إليف شافاق وفلسفة الخلاص الصوفية

إليف شافاق وفلسفة الخلاص الصوفية

هل‭ ‬تستطيع‭ ‬تعريف‭ ‬الحب‭ ‬بكلمة‭ ‬واحدة،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬عبارة‭ ‬كاملة؟‭ ‬إنه‭ ‬سؤال‭ ‬صعب‭ ‬وإجابته‭ ‬أصعب،‭ ‬وكذلك‭ ‬هي‭ ‬الصوفية‭ ‬التي‭ ‬يُمَثِّلُ‭ ‬الحب‭ ‬جوهرها،‭ ‬صعبة‭ ‬التعريف‭ ‬والتفسير،‭ ‬فربما‭ ‬في‭ ‬تفسيرها‭ ‬انتقاص‭ ‬من‭ ‬قيمتها،‭ ‬وربما‭ ‬يتطلب‭ ‬شرحها‭ ‬قراءة‭ ‬مجلدات‭ ‬والاستغراق‭ ‬في‭ ‬تجارب‭ ‬وحيوات‭ ‬أخرى‭.‬

من‭ ‬هنا‭ ‬تحديداً،‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الغموض‭ ‬والسحر‭ ‬اللذين‭ ‬يكتنفان‭ ‬هذا‭ ‬الفكر‭ ‬الفلسفي،‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬حاجة‭ ‬العالم‭ ‬المادي‭ ‬المُلِحة‭ ‬إلى‭ ‬الروحانيات‭ ‬كسبيل‭ ‬للخلاص،‭ ‬انهمر‭ ‬النجاح‭ ‬الساحق‭ ‬على‭ ‬رواية‭ ‬اقواعد‭ ‬العشق‭ ‬الأربعونب،‭ ‬الصادرة‭ ‬عام‭ ‬2010‭ ‬للكاتبة‭ ‬التركية‭ ‬إليف‭ ‬شافاق‭ ‬التي‭ ‬ألَّفت‭ ‬14‭ ‬كتاباً،‭ ‬بينها‭ ‬9‭ ‬روايات،‭ ‬والتي‭ ‬تكتب‭ ‬بالتركية‭ ‬والإنجليزية،‭ ‬وقد‭ ‬ترجمت‭ ‬أعمالها‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬30‭ ‬لغة،‭ ‬وبيع‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مليون‭ ‬نسخة‭.‬

الروائية، على الرغم من إنتاجها الغزير وهي لاتزال شابة، ظلت مغمورة حتى صدور هذه الرواية الجميلة، فطغى اسمها على ابن بلدها، وزميل مهنتها، الروائي أورهان باموق الذي فاز بجائزة نوبل للأدب عام 2006 عن روايته البديعة «اسمي أحمر».

الرواية في جوهرها عبارة عن قصتين منفصلتين، واحدة عن امرأة يهودية، أم لثلاثة أبناء، أربعينية، تعيش حياة روتينية رتيبة، مع زوج متعدد العلاقات النسائية، لكنها تتعايش مع هذه الحقيقة ولا تحرك ساكناً. متفانية في أدوارها الثلاثة، كربَّة منزل وأم وزوجة، حتى حدث ما حرك بحيرتها الراكدة، وقلب حياتها رأساً على عقب «إذا ألقيت حجراً في بحيرة، فلن تعود ذاتها مرة أخرى»، وذلك حينما قرأت رواية «الكفر الحلو»، وهذه هي الرواية الثانية، لروائي أوربي مغمور اسمه عزيز زاهارا، تحكي عن العلاقة النادرة الشديدة الخصوصية التي جمعت بين الشاعر جلال  الدين الرومي، وشمس التبريزي، الدرويش المميز، المجهول، المليء بالفضائح والمفاجآت»، صداقة فريدة متينة شبهها الصوفيون في القرون التالية بـ«اتحاد محيطين اثنين»، لتجد نفسها واقعة في حب الكاتب المسلم الصوفي، وينتهي بها الأمر بطلب الطلاق بعد 20 عاماً من الزواج، تاركة حياتها كلها خلفها، الزوج والأولاد، لتلحق بالحب الذي غيرها وغير مسار حياتها تماماً، حتى بعد أن ذهب المحبوب! وكما جاء على لسان الراوي: «لن يكون مجرد كتاب عادي، بل كتاب سيغير حياتها، وأنها عندما تقرأه، سيعيد كتابة قصة حياتها».

