دراسة تحليليّة للنّص المسرحي.. «محاكمة جان دارك» لـ«بريخت»
قبل أن نتعرض لبنية النّص المسرحي امحاكمة جان داركب، (تأليف برتولد بريخت، ترجمة: د. يسرى خميس، سلسلة روائع المــــســــرح الـــــعالمي) بالــــتحليل، نحاول في عجالة أن نلقي الضوء على المنهج الملحمي لبريخت، فالنظرية الملحمية كانت متأثرة بالتيار الفلسفي لماركس، الذي ينطلق بداية من فِعل الإنسان الإرادي إلى ذروته، حيث تحولت الفلسفة على أيدي أتباعه من نشاط فكري يتأمل الكون والإنسان إلى برنامج عمل ثوري يهدف إلى تغيير العالم وتغيير وعي الإنسان به، أيضاً ضرورة مشاركة المتفرج مشاركة إيجابية في العرض المسرحي عن طريق إيقاظ وعيه النقدي بمثالب الواقع، بحيث يدرك ضرورة تغيير هذا الواقع، وتستيقظ لديه الدفعة نحو الفِعل الثوري بهدف التغيير.
اعتمد بريخت على مجموعة من القواعد الفنيّة في العرض المسرحي تشمل كل نواحيه من الشكل الدرامي إلى أسلوب التمثيل والديكور وتوظيف الموسيقى، وتهدف جميعاً إلى هدم مبدأ الإيهام والتعاطف الأرسطي وإلى التغريب. أي إثارة وعي المتفرج بغرابة وتناقض واقعه الاجتماعي الذي يعرّيه العرض على خشبة المسرح، وإلى إثارة رغبة في تغيير هذا الواقع المتناقض الغريب تغييراً جذرياً حتى يستقيم مرّة أخرى.
نجد أن هذه العوامل التي ارتكز عليها بريخت من خلال نظريته الملحميّة تنطبق تماماً على نّص «محاكمة جان دارك».
أولاً: اعتماد النّص المسرحي على السرد
يتضح ذلك في المشهد الأول، خريف عام 1430 والحرب بين إنجلترا وفرنسا، حيث نجد جان دارك Jeanne dAre تقود ثورة شعبيّة لطرد الغزاة الإنجليز، فهناك فتاتان تترنمان بأغنية كل معانيها تمجيد جان دارك، وقد اعتمد المؤلف على السرد لحياة جان دارك وكفاحها ضد الإنجليز وصمودها تجاه العدو بكل ما تحمل من حب لهذا الوطن العظيم فرنسا، والسرد هنا يتمثل في أسلوب الحكاية، فنجد جان دارك في مقدمة المشهد الثالث تنجو بمهارة من أسئلة رجال الكهنوت الذين يحاولون أن يؤكدوا أنها خارجة على الدين، وتتذكر بشجاعة وضع فرنسا البائس. ففي بداية المشهد السابع يوم الأحد في سجن لاتوردي شامب، تسمع جان دارك أغنية راقصة لكنها لا تفهم الكلمات.
المشهد الثامن... تعتقد جان دارك أن الشعب قد نسيها، لكنه وسط الأسواق وفي الحانات بدأ يفهم موقفها، ففي المشهد التاسع في كنيسة الرهبان بالقرب من مدافن سانتي كوين تحت التهديد بالحرق وتحت ضغط إحساسها المرهق بأنها وحيدة تماماً توقع جان دارك إقراراً بإنكار كل ما قالت. في المشهد العاشر في مدافن سانت كوين تَعرف الجموع المنتظرة تغير موقف جان دارك وسقطتها التي أثرت على خط كفاحها الخالد. وفي المشهد الحادي عشر، في حانة أسماك بتري تختلف الآراء. يأتى المشهد الثاني عشر، فالصورة أمام المشاهد شغب وحوادث في روان Roven يتلقى أسقف بوفيه رسالة مستعجلة. المشهد الثالث عشر في سجن لاتوردي شامب.. لقد فَهِمتْ جان دارك صوت الشعب وركبت رأسها ثانية. المشهد الرابع عشر 30 مايو 1431 تسليم جان دارك إلى الجلاد في المشهدين الخامس عشر والسادس عشر في ميدان السوق في روان، وحضور حشد ضخم من الناس تحرق العذراء. وبعد مرور خمس سنوات من تحرير فرنسا النهائي واتحادها بعد قيام الشعب في باريس، تخطو الحركة الشعبية خطوات الأسطورة والمكافحة جان دارك.
