آخر رحلات أنيس منصور

آخر رحلات أنيس منصور

    نعم... كانت هذه آخر رحلة لصاحب أشهر و«أعجب الرحلات في التاريخ»، حيث رحل عنا في الحادي والعشرين من أكتوبر عام 2011 - وهو الذي ولد في مدينة المنصورة في الثامن من أغسطس عام 1925 - لكنه في هذه المرة، لن يكتب أو يحكي لنا بأسلوبه المميز، عن وقائع ونتائج رحلته الأخيرة، فقد مات خلال هذه الرحلة أنيس منصور، الذي ملأ الدنيا ثقافة وأدباً وفناً وفلسفة، وحِراكاً فكرياً وثقافياً، لمدة لا تقل عن ستين عاماً بلا توقف! مات الرجل عن عمر يناهز السابعة والثمانين. ومن يطالع «مواقفه» في عدد جريدة «الأهرام» الصادر في 18 أكتوبر، أي قبيل وفاته بأيام معدودة، فكأني به يقرأ بيت الشاعر زهير بن أبي سلمى القائل:
 سئمت تكاليف الحياة ومن يعش    
ثمــانين حــولاً لا أبا  لك  يســأم 

أديب... صحفي... سياسي!
إذا كان التصنيف من الأمور المهمة بالنسبة للعلماء والفلاسفة، طبقاً لطبيعة عملهم وعلمهم، فهو أيضاً هواية معظم الناس، لا يستريحون حتى يصنفوا الآخرين، وإذا أخذنا مثالاً لذلك في مجال واحد من المجالات الكثيرة كحقل الأدب مثلا، فسنجد أنهم يشيرون إلى هذا الأديب بأنه روائي أو قاص، أو مسرحي، أو شاعر أو كاتب مقال، أو كاتب تراجم وسِيَر، أو مُترجم للأدب، ولمذكرات كبار السياسيين والزعماء، أو مهتم بالثقافة العلمية، وهكذا... ومثلما أتعب العقاد مُصنِّفيه، فقد فعلها تلميذه النجيب أنيس منصور أيضاً. 
 هو نفسه كان يعلن أنه أديب في بلاط صاحبة الجلالة، أو أنه دخل دنيا الصحافة من بوابة الأدب، أو كما قال أستاذه لويس عوض: أديب ضل طريقه إلى الصحافة، والصحافة لا يمكن أن تنفصل عن السياسة، فكأنه دلف إلى الصحافة من عباءة الأدب، ثم دلف إلى السياسة من دهاليز الصحافة. ونحن لا ننسى أننا قرأنا معظم مؤلفاته الشهيرة على هيئة مقالات أو فصول كان ينشرها في الصفحة الأخيرة في صحيفة «أخبار اليوم» لسنوات طوال، حتى أننا كنا نجمعها ونجعلها على هيئة ملفات تحت العنوان العام ذاته الذي اختاره لها.

الشخصية المغناطيسية الموسوعية 
 وعلى هذا، فأنيس منصور هو آخر الموسوعيين الكبار في وطننا العربي، وهو واحد من أكثرهم قراءة، أو كما قال عنه د. طه حسين: أفضل قارئ في مصر. وقد ساعدته إجادته للغات عدة على تنويع مصادره المعرفية تنوعاً كبيراً، ما جعله يكتسب أسلوباً مُميزاً قد لا يشاركه فيه أحد ممن أوقفوا ثقافتهم على لغتهم أو لغة أجنبية واحدة إلى جوارها، وقد أضفى هذا على أسلوبه مِسحة إنسانية عامة، وأكسبه تعبيرات متنوعة، لا توجد في لغة واحدة، مهما بلغت من السعة والثراء.  
