جاذبية المسرح

جاذبية المسرح

سقطت ثمرة تفاح على رأس «نيوتن» فاستنتج قانون الجاذبية الأرضية الذي يوضح طبيعة العلاقة بين الأرض وما على سطحها من كائنات حية أو غير حية. بهذه الوقعة الشهيرة وُضع قانون جاذبية الأرض الذي قطعت به الإنسانية شوطاً كبيراً في مسيرتها نحو تقدُّم العلم، وعندما نتأمل المشهد نوقن بـ «أن الفرصة لا تأتي إلا لمن يستحقها»، لأن الثمار لم تتوقف يوماً عن السقوط، لكن نيوتن هو من التقط الثمرة ووضع النظرية لاهتمامه المسبق وانشغاله الدائم بالمسائل الحسابية والقوانين الرياضية.

لوحظ أخيراً تأثير طبيعي جديد، هو إقبال عشرات العلماء والمفكرين والشيوخ والأطباء المبدعين على كتابة دراما مسرحية، لأنهم أيقنوا بأنها أقصر وأسرع الأساليب العملية لتوصيل الرسالة الثقافية الفنية والأخلاقية لما لها من قدرة على التواصل مع مختلف الفئات والثقافات الإنسانية، ولذلك كتبوا نصوصاً مسرحية قليلة ونادرة، ولكنها قوية وجادة ومؤثرة.
قدماء الإغريق هم أول من وظف الجاذبية المسرحية لتربية الأخلاق وتنمية الذوق وتقويم مواطنيهم بالرسائل والمواعظ المسرحية، وكانت الدراما الإغريقية تستمد مادتها كما هو معلوم من الأساطير عندما كانت الأساطير هي أديان الشعوب قبل نزول الأديان، وهذه الجذور الدينية المبرر والمفسِّر لوجود جاذبية بين الدراما والإنسانية، وبسبب هذه الجاذبية بمجرد إعلان المسيحية ديانة رسمية لروما بداية القرن الرابع الميلادي، أعلنت الكنيسة حربها على المسرح بسبب ما له من جاذبية تجعله مصدراً محرضاً على الفسق والمجون والعربدة، لأن العامة يقتدون بالممثلين، ومرت القرون وعملت جاذبية المسرح عملها مجدداً، وعاد إلى الدراما المسرحية وقارها واحترامها عندما أعادتها الكنيسة إلى الوجود مرة أخرى لهدف جذب المتلقي إلى متابعة التعاليم الدينية الكنسية في القرن الميلادي العاشر، وتطور الأمر فغادر المسرح أسوار الكنيسة وعادت إليه الصحوة، ودبت في خشبته الحياة، وانتعش تماماً في عصر النهضة واستمر سيره في طريق موازٍ لتطور الإنسانية ينتعش إن تقدمت، وينحدر إن تراجعت.
فى هذه الرحلة الطويلة مع الإنسانية كان للجاذبية المسرحية من الأثر ما جعل هواة المسرح في كل أنحاء الأرض أضعاف أضعاف محترفيه، ولا يمكن إرجاع ذلك لغير جاذبية المسرح التي أمكنها التأثير على: رئيس سابق لتشيكوسلوفاكيا هو فاستلاف هافيل، فكتب قبل أن ينصَّب رئيساً لبلاده مسرحيات تعبر عن هموم شعبه وتدعو إلى الثورة على الفساد حتى نالوا الحرية ثم أخرجوا بطلهم هافيل من غياهب الحبس إلى منصة الحكم الذي تنازل عنه بعد قليل بكامل إرادته بعد أن اطمأن على وطنه ليتفرغ لحياة الأدب التي كان لها دور في رفعته وتحرير بلاده، حيث كان الرجل منجذباً للمسرح أكثر من السلطة.
إنها الجاذبية المسرحية التي جعلت زعيماً وطنياً بقيمة مصطفى كامل يعبِّر عن همومه السياسية أثناء دراسته الجامعية بكتابة مسرحية «فتح الأندلس»، التي أبرز بها نضال المسلمين من خلال مواقف تمثيلية توضح فتح العرب للأندلس، وما كانوا يتسمون به وقتها من صفات كالصدق والأمانة والعزم والإرادة، وهي مسرحية جيدة ذات بناء فني لا يقل عن مستوى مثيله في المسرحيات التي كانت تقدم في ذلك الوقت في بلدان غير عربية من حيث الحبكة والمعالجة التي اعتمد في صياغته لها على شخصيات تاريخية لإنتاج نص مسرحي يقول للأمة: «أنت أمة عظيمة ذات أمجاد يجب أن تعود» احتجاجاً أدبياً صريحاً ضد الاستعمار الأجنبي، إذ حاول الزعيم استنهاض الهمم لمقاومة الغزاة بالكلمة التي كانت أهم أسلحته وأدواته، ومن الطريف أن نكرر مقولته الشهيرة «لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون مصرياً»، في ضوء ذلك إلى «لو لم أكن زعيماً ســياسياً لوددت أن أكون كاتباً مسرحياً».
