المتوالية القصصية ... هل تصبح جنساً أدبيّاً مستقلاً ؟

المتوالية القصصية ...  هل تصبح جنساً أدبيّاً مستقلاً ؟

المتوالية‭ ‬القصصية‭ ‬ليست‭ ‬ابتكاراً‭ ‬جديداً،‭ ‬أو‭ ‬مدرسة‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬السرد،‭ ‬هي‭ ‬ذ‭ ‬بتواضعٍ‭ ‬تام‭ ‬ذ‭ ‬مجرّد‭ ‬تجربة‭ ‬في‭ ‬السرد،‭ ‬وجدتها‭ ‬الأنسب‭ ‬لطرح‭ ‬قضية‭ ‬وجودية،‭ ‬كقضية‭ ‬الحياة‭ ‬والموت،‭ ‬في‭  ‬اجسر‭ ‬خشبي‭ ‬صغيرب،‭ ‬أو‭ ‬مسألة‭ ‬وجدانية،‭ ‬كخيبة‭ ‬الأحلام‭, ‬في‭ ‬انهاياتب،‭ ‬رأيت‭ ‬أنّ‭ ‬طرحها‭ ‬في‭ ‬سردٍ‭ ‬تقليديّ‭ ‬من‭ ‬مقدّمة،‭ ‬وحبكة‭ ‬تتصاعد‭ ‬إلى‭ ‬الذروة،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬الخاتمة،‭ ‬لا‭ ‬يفي‭ ‬بالغرض‭.‬

المتوالية القصصية, كأسلوب, هي التجسيد السردي في الكتابة للمتوالية السيمفونية في الموسيقى، وهي – كما عملت عليها – مجموعة من القصص القصيرة جدّاً. تتوالى وتتكامل لتعطي المعنى الكامل للحالة, أو للفكرة من دون ارتباط إحداها بحدثٍ واحد، لكن لابد أن ترتبط بالفكرة العامة, أو الغرض الشامل المراد. 

وتتميّز هذه القصص القصيرة جداً, من جهة, بلغةٍ شعرية بسيطة, تكون هي عنصر الإمتاع، إذ لا حبكة تشدّ القارئ, أو ذروة ترفع من نبض النصّ, وتزيد التوتر لديه. ومن جهةٍ ثانية تعتمد الرمز دون إبهام أو غموض. 

هل وفّقت إلى ما أريده؟ هل كان اختيار هذا الأسلوب الجديد – حسب علمي– يفي بالمراد من حيث الغرض ومن حيث الإمتاع؟ أرجو ذلك، والرأي الصحيح يبقى لدى القارئ, فهو من سيتلقى التأثير الجمالي والشعوري.

ربـــما يقـــول النقاد إن هذه بدعة لا قيــمة ولا حاجة لها, وربـــما ينـــفي آخر انــــتماءها إلــــى جنــــس القصة, وربما يقال أكثر من ذلك, وربما لا يلتفت للموضوع أحد كلّ، لكن ما سيقال موضع احترام. 

هي مجرّد تجربة جديدة في السرد, قد تلقى القبول, أو الاستحسان, وقد يؤمن بها مبدعون آخرون, فيشتغلون عليها ويطوّرونها، والإبداع, كلّ إبداع, أولاً وأخيراً, يبدأ من تجربة. 

 

المتوالية‭ ‬القصصية‭ ‬الأولى

جسرٌ‭ ‬خشبيٌّ‭ ‬صغير‭.‬

حين يغيب الزمان, ويضيق المكان.

حين يجنّ البشر, وتفقد الأسماء معانيها.

لا شيء له وجود إلا تلك الصور التي تعبر أمامي, كأني رأيتها من زمان بعيد.

جسرٌ خشبيٌّ صغير, وأطفالٌ يركضون فوقه, يتأرجحون بين الأرض والسماء. 

زورق كوني يحمل براءتهم, يحتفظ برائحة الطفولة البيضاء.

‭*  *  *‬

جسر خشبي صغير, وطفلة صغيرة ترفع أطراف ثوبها الوردي, تركض فرحةً بحذائها الخفيف، خطواتها القصيرة تجعل الجسر الصغير طويلاً, طويلاً كأنه الدهر.

«لا تستعجلي يا صغيرتي, خبئي خطواتك لأيامك القادمة...لا تركضي, فحذاؤك الخفيف يتعب, وثوبك الوردي يتمزق».

‭*  *  *‬

جسرٌ خشبيٌّ صغير, وطفلةٌ صغيرةٌ تحلم بثوبها الأبيض, ترخي شعرها على كتفيها, تتباهى بغرتها الناعمة, تبتسم بعينيها الزرقاوين لخطيبها الذي يرفع ذيل ثوبها الطويل.

