حلب... مدينة عتيقة وحضارات عريقة.... وصراعات لا تنتهي

حلب...  مدينة عتيقة وحضارات عريقة....  وصراعات لا تنتهي

هذا‭ ‬المقال‭ ‬هو‭ ‬حكاية‭ ‬حياة‭ ‬مستمرة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬توقف‭ ‬عبر‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬خمسة‭ ‬آلاف‭ ‬عام‭ ‬خلت‭ ‬وحتى‭ ‬اليوم،‭ ‬في‭ ‬بقعة‭ ‬من‭ ‬الأرض‭ ‬اجتذبت‭ ‬عديداً‭ ‬من‭ ‬الشعوب‭ ‬والأقوام‭.‬

حلب‭... ‬تاريخ‭ ‬الإنسانية‭ ‬بدءاً‭ ‬من‭ ‬مرحلـة‭ ‬الــكــهـوف‭ ‬مروراً‭ ‬بخمسة‭ ‬آلاف‭ ‬عام‭ ‬تتابعت‭ ‬فيها‭ ‬الحضارات‭ ‬القديمة،‭ ‬وعاصرت‭ ‬حلب‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬حضارات‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬تأثير‭ ‬حافل‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬البشرية،‭ ‬وفي‭ ‬بداية‭ ‬نشأة‭ ‬النور‭ ‬الحضاري‭ ‬للإنسانية،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬الخاتمة‭ ‬بالحضارة‭ ‬الإسلامية‭.‬

لقد كانت حلب في أغلب مراحل تاريخها الطويل ذات أهمية حضارية كبيرة، ومنذ نشأة المدينة قبل أكثر من خمسة آلاف عام وحتى الآن، فإن الحياة فيها لم تتوقف أبداً، وآثار تلك المراحل الماضية باقية للآن، منها ما هو مطمور تحت الأرض ومنها ما هو ظاهر للعيان لايزال ينبض بالحياة (حتى 2010م) رغم مرور السنين عليه.

طمعت في حلب أغلب الحضارات التي عاصرتها، فجاءت إليها كمحتل، وأحياناً كمستعمر، أو كمدمر، وكانت حلب دائماً تضمد جراحها بسرعة، وكان القادمون إليها إما أن يعودوا من حيث أتوا، تاركين بصماتهم في حلب، وإما أن يبقوا وينصهروا في حضارتها ذات التاريخ الحافل.

وكانت حلب بحكم موقعها، في كثير من الأحيان جزءاً من مساحات الصراع التي تنشأ عند تقاطع الدول القوية والقوى المتناحرة، كالأكاديين والفرس، والآشوريين، والبابليين، والمغول، وغيرهم من الشرق، واليونان والرومان، والبيزنطيين، والصليبيين، وغيرهم من الغرب، ودول من الشمال وغيرها من الجنوب، لذا فإن حلب كانت عرضة للدمار والخراب في كثير من الأحيان، لقد دمرت بقسوة أكثر من عشر مرات في تاريخها، دمرها الأكاديون ثم الحثيون أكثر من مرة، ودمرها الفرس أيضاً أكثر من مرة أثناء صراعهم مع اليونان ثم مع البيزنطيين، والذين دمروها أيضاً أكثر من مرة أثناء صراعهم مع المسلمين، وكذلك المغول أكثر من مرة، ودمرتها الزلازل أكثر من مرة، لذلك يمكن القول إن مشاهد الخراب والقتل والسبي والنهب كانت جزءاً أساسياً من تاريخ حلب الطويل، وفي المقابل كان لدى سكان حلب وبشكل متكرر إصرار على إعادة البناء الحضاري من جديد، وعلى سبيل المثال، فإن حلب كانت مركزاً قيادياً مهماً للحرب ضد المغول والتتر، ثم ضد الصليبيين، والمدهش أن كثيراً من مراحل التدمير العنيفة كانت تليها مراحل بناء حضارية قوية.

 

مدينة‭ ‬تاريخ‭ ‬الحضارات

وبقيت حلب للآن مدينة تاريخ الحضارات، لأن أغلب الحضارات أسهمت فيها، وأهلها هم أبناء كل تلك الحضارات المختلفة مصهورة في بوتقة واحدة اسمها حلب... مدينة كل الناس في العالم، لأنها عاشت تاريخ البشرية منذ البداية.خمسة آلاف عام والحياة مستمرة في حلب من دون توقف، ويعود ذلك للتنوع المناخي والجغرافي، وكون المدينة عقدة مواصلات طبيعية. وتحظى بحماية طبيعية «تلال ونهر»، وتوافر الماء «نهر قويق»، ووجود المدينة في منطقة الهلال الخصيب الغنية بالزراعة تاريخياً، وبسبب البيئة الزراعية، التجارية، والصناعية وطبيعة الأرض والموقع على طريق الحرير، وهو من أكثر الطرق شهرة تاريخياً وعالمياً، فحلب مدينة دينية رئيسة واستمر ذلك آلاف السنين.

