جاسوس بمليار دولار

جاسوس بمليار دولار

تحولت‭ ‬أنظار‭ ‬العالم‭ ‬نحو‭ ‬حادثة‭ ‬إسقاط‭ ‬الطائرة‭ ‬القاذفة‭ ‬التكتيكية‭ ‬الروسية‭ ‬اسوخوي‭ ‬24ب‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مقاتلة‭ ‬من‭ ‬طراز‭ ‬اإف‭ ‬ذ‭ ‬16ب‭ ‬تابعة‭ ‬لسلاح‭ ‬الجو‭ ‬التركي‭ ‬في‭ ‬نوفمبر‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬2015،‭ ‬وضجت‭ ‬الأنباء‭ ‬والتوقعات‭ ‬التي‭ ‬تلت‭ ‬هذا‭ ‬الحادث‭ ‬المثير،‭ ‬وخلف‭ ‬الكواليس،‭ ‬جلس‭ ‬بعض‭ ‬الخبراء‭ ‬الروس‭ ‬والغربيين‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬تأمل‭ ‬خلت‭ ‬من‭ ‬الإثارة‭ ‬والحماس‭ ‬اللذين‭ ‬يحدثان‭ ‬على‭ ‬الجانب‭ ‬الإعلامي‭ ‬وعلى‭ ‬المستوى‭ ‬الشعبي‭ ‬للناس‭ ‬العاديين،‭ ‬ويعزى‭ ‬هذا‭ ‬التأمل‭ ‬والهدوء‭ ‬إلى‭ ‬سبب‭ ‬كان‭ ‬يعتبر‭ ‬في‭ ‬السابق‭ ‬سراً‭ ‬خطيراً،‭ ‬ثم‭ ‬ما‭ ‬لبث‭ ‬أن‭ ‬ظهر‭ ‬على‭ ‬الأفق‭ ‬أخيراً،‭ ‬بعد‭ ‬كتاب‭ ‬مثير‭ ‬يحمل‭ ‬عنوان‭ ‬اجاسوس‭ ‬بمليار‭ ‬دولارب،‭ ‬حيث‭ ‬تناول‭ ‬الكتاب‭ ‬قصة‭ ‬كشف‭ ‬هوة‭ ‬تكنولوجية‭ ‬في‭ ‬الرادارات‭ ‬الروسية‭.‬

بدأت القصة في 16 فبراير عام 1978حينما فوجئ رئيس الاستخبارات الأمريكية السي آي إيه (CIA) - فرع موسكو، عاصمة الاتحاد السوفييتي سابقاً، بشخص متوسط العمر يسلمه ظرفاً يحتوي على أسرار تكنولوجية صناعة عسكرية حساسة لم تكن في حسبان الولايات المتحدة الأمريكية؛ وبعدها توالت اللقاءات والمعلومات مع ذلك الشخص السوفييتي، وهو أودولف تولكاجيف مهندس الرادارات العسكرية. ومع مرور الأيام اتضح أن تولكاجيف ساعد الولايات المتحدة في إحداث خرق تكنولوجي في مجال الحرب الإلكترونية المضادة وتفادي الرادارات السوفييتية لعقود؛ وساهم ذلك بدوره في تطوير مبادئ تكتيكية تكفل للولايات المتحدة التملص من الكشف والرصد، وعززت من تفوّقها في مجال الصواريخ الجوالة والقاذفات التكتيكية، وكذلك الاستراتيجية البعيدة المدى، فضلاً عن المقاتلات المخصصة للقتال الجوي، واستمر هذا حتى بعد سقوط الاتحاد السوفييتي الذي ورثته روسيا الاتحادية اليوم.