دفعت الجاذبية المسرحية خطيب الثورة العرابية عبدالله النديم إلى كتابة مسرحيات عدة، منها «الوطن» و«طالع التوفيق» و«كان ويكون» كما هو مدون بسيرته التي تمثل جانباً من تاريخ ثورة عرابي. المسرحية الوحيدة التى عثر عليها بين آثار النديم هي «الوطن» التي نُشرت أول مرة عام 1901م في كتاب «سلافة النديم في منتجات عبدالله أفندي النديم» وفيها تخيَّل النديم أن الوطن إنسان فقير يجلس على قارعة الطريق يقابل نماذج من أبنائه يرجوهم العون بعد أن ساءت الأحوال وفقد الجميع هويتهم، وصار الكل بلا ملامح، وهو تخيل طريف لم أصادفه حتى تاريخه على الصعيدين العربي والعالمي.
جعلت الجاذبية المسرحية من حجة الأدب العربي الإسلامي مصطفى صادق الرافعي كاتباً مسرحياً بروايته الوحيدة «حسام الدين الأندلسي» التي وجدنا نسخة منها ضمن مقتنيات المركز القومي المصري للمسرح والموسيقى، وهو كتاب صغير القطع على عتبته البيان التالي: «رواية حسام الدين الأندلسي» وهى رواية تشخيصية أدبية غرامية حماسية ذات ستة فصول تأليف حضرة الفاضل الشيخ مصطفى الرافعى الكاتب بمحكمة مصر الشرعية، لأن «الرافعي»  كما نعرف لم يكمل تعليمه النظامي بسبب فقده حاسة السمع في مستهل حياته، ولذلك اضطر إلى العمل بوظيفة مكتبية بعكس والده وأعمامه رواد القضاء في مصر.
نص مسرحية «حسام الدين الأندلسي» يعتبر تحفة مسرحية نادرة بمقياس زمانه وبوحدات القياس التي كانت معروفة عند طبعه للمرة الأولى عام 1905م، حيث لم يكن أحد من فحول المسرح العربي موجوداً بشكل إيجابي على سطح المشهد المسرحي، وهو ما يشف عن معالم الثقافة المسرحية لصاحبه التي اعتمدت على الأدب اليوناني في تكوين خلفيتها الدرامية كمنبع رئيس، بالإضافة إلى مطالعة الرافعي لأعمال المسرحي الإنجليزي الأشهر بالعالم وليم شكسبير، وأسفر ذلك عن إيمان بضرورة وأهمية الدراما للإنسانية، وخلو إنجازها من موانع شرعية، ولذلك كتب مصطفى صادق الرافعي هذه المحاولة لإيجاد نص مسرحي يتماس مع التراث العربي، ملتزماً بالهدف الذي اكتشفت لأجله الدراما، وهو الدعوة إلى الأخلاق والعمل الصالح الطيب، لأنها تصل بصاحبها في النهاية إلى التقدم والنجاح والفلاح وتدعو إلى نبذ الشرور كالحقد والغل والخيانة.