   أنيس منصور من القلائل الذين تتشابه أحاديثهم مع كتاباتهم، فكأنك وأنت تقرأه تستمع إليه، وحينما تستمع إليه كأنك تقرأه، والمعنى من وراء هذا أنه كان في معظم الأحوال حكَّاءً ماهِراً، ذا حديث طلي وكلام شجي، وفوق هذا فقد كان صاحب ذاكرة حديدية، لا تفوته شاردة أو واردة، فكان يرسم المشهد من جميع أبعاده بريشة فنان، والأجدر من هذا أنه كان يخرجه إخراج فنان شامل متكامل متمرس، بالصوت والصورة والخلفية والأبعاد النفسية والموسيقى التصويرية، فيشعر السامع أو القارئ أنه لا يطلعُ على الحدث فحسب، إنما يعايشه أيضاً!
  وقد فُتِنْتُ بكتاباتِه منذ ستينيات القرن الماضي، لدرجة أني كنت أجمع الصفحة الأخيرة، التي كانت تحتضن مقاله الأسبوعي في صحيفة «أخبار اليوم»، وقد ظللت أفعل هذا مع معظم سلاسل المقالات، التي كان عادة يكتبها في موضوع واحد، ثم يجمعها ليطبعها ككتاب مستقل، فعلت هذا مع سلسلة مقالات: «أوراق على شجر»، و«الإنسان قرد عريان»، و«وكانت الصحة الغالية هي الثمن»، و«طلع البدر علينا»، و«مع أطيب تحياتي من موسكو»، و«أعجب الرحلات في التاريخ»، و«التاريخ أنياب وأظافر»، و«بلاد الله خلق الله»، و«عبدالناصر المفترى عليه والمفتري علينا»، و«الخبز والقبلات»، و«من أول نظرة»، و«أرواح وأشباح»، وغيرها، مع أنني كنت أحصل على نسخة من كل كتاب من هذه السلاسل من المقالات بمجرد ظهورها على هيئة كتاب مطبوع، لكنني مع هذا ظللت أفعل الشيء نفسه مرات ومرات!    
  وأشهد أني ما استمعت يوماً إلى حوار للأستاذ، في برنامج إذاعي أو تلفزيوني، إلا وكنت أتمنى أن تتجمد العقارب المجنونة للساعة، التي أشعر أنها تُضاعف من نشاطها في أثناء حديث الأستاذ، لينقضي نصف الساعة أو الساعة وكأنها خمس دقائق لا تزيد، وما كنت أتضجر من شيء تضجري من سؤال أو مقاطعة للأستاذ تقطع حبل كلامه، وتحد من استرساله وتدفقه، أو تحول دون توضيحه لموضوع معين أو استكماله لملحوظة بذاتها، فقد عايش أجيالاً من كبار مثقفينا، ووقف على ما لم يقف عليه كثيرون من تصرفاتهم وسلوكهم وتعليقاتهم، وكل هذه الأشياء مهمة لمؤرخي الأدب، والمهتمين بأمور الفكر والثقافة، فهذه الأبعاد لها مدلول خاص، وذات أهمية لا يفطن إليها المستمع العادي أو قارئ السطور بشكل مباشر، في حين أن كشف المستور عما تضمنته السطور - فضلاً عما بين السطور ذاتها - هو من الأمور التي تهم العاملين بمجالات الثقافة ودنيا الأدب وعالم الفكر الرحيب. 
  إن دنيا أنيس منصور الثقافية واسعة، بل إنها عبارة عن حديقة مترامية الأطراف لا يكاد يُرى أولها من آخرها، ومع هذا فهي مزدحمة بكل صنوف أشجار الفكر والمعرفة والثقافة والأدب، المتشابك بعضها مع بعض، بحيث يستحيل عليك أن تفصل أو حتى تفاضل بينها، فهذه مثمرة، وتلك مزهرة، وأخرى مونقة، ورابعة كثيفة كثيرة الفروع والأغصان، فهي ظليلة مورقة، تفيء إليها لتستظل تحتها من سخونة الحياة ولهيبها اللافح... وهكذا، فلكلٍ منها سماتها ومميزاتها ووظائفها وأدواتها.  
    ولهذا، يعجب المتصفح للقائمة الطويلة من أعمال الأستاذ، وكيف أنه لم يترك مجالاً من مجالات الفكر والأدب والفلسفة والتاريخ والجغرافيا، والفن والتراجم، بل والدين بجوهره وفلسفته، ثم الترجمة الأدبية والسياسية، وغيرها من مساحات الثقافة العريضة، والفكر بمجالاته الرحبة المتعددة. 