 

حادثة‭ ‬الطائرة‭ ‬‮«‬يو‭ ‬–‭ ‬2‮»‬

لعل حادثة إسقاط الطائرة يو - 2 الاستطلاعية، وأسر طيارها الأمريكي فرانك باورز في الاتحاد السوفييتي، عندما كانت تقوم بمهمة تجسسية في أجوائه عام 1960 وما تلاها من إسقاطات فوق الصين وكوبا بعد ذلك، قد أضرت بالقيادة الأمريكية وسببت لها إحراجاً دبلوماسياً في أوساط المجتمع الدولي، نظراً لضرورة اتخاذ الإجراءات الاحترازية كي تضمن سلامة الطيارين ومنع وقوعهم في الأسر قدر الإمكان، والأهم عدم حصول العدو على الأجهزة الحسّاسة للطائرة التي تعرّضت للإسقاط، والتي قد يكون بعضها حديثاً ومتطوراً لدرجة خطيرة؛ وكان ذلك بعد أن تمكن الاتحاد السوفييتي من تطوير شبكة دفاع جوي متمثلة برادارات أرضية وصواريخ «سام – 2»، فحد ذلك من إمكانية توغل الطائرات في الأجواء السوفييتية. تلا ذلك التحول من الارتفاع الشاهق إلى السرعة العالية جداً بطائرة «لوكهيد إس آر – 71 بلاك بيرد»، التي تجاوزت سرعتها القصوى ثلاثة أضعاف، لكن الخطر ظلّ قائماً وازداد القلق من خطورة ما لدى السوفييت من رادارات.

 

تعريف‭ ‬الرادار‭ ‬

كلمة «رادار»  RADAR اختصار لمصطلح «تحديد المدى والكشف من خلال الموجات اللاسلكية أو الراديوية»، وبمعنى أدق إنجليزياً RADIO DETECTION AND RANGING وهو جهاز إلكتروني يعمل على الكشف عن الأجسام العاكسة للموجات الكهرومغناطيسية التي يطلقها ذلك الرادار في مديات أو مجالات بعيدة حسب قوة الرادار، وحتى خارج المدى البصري، سواء خلال الظلام في الليل أو في الضباب والدخان الكثيفين، كذلك الغبار، من دون تأثر وتحديد مداها واتجاهها. وأبسط مثال على ميزة تحديد المدى والاتجاه في أثناء الطيران الخفافيش التي تقوم عادة بإصدار موجات صوتية عالية التردد تحدد بها العوائق داخل الكهوف المظلمة كي لا تصطدم بها، ويعتبر المصدر الكهربائي هو الأساس في إمداد «الرادار» بالطاقة اللازمة لتشغيله، ويتم توليد ذلك في الطائرات عن طريق المولدات المحمولة على متنها التي تستمد بدورها طاقتها من المحركات التابعة للطائرة.

 

فجوة‭ ‬دفاعية‭ ‬

كشف تولكاجيف للأمريكيين وجود فجوة دفاعية خطيرة في منظومة الدفاع الجوي للاتحاد السوفييتي، حيث تبين أن الرادارات الأرضية لا يمكنها كشف الأهداف المحلقة على ارتفاعات منخفضة جداً، فضلاً عن أن رادارات المقاتلات السوفييتية لا يمكنها هي الأخرى أن تكتشف تلك الطائرات، حيث تؤثر التضاريس الأرضية وانعكاس أشعة الرادار المنبعثة منها على وضوح الصورة الرادارية، وبالتالي تستحيل متابعتها، وهو ما مهد لتكتيكات خطيرة انتهجها الغرب بعد ذلك لاختراق الأجواء السوفييتية.

 

بلورة‭ ‬الفكرة

بعد النجاح الذي حققته «القنابل الطائرة» من نوع «في – 1» خلال أواخر الحرب العالمية الثانية، والدور الكبير الذي أدته في تدمير جزء كبير من المدن البريطانية، وإحداث ضرر في المعنويات لدى الخصم، ركزت دول التحالف، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، على أبحاث الأسلحة الموجهة عن بعد، وعلى الرغم من خسارة ألمانيا، فإن ذلك لم يوقف الأبحاث التي انتقلت إلى الولايات المتحدة بعد ذلك ليتم إكمالها، ونظراً لظهور الدفع النفاث وازدهاره وتطبيقه على الصواريخ الباليستية من نوع «أرض - أرض» فإن ظهور الصواريخ الجوالة قد تأخر، لتظهر في فترة السبعينيات من القرن الماضي.

