رحلة شوقي إلى الأندلس

رحلة شوقي إلى الأندلس

في‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬سبتمبر‭ ‬عام‭ ‬1914م‭ ‬أعلنت‭ ‬بريطانيا‭ ‬نظام‭ ‬الحماية‭ ‬على‭ ‬مصر‭ ‬بعد‭ ‬نشوب‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬4‭ ‬أغسطس‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬السنة‭. ‬وفي‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬أعلنت‭ ‬بريطانيا‭ ‬عزل‭ ‬الخديو‭ ‬عباس‭ ‬حلمي‭ ‬الثاني،‭ ‬وكان‭ ‬آنذاك‭ ‬في‭ ‬زيارة‭ ‬للأستانة،‭ ‬ومن‭ ‬المعروف‭ ‬أن‭ ‬تركيا‭ ‬انضمت‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬الحرب‭ ‬إلى‭ ‬ألمانيا،‭ ‬وأن‭ ‬هوى‭ ‬عباس‭ ‬حلمي‭ ‬كان‭ ‬مع‭ ‬الأتراك‭ ‬والألمان،‭ ‬فانتهز‭ ‬الإنجليز‭ ‬فرصة‭ ‬غيابه‭ ‬وعزلوه‭ ‬عن‭ ‬مصر،‭ ‬واستبدلوا‭ ‬به‭ ‬حسين‭ ‬كامل‭ ‬الذي‭ ‬نصبوه‭ ‬سلطاناً‭ ‬على‭ ‬مصر،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬إنجليزي‭ ‬الميول‭.‬

وقد فاجأت الحرب شوقي وهو في الأستانة مع أسرته في رفقة الخديو عباس، فنصحه عباس حلمي نفسه بأن يعود إلى مصر خوفاً من أن تنقطع المواصلات وتنسد عليه طريق العودة بسبب الحرب، فعاد شوقي وهو يعرف أن مركزه مهدد لما هو معروف من ولائه وإخلاصه للخديو المعزول.

وتتحقق مخاوف الشاعر، إذ لا تلبث السلطات العسكرية في مصر أن تقرر في أوائل عام 1915 نفيه عن البلاد وتدع له  اختيار منفاه في بلد محايد.

ووقع اختيار شوقي على إسبانيا، وكان اختياراً أشبه ما يكون بالقدر المحتوم الذي لا حيلة في رده، إذ لم يبق على الحياد في الحرب – فضلاً عن إسبانيا – إلا سويسرا وبعض البلاد الإسكندنافية في أقصى الشمال الأوربي، ولم تكن الرحلة إلى هذه البلاد الأخيرة ميسورة ولا آمنة، وهكذا اضطر شوقي إلى «اختيار» إسبانيا، لاسيما أن الرحلة البحرية المباشرة كانت ممكنة إلى موانئها. وقد يكون الشاعر آثرها لما كان يعرفه من ماضيها العربي الإسلامي، وإن لم يبد منه قبل ذلك اهتمام بها ولا رغبة في التعريج عليها، وهو الذي وصل إلى مشارفها حينما قضى شهرين على الحدود بينها وبين فرنسا في سنوات دراسته في فرنسا، ثم قضى شهراً وبعض شهر في الجزائر القريبة من السواحل الإسبانية.

وما أعجب حكم القدر! هل يذكر شوقي الآن ذلك الحوار الذي دار بينه وبين «الشيخ» (وهو رمز البحر المتوسط) منذ خمس عشرة سنة، حينما سأله الشاعر أن يحمله إلى إسبانيا، فقرّعه الشيخ على اهتمامه بهذه البلاد واشتغاله بحالها، «ولم يكن من رجالها ولا له عيش في ظلالها»؟ ها هي ذي الساعة قد حانت لكي تحمله الفلك إلى إسبانيا، مكرهاً لا بطلاً، وسيقدر له «عيش في ظلالها يمتد إلى أربع سنوات!».

