خرافة «موت المؤلف»

خرافة «موت المؤلف»

من‭ ‬المقولات‭ ‬النقدية‭ ‬التي‭ ‬راجت‭ ‬بين‭ ‬الكتاب‭ ‬والناقدين‭ ‬العرب‭ ‬مع‭ ‬رواج‭ ‬البنيوية‭ ‬وما‭ ‬بعدها،‭ ‬في‭ ‬الربع‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬مقولة‭ ‬اموت‭ ‬المؤلفب‭ ‬وهي‭ ‬الصيحة‭ ‬التي‭ ‬أطلقها‭ ‬سنة‭ ‬1968‭ ‬الناقد‭ ‬والأكاديمي‭ ‬الفرنسي‭ ‬رولان‭ ‬بارت‭ ‬
‭ ‬Roland Barthes‭ (‬1915 - 1980)‭. ‬

والمقولات النقدية هي آراء غير نهائية، قابلة للأخذ والرد والدحض، لذلك كلما ظهر منهج جديد في النقد الأدبي، ظهر كرد فعل له، منهج آخر نقيض. ولكنا في الوطن العربي ننظر إلى المقولات النقدية بوصفها حقائق علمية نهائية ثابتة، وليس بوصفها آراء نسبية متحولة، فنسلم بكل ما تقوله وتتحول لدينا إلى عقائد جامدة ما دامت صادرة عن الغرب المتقدم، فنتمسك بها حتى بعد أن تُهجر في الغرب وتظهر مكانها مقولات بديلة. 

والسبب في كل ذلك أننا لا ننظر إلى المقولات النقدية في سياقها التاريخي والثقافي والمزاجي الذي أفرزها، ولكنا نتعامل معها كمفاهيم جامدة صالحة لكل زمان ومكان. والأمر الآخر هو أننا كثيراً ما نغفل عن الدلالات الحقيقية لهذه المقولة النقدية أو تلك. 

ومقولة «موت المؤلف» من المقولات النقدية التي لم نفهمها على حقيقتها، ولعل ذلك من حسن حظنا. لقد فهم المقصود منها أن صلة المؤلف بنصه تنقطع في اللحظة التي يفرغ فيها من كتابة النص، وأن المؤلف لا يجوز له أن يتحدث عن نصه، وإن تحدث فلا يحق له أن يفرض رؤيته وتفسيره الخاص على عمله الأدبي، أما القارئ فعليه ألا يخلط بين النص وحياة المؤلف، وأن يبحث عن معنى النص في داخله لا في سيرة المؤلف. 

الناقد رولان بارت لم يكن يقصد ذلك في مقالته محل البحث.

  

نفي‭ ‬الذات‭ ‬والتاريخ

المقصود بمقولة «موت المؤلف» هو نفي أن يكون النص صادراً عن المؤلف، أو أنه تعبير عن تجربة المؤلف وخبرته في الحياة، والنتيجة نفي الذات المبدعة والإبداع وأصالة المبدع. لا شك في أن هذا كلام غريب وصادم، ولكن هذا ما يدعو إليه رولان بارت صراحة في مقالته «موت المؤلف» التي سوف نعرض لتفاصيلها وحيثياتها هنا. 

وهذه النظرة العدمية للعملية الإبداعية ما هي إلا جزء من نزعة شاملة تقصي ذات الفرد عن مركز الوجود الإنساني، وتنكر أي دور فاعل لها في التاريخ وتحل اللغة مكانها، بحيث تصبح الذات هي نتاج اللغة وليست اللغة هي نتاج الذات، ويتحول العالم وكل شيء إلى نص.

غني عن القول أن الحركة البنيوية انبثقت أصلاً من استثمار وإعادة توظيف وتأويل نظريات فرديناند دي سوسير (1857-1913) في علم اللغة. فسوسير نفسه لم يكن يعلم شيئاً عن شيء اسمه «بنيوية»، ولم يدر بخلده أن نظرياته يمكن أن يعاد تفسيرها لينتهي بها المطاف إلى ما انتهت إليه الحركة البنيوية. 

من المعلوم أن سوسير قد ميز بين الكلام واللغة، واصفاً اللغة بأنها «مؤسسة اجتماعية» والكلام بأنه نشاط فردي، ولدراسة اللغة دراسة علمية يجب علينا - كما يقول سوسير - أن نركز على دراسة وحدات اللغة ونتجاهل الكلام وما يقوله. أما في شأن المعنى فيذهب سوسير إلى أن المعنى ليس كامناً بصورة طبيعية في الكلمة بمفردها، ولكنه وليد تعالق الكلمات واختلافها عن بعضها البعض داخل نظام اللغة. أي إن المعنى لا يوجد خارج النظام اللغوي وإنما هو نتاج لعلاقات الكلمات داخل بنية أو نظام اللغة. 