«ستكبرين يوماً يا صغيرتي, وسيحبُّك فارسٌ وسيم, وسيرفع ذيل ثوبك الأبيض... على الجسرِ الخشبيّ الصغير».

‭*  *  *‬

جسرٌ خشبيٌّ صغير, وشلالٌ ينحدر من السماء, أبيض كأنّه الموت, صاخبٌ كأنه الحياة, وطائرٌ وحيدٌ ينثر ألحانه حول الطفلة الصغيرة.

«لا أحد يسمعك أيها الطائر الوحيد, فالشلال المتدفق, صوته يطغى على كل شيء, والطفلة الصغيرة لا تراك حتى تملأ أذنيها بأنغامك المتناثرة...شغلها صوت الهدير الذي يملأ المكان».

‭*  *  *‬

جسر خشبيٌّ صغير, صنعه عجوزٌ بيديه الدهريتين, ومطرٌ غزير يبلل الخشبَ العتيق.

 الطائر الوحيد يطير مستعجلاً, هارباً من الحبّات الثقيلة, والشلال المتدفق ماؤه يختلط مع ماء المطر المنهمر, وحذاءٌ خفيف لطفلةٍ صغيرةٍ... كانت تقف فوق الجسر الخشبي الصغير.

‭*  *  *‬

حين يقف الزمان, وينعدم المكان. 

حين يجنُّ البشر, وتفقد الأشياء معانيها,

لا شيء له وجود سوى المطر.

في الشوارع المظلمة... مطر.

في ليلةٍ فارغةٍ من كل شيءٍ سواه... مطر.

فوق المقابر البعيدة يعزف بسكينةٍ وهدوء...

مطر... مطر... مطر.  

 

المتوالية‭ ‬الثانية

‭ .. ‬نهايات

‭(‬1‭)‬

على شاطئ العمر جلست قليلاً...

أخطُّ السنواتِ على صفحة الماء.

ينتفض الموجُ, يتطاير الزبَدُ فوق الرمال الطريّة.

فأرى أمامي محضَ هواءٍ يتبعثر.

‭*  *  *‬

على شاطئ العمر جلستُ أرسم المستقبل, 

أبني بالرملِ المستقبل.

في كلِّ مرةٍ  تأتي موجة بعيدة لتهدم الحلم.

وفي كلّ مرةٍ أعيدُ بناءَ الحلمِ - الرمل.

‭*  *  *‬

في كلّ مرَّةٍ كنتُ أحلمُ:

قصرٌ صغيرٌ بحجمِ كوخ,

امرأةٌ زهرة, وأطفالٌ عصافير.

تهبُّ عاصفةٌ, ويهطلُ المطُرُ...

فيسيلُ الحلمُ في سواقٍ صغيرةٍ يملأها الطين.

‭ (‬2‭)‬

يدُ الليلِ تمتدُّ إلى قلبي, تدغدغه بأطرافِ الأنامل.

يرتجفُ قليلاٌ, ينتفضُ كثيراً, يسقطُ مثل تفاحةٍ بين قدميّ.

أرى القلبَ يتدحرج على بلاط الغرفة, 

أرى قطَّةً صغيرةً تلتهمه...

هنيئاً لكِ القلبُ - الفأرُ, هنيئاً لكِ الدمُ الباردُ العبيط.

‭(‬3‭)‬

أرى شرفتها تُفتح للتوّ, رأسها الصغير يمتد قليلاً. 

أراها تبتسم, ثم... تغيب ابتسامتها!

أراها تغلق نافذتها... حين رأتني أبتسم.

‭(‬4‭)‬

أرى العصفورَ الصغيرَ مرميّاً ببندقية صيادٍ بعيد.

أراهن على قبلةٍ إن استطعتُ إصابتَه.

كانت الأمكرَ, حين استفزَّتني وقبلت الرهان.

حملتُ الحجرَ الصغيرَ, حملت رغبتي ولونَ شفتيها, صوَّبتُ بثقةٍ وهدوء.

انتفضَ العصفورُ, وطارَ بعيداً... ما إن أفلِتَ الحجرُ من يدي.

‭(‬5‭)‬

أرى حوريَّةَ البحرِ تنزلقُ فوق سطحِ الماء.

أقتربُ قليلاً من الماءِ, أمدُّ يدي, تمدُّ يدَها تتناولني...

 تهبُّ عاصفةٌ مفاجئة, ترتفعُ موجةٌ عالية... قيل أن تلمسِ أصابعي أطرافَ أصابعِها.

‭(‬6‭)‬

أرى عمراً بستاناً أخضر. 

أرى حريقاً.

أرى برعماً صغيراً وسط الحريق... لا يحترق .