ويغادر شوقي القاهرة مع أسرته إلى ميناء السويس، حيث يستقل باخرة قادمة من الفلبين متوجهة إلى برشلونة، ويترك مصر حزيناً تضطرب في نفسه مشاعر الغضب المكبوت, فهو يمضي إلى منفاه كما مضى البارودي من قبل، وبيد السلطة الاستعمارية نفسها التي ما فتئت تتحكم في مصير مصر منذ أكثر من ثلاثين سنة على نفيه، غير أن الشاعر رأى في هذا النفي أهون ما يمكن أن يصيبه، فقد كان يعرف أن السلطات البريطانية تنظر إليه في ريبة وتوجس، وأنها تتربص به الدوائر منذ عزل الخديو السابق وفرض الحماية، وما أكثر ما تعرضت «كرمة ابن هانئ» للتفتيش خلال الشهور الماضية على ذلك الحدث، كما أن شوقي يرى أن كثيراً من أولئك الذين كانوا يتوددون إليه ويترددون على داره قد انقطعوا عنه وتنكروا له منذ أصبح «مشبوهاً» في نظر السلطة. وقد آلمه ذلك وأوجد في نفسه جرحاً لم يندمل طوال سنوات النفي، حتى إنه بعد عودته إلى مصر يذكر أولئك «الخوانين» الذين كشفوا وجوههم في محنته، كما تكشف البغيُّ نقابها:

شكرت‭ ‬الفلك‭ ‬يوم‭ ‬حويت‭ ‬رحلي

فيا‭ ‬لمفارق‭ ‬شكر‭ ‬الغرابا

فأنت‭ ‬أرحتني‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬أنف

كأنف‭ ‬الميت‭ ‬في‭ ‬النزع‭ ‬انتصابا

ومنظر‭ ‬كل‭ ‬خوّان‭ ‬يراني

بوجه‭ ‬كالبغيّ‭ ‬رمى‭ ‬النقابا

 

وكان يرافق شوقي في الرحلة زوجه وولداه علي وحسين وابنته أمينة وحفيدته منها والمربية التركية وخادمتان والطاهي. وتعبر السفينة قناة السويس متوجهة إلى مرسيليا ومنها تواصل الرحلة حتى تبلغ ميناء برشلونة بعد أن تعرضت لعاصفة هائلة قبيل وصولها إلى مرسيليا. وقد اختار شوقي برشلونة ليقيم فيها، لأنها الميناء الوحيد القريب المحايد على البحر المتوسط، مما يتيح له سرعة العودة إلى مصر حينما تسمح السلطات له بذلك، وذلك لأنه لم يكن يظن أن مقامه سوف يطول في منفاه، بل كان يتوهم أن الحرب لن تطول أكثر من ستة أشهر، وأن الجيوش التركية لن تتأخر في تحرير مصر من سطوة «الشياطين الإنجليز».

غير أننا لا نملك إلا أن نتساءل: ما الذي أغرى شوقي بأن يظل طوال هذه المدة في برشلونة بغير أن ينتقل عنها ويتجول في أنحاء إسبانيا؟ وإسبانيا كانت دائماً بلداً يغري بالسياحة والتجول، ففي طبيعتها ومدنها وريفها من التنوع والجمال ما يجعل من الضرب في مناكبها متعة رائعة، فلماذا ظل شوقي مقيماً في برشلونة لا يبرحها؟ وأغرب ما في الأمر أن السائح الأجنبي القادم من أوربا أو أمريكا لا تتاح له فرصة زيارة إسبانيا حتى يكون أول ما يشرع فيه هو المضي قدماً نحو الجنوب الذي يضم قرطبة وإشبيلية وغرناطة وجيان وملقا وقادس، فيما أطلق عليه (الأندلس) حتى يشاهد آثار الحضارة العربية الإسلامية. ومازالت هذه المناطق حتى اليوم أكثر ما يجذب السائح ويشده شداً إلى إسبانيا.

أليس غريباً ألا يفكر شوقي في زيارة الجنوب إلا بعد أن أعلنت نهاية الحرب، وسُمح له بالعودة إلى مصر، وهو العربي المسلم الذي كان أولى الناس بتأمل الآثار العربية الإسلامية في الأندلس؟ ثم إن شوقي ليس سائحاً عادياً، بل هو شاعر مرهف الحس، وهو بعد ذلك عميق الإحساس بالماضي، حتى إن شعره كان دائماً منذ شبابه المبكر معرضاً لأحداث التاريخ، بل لعله كان أكثر شعراء عصر الإحياء قدرة على استخلاص العبر والعظات من هذه الأحداث.  

ويذكر د. صالح الأشتر في تبرير عزوف شوقي عن الرحلة المبكرة إلى الأندلس أن «خوف الشاعر من انقطاع المال عنه وعن أسرته كان لا يزايله أبداً».                       

