الهوية العربية الإسلامية في عصر العولمة... أمانة حضارية

الهوية العربية الإسلامية  في عصر العولمة... أمانة حضارية

المتتبع للحركات الفكرية في البلاد العربية والإسلامية منذ أواخر القرن التاسع عشر يدرك تماماً أن معظمها قد تمثل في حملات التغريب التي شنها الغرب، والتي كانت تدعو إلى التبشير في كثير من البلدان، مثل إندونيسيا والهند وسورية ومصر وغيرها، كما ظهرت في كم هائل من كتابات المستشرقين، ولاسيما كريستيان سنوك هورجرونج, ومرجليوث, وزويمر, وهويار, ولويس برتران... وغيرهم.

جعل التبشير همه الأول تحطيم اللغة العربية، لأنها لغة القرآن، فإذا استطاع ذلك يكون قد حقق ما يصبو إليه من تقويض وحدة الأمة.
وسلم الله، وقيض للأمة نفراً ممن انبرى للدفاع عن لغتها ضد هذه الحملات المسعورة من أمثال الأفغاني، وعبده, وباديس، والخالدي، ومالك بن نبي، وطنطاوي جوهري... وغيرهم.
وقامت هذه الكوكبة من المفكرين من منطلق أننا أمة لها طابعها، وكيانها، ومقوماتها الذاتية التي تكون شخصيتها الفريدة، فتنظر إلى تراثها من منطلق أنه قوى دافعة فيه حياة الأمة، يشع في النفس الثقة بالذات، ويبعث فيها كل قدراتها الكامنة، ويستـجيش قواها الخيرة لمواكبة الحضارة والمشاركة في ريادتها, بل والسبق فيها، شرط ألا تقتلعها من جذورها المتمثلة في تراثها، ذلك الذي لا يمثل رجعة إلى الوراء ــ كما يتوهم العلمانيون ــ فليست النظرة إليه، إلا لإحكام النظرة إلى الأمام , ففي هذا التراث من الذخائر والتجارب والحوافز ما لابد من تعرُّفه والاستناد إليه في تطلعاتنا الحاضرة، فالمستقبل لا يمكن أن ينفصل عن الماضي، وتجربة الأمة الحضارية التي حققتها تجعلها في موضع متميز يتبدى في رسالتها التي اختصت بها، وأصالتها التي صاغت شخصيتها، وقدرتها على الإبداع في ميادين المعرفة المختلفة.
أَيَدعو من يريد تدمير لغة القرآن الكريم إلى إهمالها، ويتناسى أن هذه اللغة هي نفسها لغة العلم الغربي في العصور الإسلامية (الوسطى)؟ ذلك العلم الذي تطور عنه ــ بلغة نظرية النشوء والارتقاء ــ هذا التقدم العلمي والتكنولوجي المتزامن, فلقد أضاء العلم العربي الإسلامي جنبات الجهل والظلام نتيجة للبوار العلمي والركود الفكري, واقتنص الغربيون ذلك الكنز الثمين، وألبسوه ثوباً غربياً أنيقاً، بعد أن جردوه من ثوبه العربي الإسلامي الأصيل، وأصبح العلم العربي الإسلامي (المدبلج) بكل لغات العالم هو سيد هذا الكون، وعلى كل أمة من أمم المعمورة أن تهجر لغتها، إن أرادت أن تلحق بهذا الركب الغربي.
وقد ظهرت بشائر هذه الدعوة الغربية عندنا نحن معشر العرب والمسلمين منذ زمن، وليس أدل على ذلك من أن دراسة الطب وبعض العلوم الأخرى مازالت تدرس باللغة الإنجليزية في جـــميع الأقطار العربية الإسـلامية، مع أن الطب الغربي  مأخوذ أصلاً من العرب والمسلمين وباللغة العربية. كما تنتشر المدارس «التبشيرية» الإنجليزية والفرنسية والألمانية في معظم أرجاء الوطن العربي, فضلاً عن أن بعض شعوب دول شمال إفريقيا العربية يفضلون اللغة الفرنسية عن اللغة العربية في الاستخدام اليومي، لدرجة أن أحد المسؤولين عجز عن أن يلقي بيانه في مؤتمر عربي باللغة العربية. وقد شاهدت ذلك عياناً فتحسرت كثيراً.