زمنان يمشيان في خطين متوازيين، يفصل بينهما ثمانية قرون تقريباً، زمن البطلة التي تعيش في القرن الحادي والعشرين، والتي تبدأ قصتها مع عزيز منذ 18 مايو 2008، وحتى 7 سبتمبر 2009، بعد أن يكون قد مات. والزمن الآخر، هو القرن الثالث عشر، بداية بعام 1242، ثم عندما يتقابل الرومي مع شمس عام 1244، ثم مقتل شمس عام 1248، ونهاية بعام 1260، والرومي يتحدث عن نفسه وكتابه «المثنوى».

ورغم طول المدة الزمنية الفاصلة، فإن الأحداث تتكرر وتتشابه، وكأنه لا قيمة للزمن أو لدروس التاريخ، وكما يقول عزيز عن روايته «أحداثها تسري على جميع البلدان والثقافات والقرون... وبأشكال عدة، لا يختلف القرن الحادي والعشرون كثيراً عن القرن الثالث عشر. وسيدون في التاريخ أن هذين القرنين كانا عصر صراعات دينية إلى حد لم يسبق له مثيل، ساد فيه سوء التفاهم الثقافي، والشعور العام بعدم الأمان والخوف من الآخر، فالقرن الثالث عشر الميلادي كان مفعماً بالصراعات الدينية، والنزاعات السياسية والاقتتال على السلطة في منطقة الأناضول؛ حيث احتل الصليبيون القسطنطينية وعاثوا فيها فساداً وهم في طريقهم لاحتلال القدس، وقسمت الإمبراطورية البيزنطية، وفي الشرق انتشرت جيوش المغول، بينما كانت القبائل التركية المختلفة في وسط الأناضول تتحارب في ما بينها»، والآن نجد أنفسنا نجابه ظروفاً مماثلة، ربما تغير شكل الحروب، واختلفت أسماء العدو، لكن يظل التهديد والخوف والقتل والدمار.

 

أقسام‭ ‬الرواية

الرواية مقسمة لخمسة أجزاء هي عناصر الكون الأربعة (تراب، ماء، ريح، نار)، بالإضافة إلى عنصر خامس يؤمن به الصوفيون وهو «الفراغ»، والأقسام الخمسة مقسمة لفصول. 

في الفراغ أو العدم، ثمة وجود، فالعشق الحقيقي لا يغير المرء في حالة وجوده فقط، ولكن أيضاً يغيره في حالة الغياب، فالحب في رواية «الكفر الحلو» قد غير الرومي العالِم والفقيه المبجل، المتبحر في علوم الدين، الذي يستمع إلى خطبته العامة كل يوم جمعة في قونية، عندما قابل شمس التبريزي، أصبح شاعراً صوفياً زاهداً، يعلم المعنى الباطني للقرآن الكريم، وليس ظاهر القول منه، يصبح قلبه أكثر رقة، مفعماً بالعشق الإلهي. أيضاً البطلة إيلا التي تعيش في أمريكا، والتي لم تعرف الحب يوماً، ولا المجازفة، غير عابئة بحياتها المملة التي لم تفكر في تغييرها، لكن بعد أول رسالة إلكترونية من عزيز، يُشرع قلبها للحب، «ماء الحياة»، كما قال الرومي، لتدرك على نحو ما «أنها على الرغم من قلة خبرتها وخجلها، ستتخلى عن كل شيء ذات يوم»، وتتيقن من عبارة عزيز التي قالها لاحقاً: «هل خطر في بالك أن تبادلنا الرسائل قد لا يكون ناجماً عن الصدفة؟»، فلا مجال للصدفة عند الصوفيين، فقد خلق الله كل شيء بدقة وترتيب متناهيين، فلا شيء يأتي متأخراً، هو فقط يأتي في توقيته المحتوم، حيث لا تقديم أو تأخير.