لكن د. محمود علي مكي يعلل بقاء شوقي في برشلونة بأنه يرجع إلى الاكتئاب الشديد الذي كان ملازماً له في فترة المنفى، إذ يبدو أنه كان واقعاً تحت سيطرة حزن ممضّ جعله لا يحس بطعم الحياة ولا متعتها في هذا الجو الجديد. لقد كان شوقي في مصر يحس بمكانته وسلطانه... كان هو المتربع على عرش الشعر حتى قبل أن يُبايع أميراً للشعراء، وكان القراء في مصر والعالم العربي كله ينتظرون ما يجود به يراعه في شوق ولهفة، وكان رجل مجتمع يأنس إلى الناس ويأنس إليه الناس، ثم إذا به يرى نفسه فجأة في ذلك الركن القصي منفرداً لا يؤنس وحدته إلا أفراد أسرته، غريباَ مضطرباً في أرجاء المدينة الهائلة، فلا يحفل به أحد أيان جاء أو ذهب. 

كان شوقي أشبه بأولئك الممثلين الكبار أو أبطال الرياضة الذين تضطرهم بعض الظروف من كبر في السن أو عجز عن العمل إلى الاعتزال «فإذا بهم، وهم الذين تعودوا من قبل على تسليط الأضواء وتصفيق الجماهير، قد انقطع كل ذلك عنهم فجأة، فأصبحوا لا يكاد أحد يعيرهم التفاتاً، وما أكثر ما يصاب أمثال هؤلاء بأزمات نفسية حادة تجعلهم يفقدون الرغبة في الحياة، ولست أظن شوقي إلا قد أصابه شيء من ذلك جعله ينطوي على نفسه، فلا يخالط أحداً ولا يخالطه أحد، والذي يتأمل شعره في قصائده الأندلسية يحس بجو الاكتئاب مسيطراً عليه سيطرة كاملة، فهو مثل «نائح الطلح» الذي خاطبه في «أندلسيته»... طائر مقصوص الجناح، صحيح أنه كان في إسبانيا طليقاً لم يمنعه أحد من الذهاب إلى حيث شاء، إلا أنه كان من وحدته وأحزانه في قفص مُحكم الإغلاق».

هكذا بقي شوقي في برشلونة حتى انتهت الحرب العالمية أواخر عام 1918، وبلغه نبأ السماح له بالعودة إلى أرض الوطن، وطار قلبه فرحاً، وهمَّ بشد رحاله إلى مصر، إلا أن السلطات لم تسمح له بأن يباشر الرحلة على الفور، ومن ناحية أخرى وصل إليه نبأ وفاة والدته ففتَّ ذلك في عضده، وحينئذ فقط فكر في زيارة جنوبي إسبانيا والتملي برؤية ما في مدنها من آثار عربية، ومعنى ذلك أنه لو سمح له بالعودة لغادر إسبانيا بغير أن يعرف مدن الأندلس، ولفقدنا بذلك شطراً مهماً من أندلسياته. ويشد شوقي رحاله على عجل فيستقل باخرة إلى جزر البليار، فينزل في «بلما» عاصمة جزيرة ميلورقة، ويمضي هناك أسبوعاً لا ننتظر فيه أن يحاول معرفة شيء عن تاريخ العرب والإسلام في هذه الجزر، وهو تاريخ طويل استمر نحو خمسة قرون ونصف القرن، ثم يسافر بعد ذلك إلى مدريد ويمضي بعد أيام عدة إلى الجنوب ماراً بطليطلة، ويبدأ جولته في الأندلس بقرطبة ثم إشبيلية، ويختتم زيارته بغرناطة. بعدها يتأهب للعودة إلى مصر بعد أن بلغه في سنة 1919 نبأ السماح له بالرجوع.

ومن هذا نرى أن جولته في ربوع الأندلس لم تعدُ أن تكون من طراز تلك الزيارات العابرة التي تنظمها شركات السياحة لمن يفدون إلى إسبانيا للتعرف على معالمها التاريخية على نحو خاطف وسريع. غير أن الفارق هنا هو أن شوقي كان قد استعد لهذه الرحلة من قبل بقراءات حول تاريخ الأندلس وأدبها، وهي قراءات أفادته من دون شك، وإن ظلت في الواقع أقرب إلى السطحية وأبعد عن المعرفة الواعية العميقة.