  والذي لا نشك فيه أن هذا اللون من الكتابة الموسوعية، أو لِنَقُلْ هذا التمدد الفكري - أفقياً - قد أضرَّ كثيراً بالأستاذ وبفكره، وأثر كثيرا على تعمُّقه وريادته في أيِّ مجال من هذه المجالات إلا في أدب الرحلات الذي شهد تطوراً على يديه.

أدب الرحلات 
  أما أدب الرحلات، فكان فيه العَلَم المُبرِّز بلا منازع. كما كان محل إعجاب من جميع المثقفين على اختلاف أجيالهم وأعمارهم، إلا أن اللافت للنظر أنه كان في كل مراحل حياته كاتب الشباب الأول، حتى إنه كان في هذا الصدد يمثل ظاهرة تذكرنا في عالم الفن الجميل بظاهرة عبدالحليم حافظ، الذي ظل مطرب الجماهير، والشباب منهم على وجه الخصوص، في حياته وبعد مماته، من خلال استفتاءات واستطلاعات للرأي ظلت تجرى لسنوات طويلة بعد رحيله. فما السبب في هذا؟ ربما لأنه كان يرتحل بهم ومعهم في مشاكلهم وأحلامهم وخواطرهم، ويشاطرهم وجهات نظرهم، فيكتب لهم بالشكل الذي يفهمونه من دون تعمق أو تفلسف أو غوص في المعاني العويصة التي تستوجب إعمال الفكر والعقل، وإجهاد النفس للحصول على المعاني البعيدة والأفكار المراوغة! وربما بسبب هذا «التمدد الأفقي» كان أحياناً يكرِّر نفسه، أو تتقاطع بعض كتاباته مع بعضها الآخر من دون أن يفطن لذلك!

كاتب الشباب الأول
 لم تأتِ هذه الظاهرة من فراغ بالنسبة لأنيس منصور، فهو كاتب عصري، بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ، فهو يهتم بمسائل العصر ومشكلاته، كما يهتم على وجه الخصوص بالشباب، وكأنه يكتب لهم خصيصاً. فالشباب يحب السرعة، والسهولة والسلاسة، فليست القراءة وحدها هي محل اهتمامه الأول، فله كثير من المسائل الأخرى التي تشغل معظم مساحاته الزمنية، وتستنفد طاقاته النفسية والفكرية والجسمانية، لذا فهو حينما يُقبل على القراءة يفضل أسلوب «السندويتشات الثقافية»، والكبسولات الفكرية، التي برع فيها الأستاذ مثل كتابه: «قالوا» بأجزائه المتعددة.
 وأنا أعتقد أن روحه الشابة التي كانت تستعصي على الشيخوخة وترفضها هي السر الحقيقي وراء افتتان الشباب به، أو أنه كان يقاوم الشيخوخة بالتصاقه فكرياً وثقافياً بالشباب، تماما مثل أستاذه سقراط الذي افتتن به الشباب وأحبوه وأعرضوا عن غيره من كثير من فلاسفة اليونان الذين حاكوا له المكائد، واتهموه بإفساد الشباب وقدموه للمحاكمة! 
   وهو أيضاً مثل ماركيز، فيلسوف الشباب في القرن العشرين، بينما كان هو مُشارف على الثمانين من عمره! وقد كتب الرجل بالفعل كتابات اختص بها الشباب، ناقش فيها قضاياهم واهتماماتهم، ولم يضق ذرعاً بتهورهم أو نزقهم، بل كان يشعر بأحلامهم وتطلعاتهم، ويرى أنها في معظمها مشروعة. ومن هذه الكتب على سبيل المثال: «شباب... شباب»، و«مذكرات شاب غاضب»، و«مذكرات شابة غاضبة»، و«جسمك لا يكذب»، و«الحنان أقوى»، و«من أول نظرة»، و«ألوان من الحب»، و«هموم هذا الزمان»، وكثير غيرها. 