ثانياً: المتفرج يتحول إلى مراقب للحدث
يتضح ذلك في المشهد الثاني... ساحة السوق في روان المحتلة، يشاهد جمهرة الناس كيف يقود النبلاء الإنجليز ورجال الكنيسة الفرنسية المبجلون المناضلة جان دارك إلى المحاكمة. نجد بائعة السمك والفلاحة والسيد الأنيق ودكتور دوفو يراقبون هذا الحدث الجلل عندما تساق جان دارك إلى المحاكمة، فنجد الحوار الذي يدور بين هؤلاء المتفرجين بالموقف السلبي تجاه جان دارك، وأحياناً بالتهكم، ونرى ذلك على لسان الفتاة اللعوب يُقال إنها تسمع أصواتاً وتُبصر الرؤى، هل هذا صحيح؟ يعزف على هذه النغمة تاجر الخمور: سوف يتأكد من ذلك السادة المثقفون، فنجد الشخصيّات تهيئ القارئ أو المتفرج لمحاكمة جان دارك وموقفها البطولي تجاه بلدها ووطنها فرنسا ضد الإنجليز.
ثالثاً: إثارة قدرة الإنسان على الفِعل
يتضح هذا من خلال إحساس الجمهور بما تعانيه جان دارك أثناء تقديمها للمحاكمة وهي مُكبّلة بالسلاسل، فنجد الفتاة اللعوب تقول: يا لها من فتاة صغيرة.
أخت الزوج: ثقيلة عليها تلك السلاسل، بالتأكيد أنها تشبه التفاحة الصغيرة.
فيتضح هذا الفعل من خلال هذه المشاعر تجاه جان دارك، وإن كان هذا الفعل في هذه اللحظة يأخذ الشكل السلبي، إلاّ أنه سوف يدرك الموقف في يوم من الأيام.
رابعاً: توظيف المناقشة والجدل
ومقارعة الحجة بالحجة
يتم هذا من خلال المشهد الثالث، بداية محاكمة جان دارك ومحاولة اتهامها بالإساءة إلى الدين، ولكن هذا الاتهام غير حقيقي، لأن الواقع المنافي لهذا الاتهام أنهم يريدون محاكمة جان دارك محاكمة سياسية، ولكن حتى يتم استعطاف الجمهور والشعب، يتم تقديم جان للمحاكمة على أنها زنديقة وتُهِين الكنيسة، فنجد أن جان تنتصر على المحكمة بإجاباتها القوية عن كل الأسئلة التي وجهت لها. نجد أن جان ترتدي ثوب الكفاح ضد الإنجليز، ثم يتم توظيف الصوت توظيفاً ثورياً، فنجده عندما يناجي جان يبث في قلبها الإيمان، وأن ترتبط بالكنيسة دائماً، فهذا الصوت يحيي بداخلها موجة الكفاح ضد الاحتلال الإنجليزي، ولكن نجد قوة هذا الصوت تتمثل في صوت الشعب في ضمير هذا الوطن ولذلك تعترف جان بأن هذا الصوت أصبح يمثل ثورة الكفاح التي يجب أن تعتنقها.
خامساً: التركيز على مسار الأحداث وعلى الأحداث نفسها
يتضح هذا من خلال المشاهد الثاني والثالث والرابع والخامس، فالأحداث تسير بشكل قوي مع تصاعد الحدث... تقديم جان للمحاكمة، موقف الشعب السلبي من جان، ثم تعاطف بعض أفراد الشعب معها، حصار جان بالأسئلة من خلال المحاكمة، اتهامها بالذندقة وإهانة الكنيسة، محاولة سلبها قميص الكفاح الذي ترتديه من خلال ارتدائها ملابس الرجال، اعتناقها مبادئ الكنيسة.
سادساً: الإنسان يصبح موضوع
بحث وتمحيص
إن الإنسان قابل للتغير والتحول وقادر على إحداث التغيير، وليس فكرة مطلقة أو مفهوماً مطلقاً.
وتتبلور هذه الفكرة أو هذا المبدأ البريختي في شخصيّة جان دارك الوطنية التي تسير على درب الكفاح من أجل تحرير وطنها فرنسا من الاحتلال الإنجليزي وصمود هذه الشخصية تجاه كل الأحداث التي تقف ضدها، أيضاً نجد أن جان دارك كإنسانة تحمل بداخلها المشاعر والأحاسيس والقوة والضعف، وتطفو هذه المظاهر على السطح عندما تشعر جان بأن الشعب بعيد عنها لا يساندها في كفاحها من أجل تحرير فرنسا. ثم تصل إلى العقدة أو الحدث المعاكس لكفاح جان الطويل، عندما تشعر بالوحدة والضعف.. وهذا التغيير أو التحول ليس من فراغ، ولكن نتيجة عوامل تتمثل في الأحداث التي تعرضت لها جان من خلال هذه الصور:
أ- جان توقع على إقرار تحت التهديد تنكر فيه كل ما قالت.
ب - جان قلقة لأن الشعب لم يشعرها بالوقوف بجوارها، فهي في حالة انفصال دائم عنهم بسبب اعتقالها.
ج -لو كانت جان تشعر بالتحام كل القوى الوطنية معها لاستمرت في التمسك بموقفها.