 ولدراسة الأدب دراسة علمية كما يزعمون، أخذ البنيويون هذه النظريات وطبقوها على نقد الأدب، فقاموا أولا بتعليق الكلام (مضمون وموضوع النص) وإقصاء قائل الكلام (المؤلف)، واكتفوا بتحليل عناصر لغة النص مجردة من أبعادها الدلالية والذاتية والمجتمعية والتاريخية والواقعية. 

وفي تقويمه لحصاد الحركة البنيوية في النقد الأدبي يقول الناقد الإنجليزي البارز تيري إيجلتون، الأستاذ بجامعة أكسفورد: «في اللحظة التي وضعت فيها البنيوية الموضوع الواقعي بين أقواس، وضعت أيضا الذات الإنسانية بين أقواس. يمكن القول إن هذه الحركة المزدوجة تمثل طبيعة المشروع البنيوي. فالعمل الأدبي لا يحيل إلى موضوع ما، كما أنه ليس تعبيراً عن ذات الفرد، وما تبقى نظام من قوانين معلق في الهواء، والقول إن للبنيوية مشكلة مع الذات هو قول ملطف، فالذات تمت تصفيتها فعلاً، وجرى اختزالها في وظيفة. أو قل إن الذات الجديدة هي النظام ذاته وقد أعزيت إليه كل خصائص الفرد التقليدية، مثل الاستقلالية والوحدة والتنظيم الذاتي وغيرها. إن البنيوية ضد الإنسانوية، ليس بمعنى أن أنصارها يخطفون من الأطفال حلواهم، ولكن بمعنى أنهم يرفضون الأسطورة القائلة إن المعنى يبدأ وينتهي بخبرة الفرد». (مقدمة في النظرية الأدبية - الطبعة الإنجليزية - ص98).

وبرغم أن إيجلتون كتب هذا الكلام في سياق تقويم شامل للحركة البنيوية فإن المطلع على مقالة بارت «موت المؤلف» يخيل إليه كأنما إيجلتون قد كتب هذا الكلام بعد فراغه تواً من قراءة مقالة بارت. فكل ما ورد في حديث إيجلتون يجري تأكيده في كل فقرة من فقرات مقالة «موت المؤلف». وفي ما يلي نتناول هذه المقالة بشيء من التفصيل.

 

الخلط‭ ‬بين‭ ‬المستوى‭ ‬الفني‭ ‬والواقعي‭ ‬

نشر رولان بارت مقالته (موت المؤلف) للمرة الأولى عام 1968، وقد أعاد نشرها ضمن مجموعة من المقالات في كتاب يحمل عنوان (الصورة – الموسيقى – النص) وصدرت ترجمته إلى الإنجليزية عام 1977 بقلم ستيفن هيث، وقد اعتمدنا على هذه الترجمة الإنجليزية في هذا المقال.  وتتألف المقالة من ست صفحات من القطع دون المتوسط، وقد مزج فيها بارت بين مقولات البنيوية ومقولات ما بعد البنيوية على النحو الذي يأتي بيانه. 

يبدأ بارت المقالة بإيراد جملة وصفية في قصة «سرازين»، وهي رواية قصيرة للروائي الفرنسي بلزاك، تصف الجملة صورة رجل متنكر في هيئة امرأة بالقول: «هذه هي المرأة بذاتها بكل هواجسها المباغتة ونزواتها غير المنطقية وبكل مخاوفها الغريزية وجرأتها الطائشة وبكل ثرثراتها ورقتها العذبة».

بعد إيراده هذا الوصف يتساءل بارت مباشرة: «من الذي يتحدث هنا؟ هل هو بطل القصة الذي لايزال يجهل تنكر ذلك المخنث في صورة امرأة؟ هل هو بلزاك الفرد مزوداً بتجربته الشخصية في معرفة المرأة؟ أم هو بلزاك المؤلف يفصح عن أفكاره الأدبية في الأنوثة؟ هل هي الحكمة الكونية؟ أم الذهنية الرومانسية؟».

وقبل أن يترك بارت مساحة للقارئ لتأمل التساؤلات التي يفتتح بها مقالته، يباغته على الفور بالإجابة قائلاً: «نحن لا نعرف بالضبط من المتحدث، ولن نعرف لأن الكتابة تحطيم لكل صوت وكل بداية وكل أصل». 

بهذا الحسم اليقيني يصدر بارت حكمه علينا جميعاً بأننا لن نعرف قائل الجملة المقتبسة ومن غير نقاش، من دون تعليل سوى الزعم بأن «الكتابة تحطيم لكل صوت»! ونحن نرى أن هذه التساؤلات ليس لها ما يبررها فنياً وواقعياً ومنطقياً، ففيها خلط ظاهر للأوراق بين المستويين الفني والواقعي. فالراوي أو البطل شخصيات فنية وهمية من إبداع خيال الكاتب، ولا يجوز المساواة بينها وبين المؤلف، كما فعل بارت في صوغه للأسئلة. 