 

صواريخ‭ ‬كروز‭ ‬

استفاد الأمريكيون من تكنولوجيا صواريخ كروز بصورة أفضل، أدت إلى نماذج متفوقة أقلقت الروس كثيراً، وجعلتهم يشعرون بحساسية تجاهها، خاصة خلال الحرب الباردة إبان حقبة السوفييت، إذ إنهم وجدوا صعوبة في إيجاد وسائل دفاعية مضادة لها، لأن الصواريخ الجوالة (كروز) ذات مقطع راداري ضئيل نظراً لحجمها الصغير، وتطير على علو منخفض جداً، وتتلافى قمم الأشجار وجميع العوائق، الطبيعية منها أو الاصطناعية، لتصل إلى أهدافها بدقة من دون أن تكتشف من خلال الرادار. وتتنوع حمولة تلك الصواريخ الجوالة ما بين الرؤوس النووية، أو التقليدية والقنابل الانشطارية أو حتى قنابل الميكروويف أو الجرافيت (المخصصة لتدمير محطات الطاقة الكهربائية، وكل ما هو إلكتروني)،  ويمكن إطلاق تلك الصواريخ من البحر أو الجو أو البر، ويتم توجيهها إلى أهدافها بالأقمار الاصطناعية والأجهزة الملاحية المحمولة على متنها من نوع «تركوم Tercom» التي تعمل بجميع الأحوال الجوية.

 

تكلفة‭ ‬أقل‭ ‬وفاعلية‭ ‬كبيرة

على صعيد التكلفة، فإن الصواريخ الجوالة تقع ضمن نطاق الأسلحة التي تستخدم مرة واحدة، لذا فهي محسوبة التكلفةِ ويعتبرها البعض أفضل بكثير من استخدام المقاتلات القاذفة أو حتى القاذفات الخفية، فعلى الرغم من التطور التكنولوجي الصناعي، فإن تكلفة تطوير صاروخ موجه لاتزال أدنى كثيراً من تكلفة تطوير طائرة مقاتلة عادية، وهو أمر مؤكد في مجال الإنتاج، فعلى سبيل المقارنة يكلف صاروخ «توما هوك» الجوال 900 ألف دولار، بينما يبلغ سعر مقاتلة واحدة من طراز F16c ما يزيد على 50 مليون دولارِ؛ هذا وقد أثار النجاح الباهر الذي حققته صواريخ توما هوك Tomahawk الجوالة التي انطلقت في الساعات الأولى من فجر يوم الخميس 17 يناير 1991 في حرب تحرير الكويت، تساؤلات عن المدى الذي تمكن فيه مواجهة تلك الصواريخ التي باتت خطورتها تزداد يوماً بعد يوم.

 

‭ ‬انظر‭ ‬أسفل‭ ‬–‭ ‬أطلق‭ ‬أسفل

أفضل الإجراءات الوقائية ضد الأهداف المحلقة على علو شديد الانخفاض، هو الاعتراض بالمقاتلات الجوية، ويعزز ذلك وجود طائرة أواكس للإنذار المبكر، حيث إنها ذات كفاءة عالية في كشف الأهداف المتسللة أياً كان ارتفاعها، ومن ثم توجيه المقاتلات المعترضة إلى تلك الأهداف على علو منخفض، وبالتالي إطلاق عدة صواريخ جو - جو من النوع «أطلق - وانس» كصواريخ «الآمرام»  الشبيهة بتلك التي أطلقتها المقاتلة التركية لإسقاط السوخوي الروسية، أو بالنسبة للروس مقاتلات «الميغ - 31»، التي خصصت لاصطياد الصواريخ الجوالة الأمريكية من مسافات بعيدة (خارج المدى البصري) قبل دخولها الأجواء الصديقة، والتي قام الجاسوس تولكاجيف بتسريب جميع مخططات عمل راداراتها إلى الأمريكيين قبل أن يتم إلقاء القبض عليه بعد ذلك؛ الأمر الذي مكن الأمريكيين من إيجاد إجراء وقائي لتفادي الكشف بوساطة راداراتها هي الأخرى، وتعرف تلك التقنية بمبدأ «انظر أسفل – أطلق أسفل» (Look down – Shoot down)، التي سبق الغرب السوفييت وقتها في ذلك بعقود.

