمرة الثالثة سنة 1422م، وعلى الرغم من تحمس هذا السلطان وتشديده الحصار على المدينة فإن هذه المحاولة باءت أيضاً بالفشل، ويبدو أن القدر كان قد أرجأ هذه المهمة العظيمة لابنه الشاب السلطان محمد الثاني.

 

‭ ‬الفاتح‭ ‬والفتح‭  

 على الرغم من محاولات السلاطين العثمانيين المتكررة والفاشلة لفتح القسطنطينية فإن هذا الفشل لم يؤثر في عضد وعزيمة السلطان العثماني الجديد الذي تولى السلطنة العثمانية عقب وفاة والده السلطان مراد الثاني سنة 1451م، وكان محمد الثاني على دراية واسعة وعلم غزير ومعرفة بتاريخ المسلمين وفتوحاتهم، وكان أيضاً يجيد لغات عدة منها العربية والفارسية واليونانية واللاتينية، وكان والده مراد الثاني يَعدُّه باهتمام لخلافته. وتذكر بعض المصادر العثمانية أن مراد الثاني كان قد ترك قبيل وفاته وصية لابنه محمد الثاني يحثه فيها على فتح القسطنطينية، بالإضافة إلى أن فتح المدينة كان بالنسبة إلى الدولة العثمانية في هذا التوقيت ذا أهمية استراتيجية قصوى، لاسيما بعد فتوحات العثمانيين في منطقة آسيا الصغرى والبلقان، فكان لابد لهم من الاستيلاء على هذه المدينة لتأمين السيطرة على مضيق البوسفور، حتى تتحرك قواتهم بسهولة وأمان عبر المضيقين المهمين في آسيا الصغرى وهما البوسفور والدردنيل.   

 ومنذ اليوم الأول في سلطنة محمد الثاني وهو يعمل على تحقيق هدف أجداده وهدف المسلمين المهم، وهو فتح القسطنطينية وتحطيم الدولة البيزنطية نهائياً، وكان على علم ودراية بكل المحاولات التي جرت من قبله لفتح هذه المدينة، سواء في العصر العثماني أو المحاولات الإسلامية السابقة، وشرع السلطان الشاب في تجهيز حملة عسكرية ضخمة سخر لها كل طاقات وإمكانات الدولة العثمانية في هذه الفترة، وكانت جيوشاً جرارة لم تشهدها منطقة الأناضول من قبل، واستعان بالوسائل الحربية الحديثة، لاسيما المدافع العملاقة، وكانت هي السلاح العثماني الفتاك في تلك الفترة، واهتم السلطان محمد الثاني أيضاً بالأسطول العثماني، وبعد الانتهاء من هذه الاستعدادات الضخمة زحف بقواته من مقر حكمه في مدينة أَدرنة نحو القسطنطينية التي وصل إليها وفرض عليها حصاراً قاسياً وصارماً من البحر والبر، استمر 53 يوماً من شهر فبراير حتى أواخر مايو 1453م حتى سقطت المدينة في يده، وقام محمد الثاني خلال فترة الحصار بتشييد قلعة في الطرف الأوربي من القسطنطينية، وهي روملي حصار وتقابل قلعة آناضولي حصار التي شيدها جده بايزيد الأول (يلدريم) التي أشرنا إليها من قبل، ولاتزال هذه القلعة قائمة حتى الآن، واستطاع السلطان العثماني عن طريق هاتين القلعتين إحكام السيطرة على مضيق البوسفور وغلقه أمام السفن الأوربية التي كانت ترغب في تقديم العون للقسطنطينية المحاصرة، وعُرفت قلعة الفاتح حينها باسم «بوغاز كَسَنْ» أي قاطعة البوغاز، بسبب إحكامها الحصار على مضيق البوسفور.   

 وفي الحقيقة فقد كان حصار القسطنطينية واستمرار القتال فترة طويلة وأيضاً دك أسوارها الشاهقة والحصينة بمنزلة ملحمة عسكرية يفخر بها المسلمون على مر الأزمان، وبعد قتال شرس من البر والبحر أبلت خلاله القوات العثمانية بلاء حسناً، انهارت أسوار ودفاعات مدينة القسطنطينية، وسقطت أخيراً في يد القوات التركية العثمانية الإسلامية مساء يوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى سنة 857هـ الموافق 29 مايو 1453م، وتحقق في النهاية حلم المسلمين الذي ظل يراودهم قروناً طويلة منذ تأسيس الدولة الإسلامية، وبعد ثلاثة أيام من الفتح صلى السلطان محمد الفاتح أول صلاة جمعة في كاتدرائية المدينة الرئيسة آيا صوفياً، وأمر بتحويلها إلى جامع، ولم يقم بهدم أو عمل أي تعديلات معمارية بها، فقط أمر بإضافة مئذنة لغرض الأذان وتمت تغطية الرسومات التي كانت تملأ الأسقف والجدران العلوية بالكاتدرائية.   