وعلى أي حال، بعد التمييز بين المستوى الفني والواقعي نستطيع أن نتعرف على قائل الجملة التي جرى الاستشهاد بها، فبمنطق الفن المتكلم هو إما الراوي (الأنا السارد) وإما البطل، وهذا يحدده السياق الواردة فيه الجملة بالقصة. ومن حيث الواقع فالمتكلم هو الكاتب والروائي الفرنسي بلزاك بكل تجربته وخبرته في الحياة، وبكل معرفته بالأنوثة وبالحكمة الكونية وبذهنيته الرومانسية بوصفه ذاتاً فردية مبدعة. 

وبارت على يقين منذ أول سطر من المقالة بأن الكاتب والواصف هو بلزاك، حيث يقول: «في قصته - سرازين - يكتب بلزاك واصفاً في الجملة التالية...» ولكنه يريد إقناعنا بأن بلزاك ليس هو المتحدث. المتحدث اللغة! 

يقول: «كان الفرنسي مالارميه أول كاتب ينادي بضرورة إحلال اللغة ذاتها محل الشخص الذي كان ينظر إليه دائماً بأنه سيد اللغة. فبالنسبة إلى مالارميه وبالنسبة إلينا نحن أيضاً اللغة هي التي تتحدث لا المؤلف. أن تكتب هو أن تصل مرحلة تكون فيها اللغة هي الفاعلة والمؤدية».

 

المؤلف‭ ‬فكرة‭!‬

سبقت الإشارة إلى أن إحلال اللغة محل الذات الكاتبة جزء من نزعة شاملة تسعى إلى تقويض مركزية الذات الفردية بوصفها مصدر الإبداع الأدبي، وبوصفها العنصر الفاعل في حركة التاريخ وسلبها كل القيم الإنسانوية التي ناضلت من أجلها طويلاً، وبدأت في تحقيقها في عصر التنوير الأوربي. ولهذا يقول بارت: «المؤلف فكرة حديثة، فهي نتاج مجتمعاتنا التي اكتشفت بعد خروجها من القرون الوسطى قيمة ومكانة الفرد، وذلك بفضل التجريبية الإنجليزية والعقلانية الفرنسية والعقيدة الشخصية لحركة الإصلاح الديني. فكان من الطبيعي أن تحيل هذه الوضعية التي تمثل خلاصة الأيديولوجيا الرأسمالية، أهمية عظمى لشخص المؤلف».

وهنا يكشف بارت عن نزعته الأيديولوجية في مناهضة القيم التي تعلي من شأن الذات، وذلك بوصفها قيماً رأسمالية بورجوازية. غير أن المستهدف بالتصفية ليس ذات المؤلف وحده، وإنما التصفية تستهدف الناقد والتفسير ومعنى النص والموضوع بكل أبعاده الواقعية والاجتماعية والتاريخية لتصبح الدعوة إلى موت المؤلف، دعوة إلى نفي كل عناصر النشاط الأدبي، يقول: «حينما يتم إقصاء المؤلف، تصبح دعوى التفسير بلا طائل. أن تقرن النص بالمؤلف يعني أن تضع حداً للنص، وأن تفرض عليه مدلولاً نهائياً، وبذلك تغلق الكتابة، وهذا يلائم الناقد تماماً. فالنقد يرى مهمته الأساسية في الكشف عن المؤلف – الكشف عن المجتمع والتاريخ والذات والحرية في النص. وعندما يتم اكتشاف المؤلف يتم تفسير النص، وهو ما يعد نصراً للناقد. لذلك ليس غريباً أن يمثل تقويض المؤلف تقويضاً للناقد».

وفي غمرة حماسه يصف بارت ما يدعو إليه بالثورة، بينما يصف ما يقوم به النقد التقليدي من الاعتقاد في المؤلف والموضوع والمعنى والتفسير، باللاهوت: «ترفض الكتابة أن تعزو سراً أو معنى نهائياً للنص، وللعالم بوصفه نصاً، وبذلك تحرر ما يمكن أن نسميه النشاط الثوري المضاد للاهوت، لأن تثبيت المعنى هو رفض لسلطة اللاهوت ولكل تجسداته من عقل وعلم وقانون».

وهو يقصد في إشارته إلى المؤلف وإلى اللاهوت الاعتقاد بوجود المؤلف، وحضور معنى ثابت للنص، ووجود عقل وعلم وقانون يُستند إليه في فهم النص وتفسيره. ورفض كل ذلك هو النشاط الثوري المضاد الذي يقوم به بارت والبنيويون وما بعد البنيويين.

