تراث الغناء الإفريقي.. سمات حضارية على حافة النسيان

تراث الغناء الإفريقي.. سمات حضارية على حافة النسيان

على‭ ‬خلاف‭ ‬النظرة‭ ‬المعاصرة‭ ‬للفنون،‭ ‬التي‭ ‬تعزلها‭ ‬في‭ ‬دوائر‭ ‬منفصلة‭ ‬وتبعدها‭ ‬عن‭ ‬مظاهر‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية،‭ ‬وتعتبرها‭ ‬نشاطاً‭ ‬خاصاً‭ ‬بفئة‭ ‬قليلة‭ ‬نسبياً،‭ ‬عاشت‭ ‬القبائلُ‭ ‬الإفريقية،‭ ‬غير‭ ‬المتعلّمة‭ ‬بالمعنى‭ ‬المعاصر‭ ‬للكلمة،‭ ‬حقيقة‭ ‬مختلفة؛‭ ‬يكون‭ ‬الفن‭ ‬فيها‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬لا‭ ‬ينفصل‭ ‬عنها،‭ ‬تمارسه‭ ‬أعدادٌ‭ ‬كبيرة‭ ‬نسبياً‭ ‬من‭ ‬أفراد‭ ‬المجتمع،‭ ‬ويرتبط‭ ‬بجملةِ‭ ‬النشاط،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬اقتصادياً‭ ‬أو‭ ‬دينياً‭ ‬أو‭ ‬اجتماعياً‭ ‬أو‭ ‬تاريخياً‭.‬

التلازمُ بين ما ندعوه فناً ونواحي الحياة الإنسانية كان أبرزَ الظواهر التي لفتت أنظارَ الباحثين، والمعنيين بعلم «الأناسة» (الأنثروبولوجيا) منهم خاصة، ويحضرنا هنا مثال مبكر، دراسة الباحث الأمريكي «آلان ب. ماريام» (1923-1980) لحياة المجتمعات الأمية غير المتعلّمة في إفريقيا قبل أن تلمّ بها عوامل التغيير. ومن الملحوظ أن الأبحاث الحديثة التي غمرت الفكرَ المعاصر منذ أواخر القرن التاسع عشر في معنى الفن وعلاقته بالنشاط الإنساني، كان لها بالغ الأثر في تغيير كثير من المعايير والقيم في مجال الفن الغربي، ومهدت لظهور مدارس الفن الحديث أو ثوراته. وأبرز شواهد ومستندات هذه الأبحاث ما دعي آنذاك بالفن البدائي، أو الفطري، قبل أن يكتشف الباحثون أن البدائية والفطرية، أو الوحشية أحياناً، ما هي إلا صفات أنتجها الخطاب الغربي خدمة لأغراض محددة. وبتأثير هذه الصفات، لم يستطع الأوربيون الذين شاهدوا تماثيل قبائل نيجيريا تصديق أن هذه المنحوتات الباهرة من منتجات أفارقة، بل نسبوها إلى اليونان أو إلى قارة أطلنتس المفقودة، كما يقول الشاعر والروائي البراجوياني إدواردو غاليانو (1940 - 2015).

الفن كما عرفته هذه الشعوب «البدائية» عنصر وظيفي، لا تقتصر ممارسته على القلة، ولا يقتصر ميدانه على هذا الجانب الاجتماعي دون ذاك، ولا ينحصر انشغاله بالجانب الواعي دون الجانب غير الواعي، هو سمة من سمات وضعية حضارية، وليس سمة عصور همجية أو وحشية كما كان شائعاً في قرون التدافع الغربي لاستعمار القارات بما في ذلك القارة الإفريقية.

يذكر عالم الأناسة الذي ذكرناه كمثال، أن قبيلة «الهوتو» في رواندا لديها ما لا يقل عن 24 نوعاً من الأغاني الاجتماعية العامة، بالإضافة إلى الأنواع الدينية، وتتناول الأغاني الاجتماعية عدداً كبيراً من الموضوعات، منها ما يغنيه موسيقيون محترفون لأغراض الترفيه، ومنها ما يُؤدى في مناسبات الحرب أو تقديم الولاء للزعيم أو الصيد أو الحصاد أو الأعمال العامة المشتركة، ومنها ما يُغنى احتفاء بميلاد طفل أو تحذيراً لمن ضلّ السبيل، أو سرداً لحكاية حملة ناجحة لصيد الفيلة، ومنها ما يسخر من الأوربيين أو يتحدث عن الموت أو يتناول موضوعات ماجنة.