المسلمون هم أول من وضع  المبادئ الأساسية لعلم السريريات البحتة، وأول من ابتكر خيوط الجراحة، وهم الذين اكتشفوا الدورة الدموية الصغرى (ابن النفيس) وكثيراً من الأمراض وكيفية علاجها (الرازي، ابن سينا، الزهراوي... وغيرهم) وهم الذين قالوا بكروية الأرض، واكتشفوا الجاذبية الأرضية والمد والجزر، ووضعوا مبادئ علم الاجتماع (ابن خلدون)، وعلم الطبيعة العربي الصرف (البيروني، بنو موسى شاكر، الجزري، الخازن)، وعلم الضوء (ابن الهيثم) وعلم الجبر الإسلامي الأصيل (الخوارزمي)، والرياضيات بصفة عامة (الخوارزمي، الكاشي، عمر الخيام, ابن الهائم....) والفلك (ابن الشاطر، الطوسي...) وغيز ذلك من المجالات, فهل يعقل أن نهمل هؤلاء جميعاً ونقدم للنشء الإسلامي العربي أسماء غربية مزيفة؟ إن ذلك ليس من الأمانة الحضارية في شيء، بل هو من قبيل التزييف الغربي المغرض. وهل يصح أن يسير بعض مفكرينا وكتابنا العرب في هذا المضمار، فيهاجموا تراثنا العلمي والأدبي في الوقت الذي نرى فيه العالم الغربي أجمع يهتم بتراثه الحضاري؟ فاللغات الغربية الحديثة ترجع إلى اللغة اليونانية أو اللاتينية كلمة بكلمة، ولم يحاول أحد من الغربيين أن يهاجم تراثه مثل هؤلاء الذين يعبثون بالتراث لدينا. بل إن الغرب نفسه هو الذي وجهنا إلى الاهتمام بإحياء تراثنا الحضاري!
أما يكفي كل عربي ومسلم فخراً أن ما يسود الدنيا من علوم معاصرة أصله عربي إسلامي؟ أما يكفيك أن يكون ذلك حافزاً لك للاستيقاظ والتنبه لمحاولة السيطرة الغربية الجديدة على ما بقي من تراثنا المخطوط؟ نعم فلقد عاود الغرب التنقيب في التراث العربي الإسلامي، أملاً في مزيد من العلم، بعد أن لمسوا جدواه. وقد أعدوا لذلك الأمر عدته من توظيف أموال وباحثين ومستشرقين لدراسة هذا الكم الرهيب من مخطوطات التراث العربي الإسلامي (حوالي مليوني مخطوط في حوالي 2000 مكتبة) الذي أهمله أهله واكتفوا بتخزينه على أرفف المكتبات، فأصبح عرضة للتلف والضياع، بل والسرقة, فضلاً عن عدم اهتمام معظم الجهات الأكاديمية المصرية والعربية بمراكز تحقيق التراث بها، فلا ميزانيات، ولا باحثين مؤهلين ولا صلاحيات أكاديمية للباحثين الموجودين تحفزهم وتشجعهم على تحقيق ونشر تراثنا المخطوط العلمي والأدبي والروحي، الذي به تستطيع الأمة أن تشغل حيزاً مرموقاً على خريطة العولمة التي تغطي العالم أجمع.

