الدولة العباسية

الدولة العباسية

خمسة قرون من حكم العباسيين، 132هـ/749م-656هـ/1258م، كانت فيها الدولة الإسلامية «كثيرة المحاسن، جمَّة المكارم، أسواق العلوم فيها قائمة، وبضائع الآداب فيها نافعة، وشعائر الدين فيها معظمة، والخيرات فيها دارّة، والدنيا عامرة، والحرمات مرعية، والثغور محصنة. ومازالت على ذلك حتى كانت أواخرها، فانتشر الجَبْرُ واضطرب الأمر، وانتقلت الدولة». (ابن طباطبا- الفخري، ص150).

أما محاسن الدولة العباسية فكانت باستقرار أمنها ورخاء مواطنيها وكثرة النابغين فيها بالعلوم المتنوعة. وفيها بدأ التدوين المنهجي للعلوم النقلية كتفسير القرآن الكريم وجمع الحديث الصحيح وتدوين الفقه، أصوله وفروعه، والتاريخ والجغرافيا، والعلوم الطبيعية كالفيزياء والرياضيات والكيمياء والطب والفلك، وحظيت العلوم العقلية فيها بكل تقدير كالفلسفة والمنطق وعلم الكلام والنظر. وكان النصيب الأكبر في التدوين للغة والأدب، فإلى جانب ترجمة كتب الحضارات المجاورة للدولة الإسلامية، مثل الفارسية والهندية واليونانية والمصرية، القبطية منها والرومانية، بدأ جمع الأدب العربي، شعراً ونثراً وقصصاً وحِكَماً وأمثالاً. وبعد استقرار حكم الدولة لبني العباس في عهد ثاني خلفائهم أبي جعفر المنصور (136-158هـ/754-785م)، وبعد بناء بغداد لتكون عاصمة الدولة، بدأت المسيرة العلمية حين عَهِدَ أبوجعفر المنصور إلى الإمام مالك بن أنس، كتابة كتاب في فقه العبادات، فصنف له كتاب «الموطأ». وعَهِدَ إلى محمد بن إسحق أن يكتب كتاباً في تاريخ العالم، يبدأه من بداية الخَلق وينتهي بتاريخ عصره، فكتب كتابه الذي احتوى على اثني عشر جزءاً، ضاع كله، ولم يبق منه إلا الجزء الخاص بالسيرة النبوية الشريفة، والذي عُرِف في ما بعد بـ«سيرة ابن هشام». إلا أنّ المؤرخين أشاروا إلى كتاب ابن إسحق ورجعوا إليه في كثير من الحوادث التاريخية. كما أوكل المنصور إلى إبراهيم بن حبيب الفزاري ترجمة كتاب «ساداهنتا»، وهو كتاب «المعرفة» باللغة الهندية، ويُعنى بالجداول الحسابية الفلكية لحركة النجوم والكواكب. وفي عهده قام عبدالله بن المقفع بترجمة كتاب «كليلة ودمنة» عن اللغة الفارسية. ويعتبر النصف الأول من عصر الدولة العباسية هو عصر النهضة العلمية والأدبية والفنية، حيث بلغت حضارة الدولة العباسية أوجها في عهد هارون الرشيد (170-193هـ/786-809م). إنّ النهضة العلمية والأدبية، وتلك النقلة الثقافية التي صعدت بالأمتين العربية والإسلامية لتكونا في قمة الأمم والشعوب حضارة وتمدناً، ما كان لها أن تكون لو لم يتوافر لها مناخ العلم في الأمن والاستقرار من ناحية، وتوافر المواد الأولية في البحث والكتابة من ناحية أخرى. ومن هنا نستطيع القول إن أي حضارة لابد أن تقوم بالاختيار على حرية الفكر من دون ضرر أو ضرار، وفي إطار مكارم الأخلاق التي نصت عليها الشرائع والأديان محيطاً عاماً لدائرة الفكر والإبداع الإنساني، وتوظيف كل متناول من أجل نشر تلك العلوم والآداب. استطاع هارون الرشيد أن ينشئ أول مصنع لصناعة الورق، استخدم فيه خبراء مهرة من الصين، ما أدى إلى خلق صناعة وتجارة جديدتين ساهمتا في نشر المعارف والعلوم بألوانها. إنها «الوراقة»، التي شملت بيع الورق والأقلام والأحبار وتجليد الكتب وتغليفها ونسخها. وبانتشار الكتب وتفنن الممتهنين في مواضيعها، أدباً وعلماً وديناً، ارتفعت ثقافة الأمة واتسعت مداركها.