 

الثقافة

مع نشأة مدينة حلب منذ خمسة آلاف عام كانت الثقافات السامية تنتشر في المجتمع.

العصر‭ ‬الأموري‭:‬ كانت حلب حينها مدينة مزدهرة حضارياً وتتفاعل بقوة مع الحضارات الأخرى في الفكر والفن، وكان ذلك نتيجة لاستقرار الأموريين ومعرفتهم للكتابة والمعادن وتأسيسهم لمدن فيها قانون وملوك ومجلس شيوخ وقصر ومعبد، ومن أهمها حلب التي كانت عاصمة لمملكة يمحاض، ولها قوتها التجارية وعلاقاتها الدولية وكيانها السياسي القوي.

العصر‭ ‬الحثي‭:‬ ارتسمت على الثقافة ملامح وتأثيرات حثية كبيرة.

العصر‭ ‬اليوناني‭:‬ حافظ الإسكندر المقدوني على ثقافات البلاد التي احتلها ليمزجها مع الثقافة اليونانية للحصول على مزيج ثقافي جديد يحمل حداثة الحاضر وعراقة الماضي وتراث تلك البلاد المحتلة، وهذا ما فعله اليونانيون في حلب حين قدموا إليها، فامتزجت الثقافة اليونانية بشكل ما مع الثقافة المحلية العريقة، وأنتجت ما سمي بالثقافة الهلنستية، وكانت حلب مثالاً جيداً لهذه الثقافة وإن لم تكن مؤثراً قوياً فيها. لقد أثرت الثقافة الهلنستية في حلب، وسورية، واستمر تأثيرها حتى بدايات الإسلام وأبعد من ذلك.

العصر‭ ‬الروماني‭:‬ استمر تأثير الثقافة الهلنستية والثقافة السامية القديمة، وازدهرت الثقافة بشكل عام.

العصر‭ ‬البيزنطي‭:‬ مع إشعاع الفكر المسيحي الجديد، وانتشار الرهبنة وظهور المذاهب بصراعاتها، واستمرار تأثير التراث الإغريقي والروماني والاستفادة مجدداً من كثير من التراث الثقافي القديم لحلب، تفاعلت كل تلك المؤثرات وكوَّنت شخصية ثقافية جديدة وقوية تعتز بمحليتها وتراثها، وكان أحد أوجه ذلك التطور أن صارت حلب مركز أسقفية (المدرسة الحلوية).

 

اللغة

كانت اللغات السامية هي المنتشرة في حلب منذ نشأتها وعبر تاريخها الطويل، ومع مجيء الآراميين انتشرت اللغة الآرامية وهي من اللغات السامية، وتزامن ذلك مع انتشار الأبجدية الفينيقية، وكان الآراميون أول من استخدمها,  وكانت اللغة اليونانية تستخدم بشكل محدود، إضافة للغة الآرامية.

استبدل باللغة اليونانية، المحدودة الانتشار أصلاً، مزيج من اللغتين الآرامية واليونانية فكانت اللغة السريانية، وكان سبب هذا الاستبدال وجود حالة فكرية ثقافية جديدة تولدت بتأثير من إشعاع الديانة المسيحية الجديدة، وحتى الآن يوجد في حلب فئة تتكلم اللغة السريانية، وحي اسمه حي السريان.

العصر‭ ‬الإسلامي‭:‬ جاء المسلمون بالقرآن الكريم بلغته العربية، وهي لغة سامية الأصل، لذلك لم تجد اللغة الآرامية المحلية السامية الأصل أيضاً أي صعوبة في التوافق معها، وحتى الآن فإن اللغة العربية هي اللغة الرئيسة والقوية والرسمية والشعبية للبلاد، إنها لغة القرآن الكريم، الكتاب الذي يوصف لدى علماء اللغة بأن اللغة إحدى معجزاته، أما اللغة السريانية فقد تلاشت خلال قرن بعد مجيء الإسلام.