أسلوبه  
 ربما كان أسلوب أنيس منصور هو أحد أهم هذه الأسباب، وهو الذي كثيراً ما كان يردد مقولة أستاذه سقراط: «تكلم حتى أراك»، فالرجل عنده هو أسلوبه، وقد كان له أسلوبه الفريد، الذي تعمده منذ بداياته، ولهذا قصة طريفة أتذكرها الآن، وبهذه المناسبة فقد ظل يروي هذه الحكاية ويرددها صاحب «وداعاً أيها الملل» مرات ومرات، حتى اعتادتها منه الأذن دون ملل! يقول الأستاذ في هذه القصة: كنت قد كتبت مقالاً في جريدة «الأساس» عنوانها «معنى الفن عند تولستوي». قرأه الأستاذ العقاد، وفي صالونه يوم الجمعة التالي قال لي: «أنا عجبني المقال... وأنا مبسوط جداً». ثم تحدث عن الأسلوب وعلَّق عليه، فتوقفت عن الكتابة شهراً كاملاً، أعيد كتابة المقال حتى وصل عدد كتابتي له إلى 28 مرة، وفي كل مرة أجرِّدُه من المصطلحات الفلسفية والمفردات الغريبة، ولذلك ترى مفرداتي اللغوية قليلة جداً. فأنا لي هدف واحد هو أن أكون مفهوماً عند أقل الناس ثقافة، وهذا لم يتيسر لي جيداً إلا حينما عمِلتُ بالصحافة. 
 وهكذا... فقد ابتعد الرجل عن كل الملامح والصفات الكتابية التي كانت تعجب أستاذه العقاد، على الرغم من افتتانه به، وحبه له، وتشيعه لكل ما كتب الرجل، إلا أنه لم يُرِدْ لنفسه أن يكون نسخة من أستاذه العقاد، في تقعره وتفلسفه، وجزالة ألفاظه وغرابتها كما يشعر كثيرون، ويعبرون له عن ذلك!
 ومن الطرائف - أيضاً - التي جعلته يُمْعِنُ في اختيار الأسلوب السهل المفهوم في الكتابة، ويؤثره على غيره من الأساليب الغريبة المتقعرة، أن أستاذه - الذي يجله كثيراً - د. عبدالرحمن بدوي، حينما حضر مؤتمراً للمستشرقين حول الفلسفة في ألمانيا، وأراد أن ينشر عنه مقالاً سلمه للأستاذ أنيس، الذي أعطاه بدوْره للأستاذ مصطفى أمين - المسؤول عن النشر - فما كان منه إلا أن رفض نشره، فأخذ أنيس المقال، ثم أعاد كتابته بأسلوبه، فنشِرَ في الصفحة الأولى!   
   ومثلما كانت أحاديثه طلية شائقة، كذلك كانت كتاباته، حتى وهو يكتب في أعوص المسائل كالفلسفة مثلاً، أو المسائل المُمِلَّة للشباب، كالسياسة وما يشبهها، لكن أسلوبه وطريقة عرضه المثيرة هما الجاذبان! فهو كالبائع الذكي، الذي يهتم بالتغليف، وطريقة التعبئة، مهما كانت طبيعة السلعة، لذا تجد «الزبون» الذي يُقبل عليها ويُفضلها على غيرها. 
  فهو صاحب عبارة قصيرة، رشيقة، جذابة، بسيطة، وفي الوقت ذاته مُعبِّرة عما يريد أن يقول على كل المستويات. وهو أيضاً صاحب قاموس لغوي خاص ومختزل، يُذكِّرُني بطبعات كتب سلسلة «السلم» الأمريكية The Ladder Series Books التي كان المشرفون على إصدارها 
يشيرون - مع كل كتاب يُصدِرونه - إلى أن كلماته لا تزيد على ألفي كلمة، مهما كانت طبيعة الموضوعات التي تتناولها هذه الكتب، وحداثتها أو قِدَمِها! فهو لا يبحث عن الحوشي من الكلمات ليوشي بها مقاله، أو يصدم القارئ العصري بما لا يعرف منها، لكي يصبح في نظره من كبار الكتَّاب الذين يقولون كلاماً فخماً ضخماً، ولا يهم بعد هذا، أفهم القارئ أم لم يدرك شيئاً؟! 