 ومن المصادفات العجيبة أن الإمبراطور البيزنطي الأخير الذي لقي مصرعه خلال الحصار والفتح كان يحمل اسم قسطنطين أيضاً وهو قسطنطين (الحادي عشر) باليالوغ، وأيضاً سقطت المدينة في 29 مايو، أي في الشهر نفسه الذي افتتحت فيه سنة 330م كما ذكرنا من قبل، ولقب السلطان محمد الثاني، بعد أن حقق هذا الإنجاز الكبير بلقب «الفاتح»، وهو الوحيد بين سلاطين آل عثمان الذي يحمل هذا اللقب، وقد ظل لقب الفاتح مرتبطاً به طوال حياته، ويعتز الأتراك حتى الآن بذكرى فتح القسطنطينية، وأن هذا الفتح كان من نصيب أحد سلاطينهم الذي حقق البشارة النبوية الكريمة «لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش»، ولايزال هذا الحديث أو المقولة النبوية معلقة على أسوار القسطنطينية (اسطنبول) حتى الآن، ويُعتبر فتح القسطنطينية كما هو معروف نهاية للعصور الوسطى وبداية للعصور الحديثة، وكان لهذا الفتح العظيم تأثيره الكبير على مجرى التاريخ العالمي، وإذا كان الفتح العثماني الإسلامي للقسطنطينية تحقيق حلم وغاية عظيمة للمسلمين، فقد كان كارثة وفاجعة كبرى حلَتْ بالعالم الغربي المسيحي. وعقب الفتح مباشرة أرسل السلطان محمد الفاتح وفوداً ورسلاً من قِبله إلى الدول والممالك الإسلامية يبشرها بهذا الفتح العظيم، ووصلت هذه الرسل والوفود بالفعل إلى مصر المملوكية وإيران والهند، وقد وصل وفد القاهرة في 23 شوال سنة 857هـ/1453م، وكان يحمل رسالة لسلطان مصر المملوكي الجركسي السلطان الأشرف إينال وتُعرف بـ«فتح نامه» تخبر السلطان المملوكي بنبأ الفتح وتفاصيل حصار القسطنطينية وفتحها، وأيضاً تهنئة السلطان محمد الفاتح للسلطان الأشرف إينال العلائي بمناسبة جلوسه على عرش السلطنة المملوكية، وكانت الدولة المملوكية حينها أكبر دولة إسلامية وبها مقر الخلافة العباسية، وتُشرف على الأماكن المقدسة في بلاد الحجاز وبلاد الشام، وكان الوفد العثماني أيضاً يحمل هدايا قيمة من السلطان العثماني وعدداً من أسرى الروم، وقد أمر السلطان المملوكي بتزيين القاهرة عاصمة ملكه سبعة أيام ابتهاجاً بهذا النصر الكبير، وفي المقابل أرسل سلطان المماليك وفداً إلى القسطنطينية لتهنئة السلطان محمد الفاتح. 

 وبعد أيام عدة من فتح القسطنطينية شرع السلطان محمد الفاتح في تعمير المدينة لكي يتخذها عاصمة له، وأرسل عماله على الأقاليم العثمانية في الأناضول لإرسال أصحاب الحرف والفنون والبناء إلى القسطنطينية من أجل تعميرها وإعادة ما دمره الحصار،  وبدأ السلطان مشروعاً معمارياً ضخماً لبناء وتعمير المدينة لتكون عاصمته الجديدة، واستمر هذا المشروع عشر سنوات بعد الفتح، تم خلالها بناء عشرات العمائر الإسلامية على الطراز العثماني، وقد تحقق في النهاية للفاتح ما أراد، فخلال هذه المدة تغير وجه القسطنطينية الحضاري والفني من وجه مسيحي هيليني بيزنطي إلى وجه إسلامي، وامتلأت المدينة بمختلف أنواع العمائر التركية الإسلامية من جوامع ومدارس وأسبلة وحمَّامات وأضرحة وتكايا وبيوت وقصور، وقد شُيّدت كل هذه العمائر وفق أساليب وطُرز معمارية وفنية تركية إسلامية، وكان أول عمل معماري يفكر السلطان محمد الفاتح فيه عقب الفتح مباشرة هو تحديد قبر الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري (خالد بن زيد) الذي استشهد أمام أسوار القسطنطينية في حملة معاوية بن أبي سفيان المُشار إليها من قبل، وتحـــدث مع شيوخه وتوصلوا حسب بعض الروايات العثمانية إلى تحديد قبر الصحابي الجليل، وقام الفاتح بإنشاء أول جامع له وضريح في اسطنبول بعد الفتح لهذا الصحابي الجليل تقديراً واجلالاً له.

وخلال العصر العثماني الطويل عُرفتْ القسطنطينية بعدة أسماء مثل الآستانة، ودار السعادة، والباب العالي، والقسطنطينية المحروسة، واسطنبول، وإسلام بول.

 والخلاصة أن فتح مديــنة القسطنطينية كان حدثاً عظيماً في تاريخـــنا الإسلامي يستحق أن نفخر به على الدوام ونحن نمر بذكرى هذا الفتح، وندعو بالرحمة والمغفرة للسلطان محمد الفاتح الذي حقق هذا الفتح المبين بعد مرور أكثر من ثمانية قرون ونصف القرن على قيام الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة .

كنيسة‭ ‬وجامع‭ ‬آيا‭ ‬صوفيا

باب‭ ‬رومانوس،‭ ‬أحد‭ ‬أبواب‭ ‬القسطنطينية

جزء‭ ‬من‭ ‬أسوار‭ ‬القسطنطينية

السلطان‭ ‬محمد‭ ‬الفاتح

قلعة‭ ‬روملي‭ ‬حصار‭ ‬التي‭ ‬شيدها‭ ‬الفاتح‭ ‬أثناء‭ ‬حصار‭ ‬القسطنطينية

جزء‭ ‬من‭ ‬سور‭ ‬القسطنطينية