 

آثار‭ ‬شوقي‭ ‬الأدبية‭ ‬في‭ ‬الأندلس‭ ‬

أولاً‭: ‬الشعر‭ ‬الغنائي

< قصيدة «أندلسية» وهي نونيته التي عارض بها نونية ابن زيدون، وتقع في ثلاثة وثمانين بيتاً:

يا‭ ‬نائح‭ ‬الطلح‭ ‬أشباه‭ ‬عوادينا‭  

نشجى‭ ‬لواديك‭ ‬أم‭ ‬نأسى‭ ‬لوادينا‭ ‬

ماذا‭ ‬تقُصُّ‭ ‬علينا‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬يداً‭ ‬

قصت‭ ‬جناحك‭ ‬جالت‭ ‬في‭ ‬حواشينا‭.‬

ونلاحظ أن شوقي في معارضاته يحاول أن يختار من شعر من يعارضه ما قيل في جو نفسي مشابه للجو الذي يملي عليه شعره هو، بحيث لا تكون المعارضة مجرد تمرين لفظي، وهو بذلك يهيئ لشعره أن يصدر عن تجربة أقرب إلى الصدق، على الرغم مما في المعارضة أصلاً من اصطناع وتكلف، فالشاعران هنا يعبران عن تجربتين متقاربتين، كلاهما منفيُّ مُبعَد عن وطنه تحول بينه وبين معاهده ظروف قاهرة وأيد باطشة، ابن زيدون يمنعه بنو جهور الذين أساء إليهم من العودة إلى قرطبة، وشوقي تفرض عليه السلطة الاستعمارية التي تحتل البلاد أن يظل منفياً عن بلاده. غير أن الفارق بين التجربتين هو أن ابن زيدون عاشق يضنيه فراق حبيبته المقيمة في قرطبة، وشوقي عاشق أيضاً ولكن لوطنه.

< قصيدة «الرحلة إلى الأندلس»: وهي سينيته التي عارض بها سينية البحتري وتقع في مائة وعشرة أبيات:

اختلاف‭ ‬النهار‭ ‬والليل‭ ‬ينسي

اذكرا‭ ‬لي‭ ‬الصبا‭ ‬وأيام‭ ‬أنسي‭ ‬

وصفا‭ ‬لي‭ ‬مُلاوة‭ ‬من‭ ‬شباب

صُورت‭ ‬من‭ ‬تصورات‭ ‬ومسّ

عصفت‭ ‬كالصبا‭ ‬اللعوب‭  

ومرت‭ ‬سنة‭ ‬حلوة‭ ‬ولذة‭ ‬خلس‭.‬

وقدم للقصيدة بمقدمة نثرية مسجوعة تأنق في صياغتها وتحدث فيها عن مناسبتها، وهو يصرح بأنه حينما وضعت الحرب أوزارها وأقبل السلام رأى الشاعر نفسه تدعوه إلى زيارة الأندلس، فقصد إليها من برشلونة حتى تكتحل عيناه برؤية آثار العرب هناك، وشتان في نبل المقصد والهدف بين الشاعرين، فالبحتري وقف على آثار قوم غير قومه، فأشاد بذكرهم ونوَّه بمجدهم، وليته وقف عند الإشادة بحضارة الفرس ولكنه سخر من بداوة العرب وخشونة عيشهم.

< موشحة صقر قريش التي عارض بها موشحة لسان الدين بن الخطيب، وتقع في ستة وعشرين بيتاً، كل بيت يبلغ عشرة أشطار، فهي تتألف من 260 شطراً:

مَن‭ ‬لنضوٍ‭ ‬يتنزى‭ ‬ألماً‭  

برّح‭ ‬الشوق‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬الغَلس

حنّ‭ ‬للبان‭ ‬وناجى‭ ‬العلما‭ 

أين‭ ‬شرق‭ ‬من‭ ‬أندلُس‭.‬

وهي ثالثة أندلسيات شوقي الكبار، وقد أفردها للحديث عن قصة عبدالرحمن بن معاوية الداخل وملحمة دخوله الأندلس، بعد أن فتك العباسيون في الشرق بأسرته المروانية  وورثوا خلافة الإسلام في سنة 132هـ (750م)، فقد استطاع عبدالرحمن الفرار من بني العباس، وأمعن في الهرب حتى وصل إلى ساحل الشمال الإفريقي المطل على أرض الأندلس، وهناك استدعاه موالي بني أمية وحزبهم القوي في الأندلس، فاجتاز المضيق، ولكن أمير الأندلس القائم حينئذ يوسف بن عبدالرحمن الفهري لم يكن مستعداً للتسليم لهذا الأمير، فخاض معه حرباً ضروساً انتهت بانتصار عبدالرحمن وبتأسيسه إمارة بني أمية المستقلة في سنة 138هـ (756م). وحاول أبوجعفر المنصور ثاني خلفاء بني العباس إشعال الثورات ضده في الأندلس، ولكنه ضرب على أيدي المتمردين في صرامة وقوة، حتى إن خصمه اللدود أبا جعفر المنصور هو الذي أطلق عليه لقب «صقر قريش» اعترافاً بعلو همته وحسن تدبيره لذلك الملك الجديد الذي أورثه لأبنائه من بعده.

