جمال العربية
جمال العربية
«هو الحب» ترنيمة عمر بن الفارض هو إمام المحبّين وسلطان العاشقين عمر بن الفارض، علم من أعلام التصوّف الإسلامي، وأشهر شعرائه. وقصائده هي الأكثر دورانًا على الألسنة والأقلام، وفي هتفات الذاكرين وجلوات العابدين، وهو صاحب النموذج الشعري الأول الذي صيغت على وزنه وقافيته بُردة البوصيري، ومن تابعوه بالمعارضة من أمثال البارودي في «كشف الغمة بمدح سيد الأمة»، وشوقي في «نهج البردة» وغيرهما من الشعراء. وذلك حين قال في قصيدته التي يستهلها بالتساؤل عن نار ليلى:
وصولاً إلى قوله، وهو معنى تناهبه الشعراء من بعده، وهو في قصيدة شوقي «تناصُّ» كامل:
جعله شوقي على هذه الصورة:
أما المعجم الشعري لابن الفارض من مثل: ليلى وسَلَم والعَلَم ونعْمان ووجرة والشّيح والحمى والعقيق وغيرها، فقد أصبحت جزءًا من الموروث الشعري المشترك بين كثير من الشعراء المتصوفة، وحتى الشعراء العشاق بلا تصوّف. وأكمل تعريف لابن الفارض وأوجزه - في الوقت نفسه - ما نجده في المقدمة الضافية، التي كتبها الأب الدكتور جوزيبي سكاتولين - المستشرق الإيطالي المقيم الآن في القاهرة - الذي أصدر بعد سنوات طويلة من صحبة ابن الفارض على مستوى الدراسة الأكاديمية، والاقتراب الروحي والتحقيق اللغوي أكمل طبعة محققة وأوفاها لديوان ابن الفارض. الذي كان موضوع رسالته للدكتوراه في التصوّف الإسلامي (المعهد الباباوي للدراسات الإسلامية والعربية، 7891، روما). يقول الدكتور سكاتولين عن ابن الفارض: «ولد أبو القاسم عمر بن الفارض الحمويّ الأصل والمصريّ النشأة والمقام والوفاة في القاهرة في الرابع من ذي القعدة سنة 675هـ/1811م ، ويتفق جميع مَن ترجموا له على أنّ اسمه عمر وكُنْيته «أبو القاسم» أو «أبو حفص». ولقبه «شرف الدين»، وأنه ابن أبي الحسن علي بن المرشد بن عليّ، من أسرة كانت تفتخر بنسب متصل ببني سعد، قبيلة حليمة السّعدية مُرضعة محمد - صلى الله عليه وسلم - رسول الإسلام». عاش ابن الفارض الأحداث المجيدة التي حققها الأيوبيون، فقد ترعرع في أيام صعود القائد البطل الناصر صلاح الدين الأيوبي إلى ذروة مجده، وعاش في ظل الملك الكامل في مصر، وتوفي قبل سقوط الدولة الأيوبية على أيدي المماليك بسنين عدة. يذكر أن أباه عليا أبا الحسن قدم من حماة في بلاد الشام (ولذلك سمّى ابنه بالحموي)، حيث رزق بابنه عمر. وصار أبو الحسن يعمل بالفقه حتى أصبح فقيهًا شهيرًا خاصة في إثبات ما فُرض للنساء على الرجال من حقوق، وذلك في بلاط الحكم. فتولى نيابة الحكم وغلب عليه لقب «الفارض»، ومن ثمّ لُقّب ابنه عمر بـ(ابن الفارض). بدأ الشاعر سياحته الصوفية مبكرًا، فكان يذهب إلى وادي المستضعفين بالمقطم، وهو جبل شرقيّ بالقاهرة، ثم يعود من سياحته إلى أبيه الذي كان يُلزم ابنه بالجلوس معه في مجالس الحكم ومدارس العلم. ويذكر معاصروه أن ابن الفارض تعلّم الحديث على يدي واحدٍ من كبار المُحدّثين في عصره، وهو العلامة الشافعيّ أبو محمد القاسم بن علي بن عساكر الدمشقي، وهكذا انتمى ابن الفارض للمذهب الشافعي فلُقّب بالشافعي. وتقول المصادر التاريخية إن ابن الفارض جاور مكة المكرمة فترة من حياته وفْقًا لما صارت عليه العادة عند الصوفية، طالبًا في رحابها الفيض الإلهي الذي لم يفض عليه ولم يُفتح به في ديار مصر. ومن آثار مجاورته في مكة ما أنشد في ديوانه:
وتوفى ابن الفارض بعد رجوعه إلى مصر بأربع سنوات يوم الثلاثاء الثاني من جُمادى الأولى سنة 632هـ/1235م ودفن بسفح المقطم تحت المسجد المعروف بالعارض. ويقول الدكتور سكاتولين «إن ابن الفارض لم يترك لنا من بعده شيئًا آخر سوى ديوانه المعروف، فلم يعثر له على أي نوع من رسالة أو كتاب نسْتعين به لتوضيح مذهبه الصوفي. وهو يخالف في ذلك معاصره الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي (638هـ/1240م) الذي ترك لنا بحرًا زاخرًا من المؤلفات في شتى أنواعها». وبعيدًا عن هذا كله، سنجد في شعر ابن الفارض - عندما نطالعه ونتأمله ونقضي معه ما يستحقه من معايشة وجهد - كنوزًا من الرموز ومفردات الحب الصوفي والعشق الإلهي. مَن يقربها دون أن يتزوّد بالثقافة المطلوبة والحسّ المفعم بالإشراق يشتبه عليه الأمر، ويظن الحب في شعر ابن الفارض حبًا بشريًا. وأن الحديث عن الخمر والكأس سياق دُنْيوي يعيث فيه صاحبه فسادًا ويبحث عن اللذة والمتعة. من هنا تصبح القراءة الثانية في ظل وعي كاشف واستعداد روحي قويّ، ضرورة لعبور هذا البرزخ بين البشرية والروحية، بين الحسّ المادي والرؤيا الصوفية. يقول ابن الفارض في قصيدته «هو الحبُّ»:
|