تمكنت الجاذبية المسرحية من جذب الرافعي إلى ممارستها في وقت كانت فيه مسألة ممارسة الفنون المسرحية خاضعة للجدل حول التحليل والتحريم. وجذبت أيضاً أحد مشاهير الطرق الصوفية الذين تأثروا بالجاذبية المسرحية وهو الشيخ محمد ماضي أبوالعزايم مؤسس جماعة «آل العزايم»، المعروفة في مصر، وصاحب المؤلفات في التفسير والفقه وعلم الكلام والتصوف والفتاوى والسيرة، وله إبداعات أدبية في مجال الشعر الصوفي، وقد كتب أبوالعزايم نصاً مسرحياً وحيداً بعنوان «محكمة الصلح الكبرى» يؤكد فيه أن الشر والرذيلة ليسا من فطرة الإنسان، وإنما ينشآ من اختلال التوازن بين غرائزه، ومن العوامل الخارجية التي تنحرف بهذه الغرائز عن أهدافها الفاضلة، ومن أفضل ما تتسم به هذه المسرحية تصوير الموجودات المعنوية في هيئة شخصيات درامية مسرحية، وهو ما يعكس الرؤية الصوفية لما هو غير منظور من الموجودات، لذا تتكون «محكمة الصلح الكبرى» في المسرحية من «العدل» رئيس محكمة، وعضوية «القسط – العلم – الهدى - التوفيق», أما كاتب الجلسة فيدعى «أمين» وأمام هيئة المحكمة يمثل «العقل - الفكر- الرؤية - العفة - الشجاعة – الكرم - العدالة - النور - العزة - الرحمة – النطق - الخشية - الحكمة».
المتهمون الماثلون أمام هيئة المحكمة هم «النفس السبعية – النفس البهيمية – التهور - الشهوة - الجبن - البخل - الغدر- الحس- الضيم- القسوة- الجسم - التيه - الحماقة».
وأحداث المسرحية هي وقائع الجلسات القضائية الثلاث للمحاكمة، وينتهي العرض بانتصار الخير الذي هو الصلح والصفاء.
أصابت الجاذبية أطباء مسرحيين مثل الطبيب المفكر مصطفى محمود كاتب عديد من النصوص المسرحية، منها «الزلزال - الإنسان والظل - الإسكندر الأكبر»... وغيرها من مسرحيات برر صياغته لها بقوله: «إن الطبيب هو الذي يحضر الإنسان في ميلاده ووفاته، فكيف لا يكون الطبيب فناناً وحساساً حتى يتعامل مع هذه الحقائق?».
 الجراح الشهير محمود أحمد نجيب، أحد الأطباء المساهمين في الكتابة المسرحية بنصه الرائع «أصحاب الأخدود» الذي يعالج فيه القصة القرآنية الشهيرة المذكورة في «سورة البروج» عن أصحاب الأخدود، بطلها غلام ذهب لتعلم السحر عند ساحر الملك، ولكنه التقى براهب عرفه طريق ملك الملوك (الله) جل في علاه، فكان رغم حداثة سنه آية من آيات الله في الإصرار على التمسُّك بالعقيدة، والواقع أنه لا أحد يتكئ في معالجته للدراما المسرحية على آيات قرآنية إلا كان لجهده الصلاح والنجاح في الدنيا والآخرة.
  أهم وأشهر النماذج المعاصرة على نظرية «جاذبية المسرح» كتابــــــات سمو الشــــــيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة، الذي رغم كل مــــسؤولياته السياسية والاجتماعية فإنه لم يتوقف عن الكتابة للمسرح، الأمر الذي يعكس إيمانه بأهمية هذا النشاط في تحقيق نهضة ورقي وحضارة الإنسانــــية، من مؤلفاته مسرحية «النمرود» عن تلك الشخصية التاريخية الشهيرة التي تقــــترن في ذهن المتلقـــــي بالظـــــالم الذي لم يرده شيء عن التمادي في الظلم إلا عدل الله وانتقامه الذي يكسر كل جبار بعد تمسُّكه بالكبر والغرور، وهي الرؤية ذاتها التي صاغها درامياً في  «الإسكندر الأكبر», ومن أهم العوامل المشتركة بين جميع معالجاته المسرحية التاريخية الالتزام بأصعب ما يستطيعه كاتب، ألا وهو التقيد بنقل المعلومة التاريخية الموثقة حرصاً على وضعه السياسي، مؤْثراً الاختفاء خلف كتاباته، مقدماً النص على ذاته يقيناً بأن الأهمية للمكتوب لا للكاتب، وهو أسلوب مميز لنوع مختلف من الكتـــــابة الأدبية.
من مسرحيات د. القاسمي أيضاً «عودة هولاكو»، ومسرحية «القضية»، و«الواقع صورة طبق الأصل»، و«الإسكندر» و«شمشون الجبار» و«الحجر الأسود»، و«طورغوت».
بهذه الجولة الدرامية نكون قد رصدنا إبداعات مسرحية استثنائية لمجموعة من عشاق المسرح ممن جذبتــهم أضـــواؤه فكتبــــوا له أعمـــالاً قليلـــة ونــادرة، ولكنــــها قــــوية ومــــؤثرة.