ولا يقف الأمرُ عند هذا الحد، إذ يمكن تمييز أنواع فرعية في كل نوع من الأنواع التي ذكرناها، فهناك غناءٌ خاص يُغنى حين يُسحب زورق من مكان صناعته إلى الماء، وثانٍ خاص يرافق التجديف ضد تيّار قوي، وثالث للتجديف مع التيار، ورابع لحث فريق المجدفين على بذل المزيد من الجهد الجماعي.

 

موسيقى‭ ‬‮«‬التوتسي‮»‬

ونجد عند قبيلة «التوتسي» مدى واسعاً مماثلاً من الأغاني بموضوعات مختلفة؛ أغاني التفاخر والحروب، وتبادل التحيات والمدائح، وعندما تلتقي النسوة الشابات المتزوجات ليغنين معاً في ذكرى الأحباء الغائبين. وهناك أغنيات للأطفال وأخرى غزلية. وتحتل الأغاني التي موضوعها الماشية مكانة خاصة عند «التوتسي»، وتضم أنواعاً، مثل ذلك النوع الذي يتواجه فيه رجلان يتباهيان بمديح بقرة، أو ذكر فضائل بقرة معينة مقارنة بأخرى (يذكر هذا بمديح الناقة أو الحصان عند القبائل العربية)، وهناك أغانٍ خاصة بمديح الأبقار وأهمية اقتنائها. وحين يقود الراعي قطعان الماشية إلى حظائرها مساءً، تُنشد أغان خاصة بهذا الحدث، والأمر نفسه حين يرد الماء أو يلتقي الرعاة. وفي المناسبات التي يجري فيها عرض الأبقار على الزائرين، تنشد أغانٍ خاصة. وأكثر الأغاني طرافة تلك التي تؤدى مع المزمار لإحباط خطط لصوص المواشي في الليل، أو تلك التي تروي أحداثاً تاريخية كانت فيها للمواشي أدوارٌ مهمة.

معنى هذا أن الموسيقى والغناء يؤديان دوراً في جميع مظاهر الحياة الثقافية، بما في ذلك النظام السياسي، حيث تتضح أهمية وظائف موسيقى الأغاني في مديح الزعماء، وفي مناسبات أخرى. ويعتبر الطبل عند «التوتسي» رمزاً للقوة السياسية، ولا يُسمح لأي فرد باقتناء مجموعات من الطبول باستثناء من هو بمنزلة الملك «موامي» والملكة الأم. ويعتبر «الكالنجا»، أي الدفّ المقدس، عند «التوتسي»، رمزاً يمنح مالكه حق ممارسة سلطته الملكية. ويقال إنه دفٌّ مقدس من الدرجة الأولى، وهو شعار السيادة وحامي المملكة من الأخطار، ولا يُقرع إلا في مناسبات خاصة، ومن حيث المبدأ يجب أن يرافق الملك خلال جولاته. وتقرع الطبول تشريفاً للدفِّ، وله حقوق مماثلة لتلك التي يتمتع بها الملك، فترى الناس يصفقون ثلاثاً عندما يمرون أمامه.

 

وظائف‭ ‬اجتماعية‭ ‬للموسيقى‭ ‬

في مجال التنظيم الاجتماعي تتضح وظائف فن الموسيقى في مراسم الميلاد والزواج والوفاة. ومن أشهر وظائفها في هذا المجال وظيفة الرقابة الاجتماعية، ومن ذلك العادات الدارجة عند قبيلة «تشوبي» في توجيه انتقادات كثيرة إلى أولئك الذين يتولون أمورها، وتتضمن أغانيها، وما يصاحبها من موسيقى ورقص، تلميحات صريحة تندد بالذين يهملون واجباتهم، واحتجاجات على الظلم، وعبارات تعكس الفلسفة التي يتبنونها في مواجهة المتاعب. ومن السهل أن نتصور الأثر الذي تحدثه أمثال هذه الأغاني في نفس المسيء حين تشهر بسيئاته أغانٍ ينشدها ثلاثون أو أربعون من الشبان أمام جميع سكان القرية. أما أولئك الذين ينتهكون حرمة الشريعة الأخلاقية في مجتمعهم، فأي عقاب أشد ردعاً لهم من معرفتهم أن انحرافهم سيشهر به الشعراء في قصائدهم؟

وفي هذا المجال يتحدث عالم الأناسة ملفل هيرسكوفيتز (1895 - 1963) مؤسس الدراسات الإفريقية في الولايات المتحدة الأمريكية عن أغنيات التلاعب اللفظي في «داهومي»، ويشير رتشارد وترمان (1914 - 1971) إلى نوع مهم من الأغاني في عالم القبائل الإفـــريقـــية يتناول الأحداث الجـــارية، ويســــتخدم لنشر أخبار الساعة والشائعات التي تدور على الألسن، وقد يستخدم لابتزاز الأموال، بالتــهديد أحياناً. 