 وهو على الرغم من إجادته لغات عدة، ومعرفته لغات عدة أخرى، لم يكن يُقحم الكلمات والعبارات الأجنبية في كتاباته، إلا عند الضرورة القصوى، التي تستوجب ذلك. فهو من هذه الناحية، بريء من تلك العُقدة التي أصابت كثيرين، ممن جُبلوا على إقحام الكلمات الأجنبية في كتاباتهم وكأنهم يوشُّونَها بها، وهم في الحقيقة يُشوِّهونها، ولكنهم لا يشعرون!
  وربما كانت إجادته لتلك اللغات الكثيرة، عاملاً مُهِماً من عوامل ثرائه الفكري، وديمومة هذه النزعة الشبابية في كتاباته، فهي على الدوام ثرية متجددة، يُلَقِّحُها من هنا ومن هناك، فلا تشيخ أو تتقادم مع الزمن!
  أما عناوين كتبه، بل ومقالاته أيضاً، فقد كانت مما يسترعي النظر، ويلفت الانتباه. فهي بسيطة، دالة، قصيرة في معظم الأحيان، ربما لا تعدو أن تكون كلمة واحدة، وسنذكر هنا أمثلة لأسماء كتبه ونترك مقالاته وفصول كتبه لكثرتها. فمن عناوين الكتب ذات الكلمة الواحدة: «قالوا»، «الوجودية»، «الغرباء»، و«العبقري»، و«الشهاب»، و«من نفسى»، و«مع الآخرين»، و«إلا قليلا»، و«ما لا تعلمون»، وغيرها، وربما يتألف العنوان من كلمة واحدة يكررها مثل: «يوم بيوم»، و«يعيش... يعيش»، و«اثنين... اثنين»، و«شباب... شباب»، و«من قتل من؟»، و«كتاب عن كتب»، و«بلاد الله خلق الله»، وغيرها. وقد يأتي بعنوان قصير بارز، ثم يتلوه عنوان آخر شارح مثل: «الخالدون مائة... أعظمهم محمد صلى الله عليه وسلم»، و«في صالون العقاد... كانت لنا أيام»، و«في تلك السنة... هؤلاء العظماء وُلِدوا معا»، و«الصابرا... الجيل الجديد في إسرائيل»، وغيرها.   
     
 الأستاذ... هو الأول دائماً
 التصق لقب الأستاذ بأنيس منصور، فهو الأستاذ حقاً، فهذا اللقب الغالي والعالي المَقام، الذي لم يكن يتمتع به سوى أستاذه عباس العقاد، الذي كان لصيقاً به مثل «كوفيته» الشهيرة، والذي كان في عُرْف صاحبه وكثيرين من عشاق أدبه وفكره، بل والحانقين عليه أيضاً، يضعونه فوق كل الألقاب الأخرى، التي كان يُنعم بها ولي النعم على رعاياه من «بكوية» أو «باشوية» قبل ثورة يوليو، وأكبر حتى من كل الألقاب الأكاديمية الضيقة، من الماجستير والدكتوراه وغيرهما، أقول إن أنيس كان أجدر الناس بهذا اللقب بعد صاحبه، وربما كانت هذه هي المرة الأولى التي لم يكن فيها أنيس هو الأول! 
 فقد أجاد أنيس باقتدار لُعْبَة «الأول» هذه، بشكل لم يجاريه فيه قبله أحد على حد مَعرفتِنا، فهو الأول في شهادات تعليمه قبل الجامعي، وفي شهاداته الجامعية، وهو الأول على مستوى العالم العربي في أدب الرحلات، وكان كتابه «حول العالم في 200 يوم» أول كتاب يفوز بجائزة الدولة في أدب الرحلات، ولهذا فقد صَدَق من نَعَته 
بـ «سندباد العصر»، فقدر كبير من منجزاته كان وراءه تلك الحركة الدؤوبة والترحال المستمر، ليس في المكان فقط، بل وفي الزمان وفي الفكر، وفي الثقافة، بشتى أنواعها، ومختلف ألوانها، في قارات العالم الست!