استطاعت الدولة العباسية أن تُخضع مناوئيها في الداخل، وأعدائها في الخارج، وذلك بإطفاء جذوة الثورات الداخلية من جهة، وحماية حدودها من جهة أخرى. هذا بالإضافة إلى توقيع المعاهدات مع القوى المجاورة، خاصة الدولة البيزنطية، التي عرفها العرب بدولة الروم. وبعد اتساع رقعة الدولة وبُعد الحدود عن العاصمة والقيادة المركزية للدولة، كانت السياسة العامة للدولة هي تعزيز قوة الدويلات الإسلامية التابعة لها، تلك كانت سياسة حكيمة أمَّنت الحفاظ على مدن الحدود وحماية ثغور الدولة. وقد حملت الدولة العباسية على عاتقها نشر دعوة المبادئ السامية للدين الإسلامي، فواجهت مشكلة صادمة تمثلت في حوارها مع موروث فكري وثقافي قديم لحضارات وأديان لها مقالاتها وأطروحاتها الفلسفية الدينية والعقيدية، خاصة في نشأة الحياة والتكوين والخَلق والعقل والنفس وما وراء الموت. وحتى ذلك الوقت، لم يعرف المسلمون الفلسفة، ولم يدخلوا بحرها في أي نوع من أنواع المناظرات والمحاورات الفكرية. ووفقاً للمصادر التاريخية، كان أول طرح فلسفي في الإسلام هو طرح فكرة «الحاكمية» من قِبَل الخوارج في عهد علي بن أبي طالب ، وكان ثانيها في منتصف العصر الأموي عن مفهوم «القدر» الذي استُعير من الفكر المسيحي أصلاً. لذا، كان لزاماً على الدولة آنذاك تبنّي منظومة فكرية متكاملة، تعكس هويتها وهوية مواطنيها، لتكون دستوراً تنبثق منه قوانين الدولة، شريطة أن تنبني هذه المنظومة على الإسلام. وعندما أراد العباسيون الاستعانة بعلماء الدين، لم يجدوا منهم إلا صدّاً، فلم يكن أمام الدولة سوى التصدي للأفكار الفلسفية والقضايا العقلية التي تتعارض شكلاً وموضوعاً مع الدين الإسلامي ودعوته، لذلك فتحت الباب لعلم جديد مزج بين الفلسفة والمنطق والدين، في إطار كان فيه تداول الفلسفة من المحظورات. بدأ «علم الكلام» بالانتشار، تأصيلاً وتفعيلاً، وظهرت مدارس لهذا العلم، كانت أشهرها مدرسة المعتزلة. وعلى الرغم من أنّ بداية هذه المدرسة كانت في أواخر العصر الأموي، فإن حضورها اللافت كان في عهد المأمون العباسي، حين بنَت الدولة منظومتها الفكرية وفقاً للمخرجات التي اتفق عليها علماء هذه المدرسة. إلا أنّ صراعاً قد لاح بذاك الأفق بين مدرسة المعتزلة العقلية، وهي التي أهملت النقل وأعملت العقل، وبين مدرسة أهل الحديث النقلية التي رجَّحت النقل على العقل، وقد أدى هذا الصراع إلى تفريق جمهور الأمة الإسلامية، وبدأ العلماء المنصفون في طرح مقالات تجمع شتات الفرقة. ومن هؤلاء العلماء أبو الحسن الأشعري (ت. 324هـ/936م) الذي تخرج في مدرسة المعتزلة ليرفع شعاراً وسطياً بين مدرستين: «إعمال النقل مع عدم إهمال العقل». وقضى ربك أن تستمر آراء هذه المدرسة الوسطية حتى الآن، يرفع لواء آرائها المستنيرة الأزهر الشريف وعلماؤه الأكابر إلى يومنا هذا.
لقد كان للحرية الفكرية في العصر العباسي آثارها الباقية في جميع ألوان المعارف والعلوم والفنون والأدب، ولم يقف علماء الدولة عند العلوم النقلية والعقلية وقفة نقل وتدوين وتصنيف، بل ابتكروا وأبدعوا مناهج ودراسات ونظريات وعلوماً جديدة، تجلت لنا من كتبهم ومصنفاتهم التي حفظها لنا الزمن. 