د -غياب الأصوات التي اعتادت أن تسمعها، كان له تأثير أيضاً في أن توقع على الإقرار، وكانت هذه الأصوات بمنزلة الدافع الحقيقي لكفاحها.
هـ -جان توافق على خلع ملابس الرجال لترتدي ملابس النساء، وبهذا الفِعل تشعر أنها توقفت تماماً عن الكفاح..
و -المحكمة تخون جان دارك بالحكم الذي أصدرته عليها بالسجن مدى الحياة. في حين أنها وعدتها بالخروج من السجن قبل الاعتراف.
ثم تتحول الشخصّية مرّة ثانية عندما تشعر جان دارك بصوت الشعب يرتفع مرّة أخرى من أجلها، فكان هذا الصوت بمنزلة شرارة الكفاح التي اندلعت مرّة أخرى لتقف على درب تحرير فرنسا من الإنجليز مرّة ثانية.
سابعاً: دفع المتفرج إلى اتخاذ قرارات
إزاء ما يحدث والحكم عليه
يبدأ الشعب يشعر بمهمته الحقيقية تجاه جان دارك، ففي المشهد الثاني عشر، نجد بعض مظاهر الشغب والحوادث في روان... الناس تتجمع عند الميناء، أفراد الشعب يتقاتلون مع البحارة الإنجليز، ويتضح هذا من الحوار في المشهد رقم 12:
الأخ راؤول: لقد قال الإنجليز إنها ترتدي منذ صباح اليوم ملابس الرجال ثانية.
ماسيو: لقد سَمعت بالتأكيد عن ذلك الشعب الذي ثار من أجلها.
إلى أن يؤصل هذا التغيير من خلال الأحداث بشكل منحنى يمثل بداية كفاح جان دارك، ثم شعورها بالوحدة بغياب الصوت الذي كان دائماً يضعها في بؤرة الكفاح، وفي ذروة التضحية إحساسها بالهوّة الكبيرة التي شعرت بها جان بينها وبين الشعب بأنه بعيد عنها. أدى هذا إلى تراجعها والاعتراف الذي تنكر فيه كل ما قالت، ثم العودة مرّة أخرى... كل هذا تحول مباشر وغير مباشر في شخصّية جان دارك، فهي كإنسانة تتأثر بالأحداث وبالشعب وتؤثر في أفكارهم ومشاعرهم تجاه تحرير وطنهم الحبيب فرنسا. إلى أن يتم الحكم عليها بالإعدام وينفذ الحكم في ميدان السوق في روان، وبحضور حشد ضخم من الناس تحرق العذراء.
ثامناً: يفترض أن الوجود الاجتماعي يتحكم في الفكر ويحدد طبيعته وتوجهاته
هذا المفهوم البريختي تجده ينطبق على العرض المسرحي أو النّص المسرحي جان دارك، لأننا نرى أن الوجود الاجتماعي للواقع الفرنسي في ذاك الوقت وجود محاصر من الاحتلال الإنجليزي لشعب يشعر بوأد الحريّة. الظلم واقع من خلال استغلال ثروات هذا الوطن، فكان طبيعياً أن يكون هناك تأثر بالفكر الوطني من خلال قيادة جان دارك لشعبها وتوجهات فِكر هؤلاء إلى طبيعة الكفاح المسلح لتحرير هذا الوطن من خلال الصراع الذي يجب أن يعتنقه كل فرد من الشعب، وهذا التوجه يتحقق بعد أن تموت جان دارك، فنجد فرنسا بعد مرور خمس سنوات على رحيلها تتحرر والشعب يتأثر بتوجهات وتوظيف هذه الأفكار والمشاعر الوطنية التي بثتها بداخلهم جان دارك.
في النهاية، نجد أن المسرح الملحمي لبريخت يتوجه إلى العقل ويخاطب الوعي ونجد هذا في المشهد الختامي على لسان الفلاح جان لجرين:
كانت القصة هكذا: في البداية كانت تقف أمام الشعب في طريقها للأعداء، وهكذا، وعندما كانت سجينة في البرج في روان، لم تعد تسمع شيئاً عنّا، وصارت ضعيفة مثلي ومثلك، بل لقد أنكرت، وعندما أنكرت غضب لذلك الناس البسطاء في روان، فحطموا رؤوس الإنجليز في الميناء، وعندما علمت بما حدث، ولا أحد يدري كيف علمت، ثابت لرشدها مرّة أخرى واستردت شجاعتها، وتأكدت أن المحكمة ليست بمكان أكثر سوءاً للمعركة من قبور أورليانز، وهكذا صنعت من سقوطها الهائل نصرنا العظيم. وعندما صمت فمها سمع صوتها، ثم يأتي صوت الفتيات وهنّ يقطفن عناقيد العنب رمز الخير والنماء لفرنسا، كما كانت جان دارك هي رمز الكفاح من أجل تحرير فرنسا، فقد عاشت وهي في عقولهم وماتت وهي في وجدانهم .