  كما حصل الرجل أيضاً على لقب «كاتب المقال اليومي» الأول في الخمسين عاماً الماضية، ويعتبر عموده اليومي بعنوان «مواقف» من أقدم الأعمدة في الصحافة العربية، ولم يتوقف عن كتابته تحت أي ظروف، من مرض، أو سفر، أو إجازة أياً كان نوعها أو توقيتها، والجدير بالذكر أنه انتقل به - أو معه - من مؤسسة «أخبار اليوم» إلى مؤسسة «الأهرام»، تحت العنوان ذاته. 
  وهو أيضا أول من عَرَّف القارئ العربي -  غير المطلع على اللغات الأجنبية - بالفلسفة الوجودية، حيث كان كتابه «الوجودية» أول مطبوعة عربية حول هذه الفلسفة، وهو أول من حصل على جائزة مبارك في الآداب، التي تغير اسمها بعد ثورة يناير إلى جائزة النيل، وهو الأول من حيث أرقام توزيع كتبه ومؤلفاته بشهادة اليونسكو، وهو الوحيد من بين كل المؤلفين العرب المعاصرين، الذي وصل عدد مؤلفاته إلى هذا الرقم الفلكي... ما يزيد على المائتين! وقد كان صاحب الرقم القياسي في عدد الإصدارات التي تولى رئاسة تحريرها، وأول رئيس تحرير لعدد منها، من أشهرها مجلة «أكتوبر». وأخيراً هو من أكثر الكتاب العرب معرفة وإجادة للغات الأجنبية.
   وبالتأكيد، لو أن أبا هلال العسكري قد وُجِدَ في عصرنا هذا لحَظِي أنيس منصور بالكثير من اهتمامه، وذكره في مواضع كثيرة من كتابه «الأوائل»، لأولياته تلك التي لا يجاريه فيها نظراؤه ومعاصروه! وقد استغرق الرجل في هذه الأوليات التي تجمَّعَت بشكل استثنائي في شخصه، وبصورة جعلتنا نتصوره حقاً شخصاً أسطورياً مُحبباً، لأن كلاً منا قد يتصور - ولو للحظات - أنه كان من الممكن أن يكون هو، وتلك إحدى وظائف الأدب. 

اهتماماته الفلسفية
 كان الأستاذ يعتز بالفترة التي قضاها في أروقة الجامعة وقاعاتها مدرساً (مساعداً) للفلسفة، فهو قد تخرج في قسم الفلسفة بجامعة القاهرة، وعُيِّن مُعيداً في كلية الآداب جامعة عين شمس، وحصل على درجة الماجستير أيضاً، ولكن ظروفه الخاصة أخذته من الجامعة إلى بلاط صاحبة الجلالة، فكان مكسباً كبيراً للصحافة، لاسيما الصحافة الأدبية.
 ولعل تعدد اهتماماته المعرفية والفكرية والثقافية، يرجع من بعض جوانبه الأساسية إلى دراسته للفلسفة، وهي ما كانت تعرف إلى وقت قريب بـ «أم العلوم». فكان الفيلسوف مُفكراً وأديباً وعالماً وناقداً وسياسياً وعالم اجتماع، والأمثلة على ذلك كثيرة، شرقاً وغرباً. وهكذا، كان الرجل متعدد الكتابات في مناحي المعرفة المختلفة، بكل أطيافها ومشاربها ومذاقاتها.  
ويبقى  أنيس منصور، صاحب أشهر وأقدم عمود صحفي بعنوان «مواقف»، كنا نطل منه كل صباح على مفردات حياتنا، بل وعلى مجريات الأمور عالمياً، من ثقافية إلى سياسية، ومن علمية إلى اقتصادية، ومن أدبية إلى فنية إلى سلوكية حياتية.