العلوم النقلية
نستطيع القول إنّ البدايات الأولى في تصنيف الكتب التي تُعنى بتفسير القرآن الكريم كانت في العصر العباسي، فكتاب «جامع البيان» للطبري، و«الكشّاف» للزمخشري، من أوائل تلك الكتب. ثم إنّ الكتب التسعة التي جُمع بها الحديث الشريف: «الموطأ» لمالك بن أنس و«المُسند» لأحمد بن حنبل وصحيحا البخاري ومسلم وسنن ابن ماجة وأبي داود والنسائي والترمذي ومسند الدارمي، كلها صُنّفت في العصر العباسي. أما في اللغة والأدب، فالأركان الأربعة في الأدب كتبت في العصر نفسه، وهي: «الكامل في اللغة والأدب» للمبرّد، و«البيان والتبيين» للجاحظ، و«أدب الكاتب» لابن قتيبة، و«النوادر» لأبي علي القالي. كما شهد العصر العباسي البدايات الأولى في تصنيف المعاجم: «العين» للخليل بن أحمد الفراهيدي، و«الكتاب» لسيبويه. كذلك جُمع الشعر العربي من لدن المفضل الضبي وعبدالملك الباهلي، المعروف بالأصمعي، في كتابيهما اللذين نسب عنوانيهما إليهما: «المفضليات» و«الأصمعيات». ولا شكّ في أنّ العصر العباسي ضم كوكبة من فحول الشعراء، كالمتنبي وأبي العلاء المعري وأبي تمام وبشار بن برد وأبي العتاهية وأبي نواس، وغيرهم كثير. وفي الفنون ومصنفاتها، برز أبوالفرج الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني، وهو الذي خص الغناء والمغنين في كتابه. كما نقل الفيلسوف يعقوب بن إسحق الكندي عن علوم اليونان في الموسيقى، فألّف كتابه «الموسيقى»، الذي وضع فيه تراتيب النغمات الموسيقية التي كان يعدها ذات صلة وثيقة بالعلوم الطبيعية، خاصة الرياضيات. ومثله صنّف الفيلسوف محمد بن طرخان الفارابي «كتاب الموسيقى الكبير»، وكان عازفاً ماهراً وعالماً بأصول الموسيقى وفروعها. ومن أشهر المغنين في العصر العباسي إسحق بن إبراهيم الموصلي، وهو من أصَّل للمقامات الموسيقية في ذلك العصر. وتتلمذ على يده علي بن نافع، الذي أطلق عليه «زرياب»، على اسم طائر أسود غَرِد، وهو من أضاف الوتر الخامس لآلة العود. أما رسائل «إخوان الصفاء وخلان الوفاء»، وعددها 56 رسالة معرفية وعرفانية وعلمية وثقافية وأدبية وفكرية، فاستهدفت السواد الأعظم من مثقفي العصر، وهي التي كتبت في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري تقريباً.

العلوم العقلية
أسماء كثيرة لعلماء كبار، برزت كأعلام في العصر العباسي، في جميع المجالات العلمية، وصارت كتبهم من المراجع الأولى في ميدان العلم. ومن أمثلة ذلك، في الطب «الحاوي» و«المنصوري» لمحمد بن زكريا الرازي، «القانون» للحسين بن سينا، وجابر بن حيّان مؤسس علم الكيمياء الحديث على التجربة والمشاهدة والاستنتاج في كتابه «الاستتمام». وفي الفيزياء يرتفع اسم الحسن بن الهيثم، صاحب كتاب «المناظر»، الذي غيَّر فيه المفهوم السائد في كيفية رؤية العين للأشياء. ومحمد بن موسى الخوارزمي صاحب كتاب «الجبر والمقابلة»، الذي أصّل فيه علم الجبر كعلم مستقل.
تلك فترة شملت حضارة تميزت بروحها الإسلامية وعطائها الممتد، ولكن لم تمتد دولتها، إذ غلبها سيل الهمجية، وسحقتها جيوش التخلف والإرهاب المغولي عام 656هـ/1258م، فهدمت صروح العلم وأحرقت المكتبات وأغرقت كتب العلوم والفنون والأدب، وأُسِر الخليفة العباسي المستعصم بالله وقُتل، لتنتهي بقتله حضارة سادت العالم آنذاك.