وللأغاني وظيفتها في الحياة الاقتصادية، حيث تستخدم لتشجيع العمل التعاوني (يشبه هذا الغناء الذي يرافق بناء السفن في الخليج وإبحارها وعودتها). ومن أمثلة ذلك استخدام الأغاني حين إنزال السفن إلى الماء، وحث المجدفين في القوارب ونقلا عن عادات قبيلة «الدوكبوي»، يذهب أفراد الفرق العاملة في الزراعة إلى الحقول ويسيرون على أنغام مزمار حادة يستطيعون سماعها ومتابعتها بسهولة.  ويحملون طبولا وأجراساً وجلاجل يستخدمونها لتصحب الأغاني التي ينشدونها. وتستخدم الأغنيات ذاتها لتوليد إيقاع العمل وتنظيمه.

 

وظائف‭ ‬روحية‭ ‬للموسيقى‭ ‬الإفريقية

أما في المجال الديني، فوظيفة الموسيقى وآلاتها أشهر من أن يشار إليها, ولكن هناك متضمنات رمزية تُسند إلى الآلة الموسيقية المستخدمة غير معروفة على نطاق واسع. وأشهر هذه الآلات القيثارة المسماة «نجوني» لدى قبيلة «البامبارا»، وهي قيثارة واضحة في أذهان من يستخدمونها من خلال الأشكال والصفات الإنسانية التي ترمز إليها.

في هذه القيثارة يمثل الصندوق الأسود الطويل قناع «كومابانا» السلف الذي يمتلك الكلمة, وترمز القطعتان على الجانبين إلى عينيه، ويرمز الثقب إلى أنفه، والطرف الذي تنتهي به الأوتار إلى أسنانه وفمه، والأوتار الثمانية إلى كلماته، بالإضافة إلى أن القيثارة ككل ترمز إلى ضريحه, ويمثل كل صوت يحدثه وتر من الأوتار الثمانية نوعاً من الصلاة، ويشدّ الكاهن كل وتر على حدة بحسب رتبته.

هذه القيثارة تتصدر احتفالات تقديم الأضاحي ومراسم التطهير والعلاج والتنقية والتكريس، وتؤدي دوراً مهماً أيضاً في التأملات الفردية، وتعتبر نغماتها العالية الحادة سماوية، ويُعتقد أنها ترمز إلى الوفرة، أما نغماتها الخفيضة، فترمز إلى أشياء دنيوية, وتستخدم هذه الآلة في مناسبات مختلفة، كالإعلان عن الحل والترحال، والخصب والقحط، ودعوة الناس إلى الامتثال للأوامر، وقد توضع بهدوء بجوار نبع، فيدل وجودها على السلام والطمأنينة.

ويلاحظ أن العازف قبل أن يبدأ العزف وتحريك أصابعه على أوتار هذه القيثارة، يدني فمه من فوهة صندوقها ويهمس مخاطباً سيد الكلمة: «والآن جاء دورك... فتعال ونظّم العالم».

‭* * *‬

أخيراً تمكن الإشارة إلى أن للأغاني وظيفة في حفظ الذاكرة وتعزيز الوعي بالتاريخ، وتتحقق هذه الوظيفة حين تؤدي الأغاني عملها كوسيلة لنقل الوقائع التاريخية, فأهل نيجيريا مثلا لايزالون يستمعون إلى أغان تروي قصة المعارك التي نشبت قبل مائتي عام. وكانت الأغاني في داهومي ومازالت وسيلة لنقل المعلومات التاريخية إلى الفئات غير المتعلمة من شعوب هذه البلاد، وهي الوظيفة ذاتها التي تؤديها رواية الملاحم في الهند على أسماع الفلاحين البسطاء، فهي تعلم وتنشر المعارف, وتبرز هذه الوظيفة في إفريقيا بجلاء حينما تستخدم الأغاني في سرد الطقوس المصاحبة لتقديم الأضاحي لأرواح أولئك الذين انتقلوا إلى حياة العبودية, وكان الراوي يعجز أحياناً عن تذكر تسلسل الأسماء المهمة في قصة، فيشرع في الغناء بصوت منخفض، وتصاحب الغناء ضرباتٌ بالأصابع، ويستمر على هذه الحال بضع لحظات، ثم يتوقف بعد أن يكون استحضر في ذهنه الأسماء بوضوح.

ويؤدي المغني، في هذا السياق، دور حافظ السجلات، ونجد هذه الوظيفة، وإن على نطاق أضيق، لدى قبيلة التوتسي، حيث مازال الأهالي ينشدون أغنيات تذكر أحداثاً مهمة وقعت منذ سنوات طويلة، وبهذه الطريقة تظل حية ومؤثرة في أذهان الناس .