 

عنصر‭ ‬الخفاء

بعد تمكن السوفييت من التغلب على معضلة راداراتهم، سواء الأرضية منها أو تلك المحمولة جوا، وإدراج مبدأ النظر لأسفل والإطلاق لأسفل في رادارات مقاتلاتها المعترضة كنماذج الميج الأحدث من طراز – 25 فوكسبات، ومن ثم الميج – 31 فوكسهواند؛ وكشف الجاسوس السوفييتي تولكاجيف للأمريكيين وجود نية لدى موسكو في تطوير طائرة إنذار مبكر محمولة جواً «أواكس» كالتي لدى الغرب، اتجهت واشنطن إلى مبدأ آخر لاختراق أرض العدو، فبدلاً من التحليق على ارتفاعات شاهقة وبسرعة عالية كما كان في الستينيات، ومن ثم التحول إلى الطيران الملاصق للأرض تحت مظلة الكشف الرادارية، ظهر مبدأ الخفاء أو «الستِيلْث» Stealth. وهو مفهوم سبق أن جُرب من قِبَل ألمانيا النازية ولكن داخل المخابر وليس عملياًّ، ثم ما لبث أن انتقل مع هزيمة ألمانيا إلى الولايات المتحدة، فكانت شركة لوكهيد الرائدة في تطبيق ذلك من خلال طائرتها الفريدة من نوعها «إف – 117»، التي باتت بعد حرب تحرير الكويت تلقب بالشبح، كونها عصية على الكشف، ودخل السوفييت وبعدهم الروس في دوامة أخرى ما لبثوا أن وجدوا لها بصيص أمل لتتحول واشنطن إلى بعد آخر هي الأخرى.

 

لعبة‭ ‬القط‭ ‬والفأر‭... ‬أو‭ ‬الحمار‭ ‬والجزرة

الكر والفر بين الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية لم ينته حتى مع سقوط الاتحاد السوفييتي، والدليل على ذلك الأحداث في سورية، وما نتج عنها من توتر ظاهر في العلاقات بين الإدارتين، فعلى الرغم من استمرار روسيا في تطوير طائرات حديثة متفوقة جوياً ومعززة برادارات متطورة وحديثة ومدعمة بأسلحة قياسية، فإن السبق لا يزال لمصلحة الغرب، وتحديداً للولايات المتحدة، والسبب يرجع لأمرين اثنين لا ثالث لهما: الأول النمط الصناعي في الولايات المتحدة، حيث الحرية التامة في تمويل الأبحاث العسكرية والتكنولوجية والدعم المادي اللامحدود لذلك، والثاني هو ما قدمه الجاسوس السوفييتي أودولف تولكاجيف من معلومات ومخططات للأمريكيين خلال فترة تجنيده بين 1978 و1983، حيث وصف أحد الخبراء العسكريين في البنتاجون (وزارة الدفاع الأمريكية) أن قيمتها تساوي مليار دولار. وهذا بدوره أدى دوراً مهماً في الإضرار بالصناعة الروسية لعقود، وزاد من حجم الهوّة التكنولوجية بينها وبين الغرب، واليوم نلاحظ كيف استطاعت مقاتلة من طراز إف – 16 مسلحة بصاروخ من نوع «آمرام» اكتشاف الهدف فور إطلاقه والانقضاض عليه بصورة لا تسمح له بالتفادي والمناورة. يذكر أن تولكاجيف انكشف في العام 1984 بسبب وشاية أحد العملاء الأمريكيين في السي آي إيه، وتم إعدامه، لكن الضرر قد وقع ولم يعد بيد روسيا شيء سوى العمل على تعويض هذه الفجوة بكل ما أوتيت من قوة .