كانت إيلا تُمَثل الرومي، كما مَثل عزيز شمس التبريزي. ولم يكن شمس لينجح في مهمته (نقل علمه للشخص الذي يستطيع نشره للناس)، إن لم يكن الرومي مهيئاً لذلك، أيضاً لم يكن عزيز لينجح في مهمة تغيير شخصية إيلا، لو لم تكن هي مستعدة لذلك، وهنا نستطيع أن نتكلم عن الإمكانات المخفية في أعماق الفرد ولا يعلم عنها شيئاً إلا بالتجربة، والعميق منها.

 

دعوة‭ ‬للتعايش

الرواية في مجملها دعوة للحب والتعايش وقبول الآخر ونبذ التشدد والفرقة الدينية، فـعزيز يؤمن بأن جميع الحروب الدينية في جوهرها «مشكلة لغوية»، وعندما يسيء أحدهم فهم الآخر، تبرز المشكلة، وأنه «يمكن أن تكون أشد قناعاتنا ناجمة عن سوء فهم بسيط، وبصورة عامة يجب ألا يكون المرء متشدداً ومتصلباً في أي شيء، لأنه لكي يعيش المرء لابد من أن يغير الألوان باستمرار». أيضاً يقول شمس: «الفكر يربط البشر في عقد، لكن الحب يذيب جميع العقد»، إذن الفكرة تستعبد الفرد والحب يحرره.

وتعزيزاً للدعوة السابقة، نجد في الرواية تمازجاً فريداً بين الأديان يكاد يدمجها في بوتقة واحدة، وكأن كل دين امتداد للآخر، أو وجه آخر له، متجاهلاً الخلافات الشكلية، ناصباً عينيه فقط نحو الجوهر، فبينما «المسيحيون واليهود والمسلمون يتشاجرون حول الشكل الخارجي، فإن الصوفي يبحث عن الجوهر». «الأديان كالأنهار، تصب جميعها في البحر نفسه»، فعزيز أسلم في السبعينيات، وإيلا اليهودية تحب عزيز المسلم، والرومي المسلم متزوج من مسيحية، والأديان الثلاثة تستظل بمظلة واحدة تحتويهم جميعاً وهي الصوفية.

الرواية مليئة بالحكايات الصغيرة الدالة التي كانت دوماً ما تأتي على لسان شمس لتعضيد فكرته، أيضاً مليئة بالتشبيهات والاستعارات الشاعرية والموحية، ما يضع القارئ في جو صوفي مليء بالتأمل والصفاء والعلو الروحي والسلم الداخلي، فعلى سبيل المثال نجد أن الصديقين في هذه القصة يشبهان دودتي قز، وذلك حينما انسحب شمس والرومي إلى شرنقة العشق الإلهي، ولم يخرجا منها إلا عندما حان وقت إتمام نسج الحرير الثمين، لكن في النهاية، وليكون الحرير مكتملاً، لا يشوبه أي خدش، يجب أن تموت دودة القز وهي داخل الشرنقة، أيضاً كما جاء على لسان شمس، فحينما تكسر إحدى الجرتين، فإن الجرة الأخرى تنكسر أيضاً، دلالة على الوحدة التي كانتا تكوناها معاً، فبعد موت شمس، نجد أن الرومي قد انكسر بشكل ما.