تحديات حقيقية
إننا أمام  تحديات حقيقية، ففي الوقت الذي نطالب فيه بالحفاظ على تراثنا وهويتنا، ينبغي علينا ألا ننظر إلى هذا التراث، والفكر العربي الإسلامي عموماً بمعزل عن الفكر العالمي، بل ننظر إليه ونتعامل معه من خلال الإطار العالمي للفكر والثقافة. فالعالم يعيش عصر الانفتاح العلمي والثقافي وتداخل الثقافات وزيادة التأثير والتأثر بينها، بحيث لا تكون بينها ثقافة منعزلة، وتتصف بالجمود والعزلة. والعلم والفكر العربي الإسلامي لم ولن يتصفا بالعزلة عن العالم في أي فترة من الفترات، حتى في أوقات الاستعمار المسلح، تشهد بذلك مطبعة نابليون المصاحبة للحملة الفرنسية الشهيرة على مصر والشام. ونحن الآن في مواجهة استعمار من نوع آخر يتمثل في الغزو الثقافي والفكري بشتى الطرق والمسارات التي تتخذها حركة العولمة. ولا مانع من التعامل مع التيارات الفكرية والثقافية الواردة، ولكن بما يتناسب معنا، ويدعم هويتنا العربية الإسلامية في الوقت نفسه. وبهذا الجدار نستطيع التصدي، ويجب علينا أن نتسلح بسلاح العلم والفكر وتدشين جهود العلماء والباحثين المسلمين لتحقيق تنمية علمية وفكرية تسعى إلى مقاومة مخططات التهميش ومحاولات العولمة التي تسعى إلى تحجيم الفكر القومي وتفسيخ الهويات العربية والإسلامية تحت ذرائع مختلفة, ولذلك يجب ألا تشهد هذه الألفية استسلاماً عربياً إسلامياً للنموذج الغربي، وما دمنا نتسلح بتراثنا وبثقافتنا العربية والإسلامية، فبهما نستطيع أن نقاوم طوفان العولمة الذي يحاول أن يجرفنا طوعاً أو كرهاً.
وبهذه المناسبة ينبغي علينا أن تكون حركة التنقيب الغربي في تراثنا المخطوط بمنزلة الضوء الأخضر لنا نحن معشر العرب والمسلمين، فأولى بنا أن نولي هذه الحركة أهمية جمة فننفض غبار التكاسل عن كنوز التراث بالعمل على تحقيقها ونشرها، بدلاً من صرف الميزانيات الضخمة لفهرستها من آن إلى آخر، وذلك قبل أن يصل إليها الغرب، وينسبها لنفسه. ومما يعزز موقفنا ويحفز هممنا تجاه هذه الحركة أننا نملك العصا السحرية التي تفك رموز وطلاسم المخطوطات القديمة، ألا وهي اللغة العربية، ولدينا من علمائها من لا يشق له غبار. فعلينا أن نعمل على إحياء هذه اللغة التي تاهت مأثوراتها في «حواري العامية» وأصبحت الفصحى كما لو كانت لغة أجنبية لها متخصصوها من متعلمين ومعلمين. إننا نأمل أن تعمم دراسة اللغة العربية بعد مرحلة المدرسة في كل مراحل التعليم العالي، وألا تكتفي الجهات الأكاديمية بعقد الدورات المكثفة التي لا تسمن ولا تغني من جوع. 
كما نأمل أن تنفذ قرارات مجمع اللغة العربية الخاصة بتعريب العلوم، وحينئذ سوف تعود اللغة العربية ريحانة لأرواح المطالعين، ونوراً تستضيء به أذهان الطلبة الدارسين، ويمًا ترتشف من موج فوائده أقلام الكاتبين، وروضاً تتدبج بناظره مقالات المنشئين، وذلك أملاً في استعادة عز غابر، وتعبئة لمجد مرتقب. فخليق بنا أن نعمل على تحطيم قيود الأنماط الأجنبية، وأغلال الصنعة المدعية، لبعث التعبير الذاتي للأمة. وتلك أمانة حضارية ملقاة على عاتق كـــــل العلــــماء والمفـــكرين والمثقفين المسلمين.