أصبحت حلب من حينها وحتى اليوم مدينة متشبعة بالثقافة الإسلامية، تلك الثقافة التي أخذت الكثير من إيجابيات الحضارات السابقة وثقافاتها وأكملت عليها، ولم تنكر أبداً الثقافات الأخرى الكثيرة الموجودة «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

 

الديانة

كانت الديانات وثنية في حلب، وكان الإله حَدَدْ (إله الطقس) كبير الآلهة ويدين له عديد من الملوك وشعوبهم بالولاء، هذا بالإضافة إلى عديد من الآلهة (عشتار، دجن، شمس، سين، وغيرها)، واستمرت حلب مدينة رئيسة لآلاف من السنين وإن تضاءل دورها الديني خلال الألف الثاني قبل الميلاد، إلى أن عاد بقوة مع العصر البيزنطي والمسيحية.

العصر‭ ‬البيزنطي‭:‬ خلال حكم الإمبراطور تيودوسيرس كان الاعتراف بالديانة المسيحية ديانة رسمية ووحيدة للبلاد، ومن حينها صارت العبادة المسيحية علنية، وتزامن ذلك مع توقف كل الديانات القديمة الوثنية، وصارت حلب مركزاً دينياً مسيحياً مهماً، وأصبحت فيها الأبرشية (المدرسة الحلوية).

العصر‭ ‬الإسلامي‭: ‬في عام 636م كان الفتح الإسلامي، وأسلم من أراد من السكان وبقي من أراد على المسيحية أو اليهودية على دينه، ومنهم من بقي على ذلك حتى اليوم، وبقيت حلب حتى الآن يحكم تقاليدها وحياتها بشكل عام الدين الإسلامي.

 

دول‭ ‬عظمى‭ ‬تتصارع‭... ‬

وحضارات‭ ‬شعوب‭ ‬تتوحد

منذ خمسة آلاف عام تتابعت على حلب الحضارات السامية ثم الغربية من يونان ورومان وبيزنطيين، وأخيراً كانت الحضارة الإسلامية.

تاريخ تلك الحضارات والدول المتتالية على حلب يظهر لنا بوضوح أن كل سلطة جاءت إلى حلب، بالقوة والعنف فقط، زالت وبسرعة، وأصبحت على هامش تاريخها، أما الحضارات التي جاءت واعترفت بحضارة حلب وامتزجت معها فأفادتها واستفادت منها، فإنها دامت لأزمان طويلة ومنها ما اندمجت معها حتى صارت في ما بعد جزءاً من تشكيل حضارة حلب.

نلاحظ من هذا التاريخ أن تلاقي الحضارات بلغاتها وثقافاتها كان يتحقق بشكل هادئ وطبيعي، وهذا التلاقي للحضارات المختلفة قد ينجم عنه تفاعل حضارتين أو ذوبان حضارة أمام أخرى، وكان ذلك يستغرق عقوداً من الزمن.. أو أكثر.. ويتم بشكل سلس لا مجال فيه للعنف ليحدد بشكل قسري نهاية أو بداية حضارة.

لقد جاء هولاكو وتيمورلنك بجيوش بربرية إلى بلاد المسلمين وحلب، وعملوا فيها الهدم والخراب والحرق والنهب والقتل والسبي والاغتصاب، لكنهم لم يستطيعوا تدمير الحضارة، واستطاع المسلمون دحرهم في النهاية وإعادة بناء ما خربوه، وأكثر من ذلك، والمدهش في الأمر، أن هولاكو ورجاله عادوا من حيث جاءوا، بعد أن اعتنق كثير منهم الدين الإسلامي، وحتى الآن يوجد في بلاد المغول مسلمون. وتوجد فئة منهم بقيت في حلب، وتدل أسماء بعض العائلات اليوم في حلب على أن أصولهم تعود لتلك الفئة، إنه تعايش الحضارات الإنسانية بكل مرونة، إذ لا مجال لقوة الجيوش والسلاح، تلك القوة التي تستطيع أن تقتل البشر وتخرب الحجر، ولكنها تقف عاجزة أمام حضارات الشعوب وتلاقيها.

أخيراً أعتقد أن ما يحدث اليوم في حلب استمرار وتكرار لما حدث عشرات المرات خلال آلاف السنين الماضية، مع اختلاف الأدوات والأساليب والتسميات .

كنيسة‭ ‬القديسة‭ ‬هيلانة‭ (‬المدرسة‭ ‬الحلوية‭) ‬تجاور‭ ‬الجامع‭ ‬الأموي‭ ‬غرباً‭ ‬وبشكل‭ ‬مباشر،‭ ‬من‭ ‬أقدم‭ ‬كنائس‭ ‬العالم

لقطة‭ ‬بانورامية‭ ‬لمدينة‭ ‬حلب‭ ‬المعاصرة

الشوارع‭ ‬التجارية‭ ‬في‭ ‬حلب‭ ‬في‭ ‬المناطق‭ ‬الحديثة‭ ‬لاتزال‭ ‬تحتفظ‭ ‬بالطابع‭ ‬الكولونيالي