ويمضي بارت في الإصرار على نفي علاقة المؤلف بنصه إلى حد القول: «حينما يعتقد في وجود المؤلف، يعتقد دائما أنه يمثل ماضي كتابه.... يوجد قبله، يغذيه، يفكر ويعاني ويعيش من أجله كما الأب بالنسبة لابنه. أما الكاتب الحديث فيولد بالتزامن مع ولادة النص، ولا مجال له أن يسبق الكتابة».

 

نفي‭ ‬الأصالة‭ ‬والإبداع

إذا كان المؤلف ليس هو الأب الشرعي للنص، يفكر ويعيش ويعاني من أجله إلى حين ولادته، فما مصدر اللغة أو الكتابة التي يتألف منها النص؟ 

وبهذا نكون قد انتقلنا إلى مقولات النصية والتناص. وهذه من مقولات «ما بعد البنيوية» أو التفكيك تحديداً. والنصية Textualty هي الاعتقاد بأن كل شيء نص أو كتابة، فالعالم كله نص! والتناص Intertexualty هو الاعتقاد بأنه لا يوجد نص أصيل، وأن كل نص هو إعادة تشكيل لنصوص أخرى سابقة، وعى الكاتب بذلك أم لم يع، والنتيجة موت المؤلف مرة أخرى ونفي الأصالة والإبداع.

يقول إيجلتون متحدثاً عن النصية والتناص: «كل النصوص محبوكة من نصوص أدبية، ليس بالمفهوم التقليدي بمعنى التأثير والتأثر، ولكن بالمفهوم الأكثر جذرية، حيث إن كل كلمة وكل عبارة وكل مقطع هو إعادة إنتاج للكتابات الأخرى السابقة والمحيطة بالعمل الأدبي. فلا شيء يسمى أصالة أدبية، ولا يوجد عمل يمكن أن يوصف بأنه العمل الأول. وكل الأدب هو تناص». (مقدمة في النظرية الأدبية ص 119).

وكل ذلك يؤكده بارت في مقالة «موت المؤلف» في أكثر من موضع: «النص... فضاء متعدد الأبعاد، حيث تمتزج فيه وتصطرع كتابات مختلفة ليس من بينها ما هو أصيل... النص نسيج من الإحالات والاقتباسات المستقاة من بؤر ثقافية لا حصر لها». ثم يقول: «يتألف النص من كتابات متعددة مقتبسة من ثقافات مختلفة تدخل في صراع وفي علاقات حوارية ومجازية متبادلة في ما بينها». 

ولكن لو سلمنا جدلاً بذلك، فالسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: من الذي أتى بهذه الكتابات المختلفة ونسج منها النص؟ بل من الذي أنتج النصوص والكتابات السابقة التي يتألف منها النص؟ أليست الذات الإنسانية؟!

من المفارقات أن بارت بعد أن أقصى المؤلف وكل العناصر الأساسية للعمل الأدبي، أبقى على القارئ. ولكنه لم يتعطف عليه بالبقاء إلا بعد أن جرده من كل مقوماته الحياتية والإنسانية. يقول: «القارئ هو الفضاء الذي تنقش عليه كل الإحالات التي تتألف منها الكتابة من دون أن تفقد هويتها... فالقارئ بلا تاريخ وبلا سيرة وبلا سيكولوجية، هو فقط الشخص الممسك بكل الآثار التي يتشكل منها النص المكتوب... فمولد القارئ يجب أن يكون على حساب موت المؤلف».

الجملة الأخيرة في هذه الفقرة هي ختام مقالة رولان بارت.

 

رد‭ ‬الاعتبار‭ ‬إلى‭ ‬الذات‭ ‬والمعنى

بعد أفول نجم الحركة البنيوية في الغرب مع نهاية حقبة ستينيات القرن الماضي. وبعد انحسار بريق التفكيك في الغرب مع نهاية عقد الثمانينيات، اتجهت النظرية النقدية في الغرب إلى التأويل (الإيطالي إمبرتو إيكو مثالاً) وإلى نظريات القراءة والتلقي وإلى تيارات مثل التاريخانية الجديدة والنقد ما بعد الكولونيالي والنقد الثقافي. وهذه الاتجاهات ليست كلها جديدة تماماً، ولكنها جميعاً ترد الاعتبار إلى كل عناصر النشاط الأدبي والنقدي، وعلى رأسها المؤلف بوصفه مصدر النص ومبدعه، وإلى المعنى والموضوع والقارئ وإلى كل السياقات التاريخية والاجتماعية والثقافية للنص. ولم يعد هنالك في الغرب من يتحدث عن «موت المؤلف»، سواء بالمفهوم الذي طرحه بارت، كما رأينا، أو بالمفهوم الذي فهمناه عنه نحن في العالم العربي .