< مرثيته لوالدته وهي ميميته التي عارض بها مرثية المتنبي لجدته، وهي تتألف من اثنين وخمسين بيتاً:

إلى‭ ‬الله‭ ‬أشكو‭ ‬من‭ ‬عوادي‭ ‬النوى‭ ‬سهماً

أصاب‭ ‬سويداء‭ ‬الفؤاد‭ ‬وما‭ ‬أصمى

من‭ ‬الهاتكات‭ ‬القلب‭ ‬أول‭ ‬وهلة‭ ‬

وما‭ ‬دخلت‭ ‬لحماً‭ ‬ولا‭ ‬مست‭ ‬عظماً‭.‬

كان شوقي لايزال في برشلونة حينما بلغه نبأ انتهاء الحرب وإعلان الهدنة في أواخر سنة 1918، وقد استطاره النبأ فرحاً، لأنه كان بشيراً بقرب عودته إلى وطنه، غير أنه لم يلبث أن تلقى ذلك النبأ الفاجع الجديد، وهو وفاة أمه العجوز، فانقلب فرحه حزناً وأسفاً على فوات رؤيتها قبل موتها، وكان شوقي من أشد الناس براً بوالدته، ولم يلبث أن جاشت نفسه بهذه المرثية. 

ثانيا‭: ‬الشعر‭ ‬التاريخي

يضمه كتاب «دول العرب وعظماء الإسلام» وهو مجموعة من الأراجيز التاريخية يبلغ عددها أربعاً وعشرين قصيدة  «بعد استبعاد موشحة صقر قريش» ومجموع أبياتها 1405. وقد غطى بهذه الأراجيز كتاب النحو الإسباني الذي كان يتعلم فيه، وكانت أول ما اشتغل بنظمه في منفاه، ولم تنشر إلا بعد وفاة الشاعر في مارس 1933 وكانت هذه الأراجيز فاتحة ما كتبه شوقي، وهو يصور -كما جاء في مقدمته – جو الكآبة الذي كان يخيم عليه، حتى نراه ينصرف عن الشعر الغنائي الذي كان ميدانه الحقيقي إلى هذه المنظومة التاريخية التي لا تخرج عن كونها شعراً تعليمياً لا ينتظر أن تتألق فيه شاعرية شوقي.

ولا يكتم شوقي الهدف التعليمي التربوي من الكتاب، إذ يقول بعد أن أشار إلى أنه ألفه دفعاً للفراغ:

حـــــتـــــى‭ ‬أراد‭ ‬الله‭ ‬أن‭ ‬نـــــظـــمــــت

من‭ ‬سير‭ ‬الرجال‭ ‬ما‭ ‬استعظمت

علماً‭ ‬بما‭ ‬تبعث‭ ‬الأحداث‭   

جلائل‭ ‬الأعمال‭ ‬والأحداث‭ ‬

إن‭ ‬الصبي‭ ‬ما‭ ‬تغذيه‭ ‬اغتذى

  ‬فأكثر‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬المشال‭ ‬المحتذى‭ ‬

فهو يستهدف بالكتاب تعليم الناشئة وتهذيبهم بذكر أخبار الدول وعظماء التاريخ، ويعلن أنه يحذو في نظم هذه السير حذو من تقدمه من ناظمي التاريخ.

ثالثاً‭: ‬الأعمال‭ ‬النثرية

مسرحية‭ ‬أميرة‭ ‬الأندلس

هي المسرحية النثرية الوحيدة لشوقي، ولا ندري السر في هذا التحول، فقد تكون حملات بعض النقاد عليه وأنه لا يحسن سوى الشعر الغنائي، هي السبب الحقيقي في أنه عدل عن الشعر إلى النثر في هذه المأساة، كأنه يريد أن يبرهن على ضلال أدلتهم، وقد أتم شوقي تأليف هذه المسرحية في الحقبة الأخيرة من حياته، ويقال إنه بدأها في منفاه بالأندلس، وفي عنوانها ما يدل في وضوح على أنها تستمد من حركات العرب التاريخية هناك، وقد وقف فيها عند الفترة التي انتهى فيها عصر ملوك الطوائف في أواخر القرن الخامس للهجرة، واختار المعتمد بن عباد بطلاً لها.