 

قواعد‭ ‬العشق

«إن سافرت في داخلك، فسيكون بوسعك اجتياز العالم الشاسع» إحدى القواعد الأربعين التي طبقتها إيلا، التي ما إن تأكدت من حقيقة مشاعرها بعد أن تخلل الحب مسامها، فأفرز إفرازاً آخر، حتى عرفت طريقها أخيراً، «لو بقينا ذات الشخص قبل أن نحب، وبعده، فهذا يعني أن حبنا لم يكن كافياً».

«حياتك حافلة، مليئة، كاملة، أو هكذا يخيل إليك، حتى يظهر فيها شخص يجعلك تدرك ما كنت تفتقده طوال هذا الوقت، مثل مرآة تعكس الغائب لا الحاضر، تريك الفراغ في روحك، الفراغ الذي كنت تقاوم رؤيته»، هكذا كان الرومي قبل شمس، وكانت إيلا قبل عزيز، هكذا هو الافتقار إلى العشق، ذلك الهيام ... الشغف الذي تقدمه الرواية كقيمة مطلقة وأساسية، وربما خلاص وحيد، «لا تسأل نفسك ما العشق الذي تريده، روحي أم مادي، إلهي أم دنيوي، غربي أم شرقي، فالانقسامات لا تؤدي إلا إلى مزيد من الانقسامات، ليس للعشق تسميات ولا علامات ولا تعاريف، إنه كما هو، نقي وبسيط».

تقول الروائية: «في واقع الحال، لم تكن هناك نهاية، فبعد مضي زهاء ثمانمائة سنة، لاتزال روح شمس وروح الرومي تنبضان بالحياة حتى يومنا هذا، تدوران في وسطنا في مكان ما»، وبالفعل نجد أن الرومي أصبح يمثل «صوت الحب» في العالم كله، والجدير بالذكر أنه أشهر الشعراء الصوفيين المسلمين في أمريكا.

يقول مترجم النص السوري الجنسية خالد الجبيلي، : «تتناول الرواية العشق والحب  بين الشرق والغرب، والماضي والحاضر، والروحي والدنيوى». بالفعل تقوم الرواية على فكرتين أساسيتين، واحدة دينية (روحية) والثانية دنيوية (مادية)، وهما: قصة العشق الإلهي غير المتحقِق إلا بعشق مخلوقاته جميعها، والعشق بين الرجل والمرأة، الذي يفتح آفاقا شتى، كاسراً كل القواعد التي تعوق طريقه.

الرواية متعددة الأصوات، فكل شخصية تتكلم عن نفسها، بالإضافة إلى صوت الراوي العليم.

الروائية تمتلك حساً سردياً فريداً وشائقاً، فتظل تلهث معها حتى آخر حروف الرواية. 

في كل رواية، هناك عيب ما، دائرة غير محكمة الغلق، شيء يفتقد الواقعية، تاريخ منقوص، وهو شيء عادي ومفهوم، فالإبداع البشري، يصعب وصفه بالكمال، لكني أجد أن هذه الرواية لا ينقصها شيء!

ارتقى الصوفي بفهمه الباطني لجوهر الدين («دين الحب وليس دين الخوف» كما قالت الروائية في أحد اللقاءات التلفزيونية)، فالصوفيون يحبون الله «لا خوفاً من العقاب في نار جهنم، ولا رغبة في الثواب والمكافأة في الجنة، بل يحبون الله لمجرد محبته الخالصة، محبة نقية وسهلة، غير ملوثة، خالية من أي مصلحة».

من هنا تجدر الإشارة إلى أن العالم الإسلامي في أمسِّ الحاجة إلى مثل هذه النوعية من الروايات التي تلقي الضوء على الوجه السمح والحقيقي للإسلام الذي ينتصر للإنسانية وللفكر الحر المتقدم، الإسلام العالمي الذي يعلي القيم الجمالية، والذي لا يدعو إلا للحب ولا شيء غيره، لجهاد النفس بتنقيتها من النقائص، لنصل إلى معرفة أنفسنا، ومن ثم معرفة حقيقة الله .