وحياة المعتمد إذا سردناها كانت قصة بديعة، إذ كان ملكاً لإشبيلية التي اشتهرت في عصره بحياة أدبية صاخبة، فيها غناء ورقص وطرب، كما كان ملكاً لقرطبة، بيت الفقه والفقهاء، وعُنيَ أشد العناية بجمع الأدباء والشعراء حوله، فكانت إشبيلية حاضرة ملكه، قبلتهم وكعبتهم، أما قرطبة فكان يضع عليها أحد أبنائه، وكان هناك صراع بينه وبين الملوك من حوله، ليس ألفونس ملك الفرنج فقط، بل أيضاً بينه وبين إخوانه المسلمين من ملوك الطوائف, وأصبحوا جميعاً قاب قوسين أو أدنى من أن يبتلعهم ألفونس الذي كان يفرض عليهم الإتاوات والضرائب، وابتلع طليطلة. وخاف المعتمد كبيرهم مغبة ذلك، فكاتب هو وإخوانه يوسف بن تاشفين ملك المرابطين في المغرب، يستنجدونه ويستغيثون به أن يلحقهم قبل أن يفنوا.

وأقبل يوسف بجموعه، فهزم معهم الفرنج من الإسبان في موقعة الزلاقة، غير أنه وجد البلاد لقمة سائغة، وحرّضه الفقهاء على أن يقبض عليها بيده، فإن ملوكها، المعتمد وغيره، جعلوا قصورهم مسارح للهو والطرب والمجون والخلاعة، والعدو يتربص بهم وهم مختلفون في ما بينهم، يكيد بعضهم لبعض، ويقتتلون، ويستعين كل منهم في قتاله بالفرنج وبألفونس، فإما أن يجمع يوسف البلاد تحت لوائه، وإما أن تغرق جميعاً في الخضم الإسباني، كما غرقت طليطلة. ورأى يوسف من الحكمة أن يأخذ بمشورة الفقهاء ونصيحتهم فاستنزل ملوك الطوائف عن عروشهم، وحارب منهم مَن لم يستجب إليه ومَن لم ينزل عن ملكه وهو صاغر، وكان المعتمد أحد مَن عارضوا وناقضوا فحاربه يوسف وأخذه أسيراً إلى «أغمات»، حيث بقي في أسره إلى موته، وبقيت أسرته بجانبه، تغزل بناته ويأكلن من غزلهن.

شوقي‭ ‬والموشحات

بدأ شوقي منذ عام 1896 في نظم قصائد يبدو فيها التأثر بالموشحات الأندلسية، فهي موزعة على مقطوعات أو أدوار تتألف كل مقطوعة أو دور فيها من أربعة أشطار أو خمسة متفقة القافية ما عدا الشطر الأخير الملتزم بقافية مخالفة، إلا أنها تتكرر في نهاية كل دور، وهذا اللون من النظم هو الذي اصُطلح على تسميته بالمسمطات، فإذا كان الدور منه يتألف من خمسة أشطار سُمَّي بالمخمسات، وهو يشارك الموشح في الاعتماد على المغايرة بين القوافي. 

وأول ما نعرفه من هذا اللون الجديد عند شوقي مسمطة مربعة، أي إن كل دور من أدوارها يتألف من أربعة أشطار ، الثلاثة الأولى بقافية واحدة والأخيرة بقافية مغايرة وتنتظم الأشطار الأخيرة من الأدوار كلها، وهذه المسمطة بعنوان «تحية للترك» وقد قالها في الحرب التي دارت بين اليونان والأتراك سنة 1314هـ (1896م)، وهي تجري على هذا النسق: 

بحمد‭ ‬الله‭ ‬رب‭ ‬العالمينا‭  

وحمدك‭ ‬يا‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين

لقينا‭ ‬في‭ ‬عدوك‭ ‬ما‭ ‬لقينا‭ 

‭ ‬لقينا‭ ‬الفتح‭ ‬والنصر‭ ‬المبينا

هُمُ‭ ‬شهروا‭ ‬أذى،‭ ‬وشهرت‭ ‬حرباً

  ‬فكنت‭ ‬أجلّ‭ ‬إقداماً‭ ‬وضربا

أخذت‭ ‬حدودهم‭ ‬شرقا‭ ‬وغرباً‭ 

وطهرت‭ ‬المواقع‭ ‬والحصونا‭ ‬