جمال العربية

جمال العربية

«هو الحب» ترنيمة عمر بن الفارض

هو إمام المحبّين وسلطان العاشقين عمر بن الفارض، علم من أعلام التصوّف الإسلامي، وأشهر شعرائه. وقصائده هي الأكثر دورانًا على الألسنة والأقلام، وفي هتفات الذاكرين وجلوات العابدين، وهو صاحب النموذج الشعري الأول الذي صيغت على وزنه وقافيته بُردة البوصيري، ومن تابعوه بالمعارضة من أمثال البارودي في «كشف الغمة بمدح سيد الأمة»، وشوقي في «نهج البردة» وغيرهما من الشعراء. وذلك حين قال في قصيدته التي يستهلها بالتساؤل عن نار ليلى:

هل نار ليلى بدت ليْلاً بذي سَلَمِ أم بارق لاح بالزّوْراءِ فالعَلَمِ
أرواحَ نَعْمانَ هلاّ نسمةْ سحرًا وماء وَجْرةَ هلاّ نهلةٌ بفمي
يا سائق الظعن يطوي البيدَ مُعتسفًا طيّ السّجلِّ لذات الشّيحِ من إضمِ
عُجْ بالحمى يارعاك الله معتمدًا خميلة الضالِِ ذاتَ الرّنْدِ والخَزَمِ


وصولاً إلى قوله، وهو معنى تناهبه الشعراء من بعده، وهو في قصيدة شوقي «تناصُّ» كامل:

يا لائمًا لامني في حبّهم سفها كُفّ الملامَ فلو أحبَبْتَ لم تَلمِ


جعله شوقي على هذه الصورة:

يا لائمي في هواه، والهوى قدرٌ، لو شفّك الوجد لم تعذْلْ ولم تلُمِ


أما المعجم الشعري لابن الفارض من مثل: ليلى وسَلَم والعَلَم ونعْمان ووجرة والشّيح والحمى والعقيق وغيرها، فقد أصبحت جزءًا من الموروث الشعري المشترك بين كثير من الشعراء المتصوفة، وحتى الشعراء العشاق بلا تصوّف. وأكمل تعريف لابن الفارض وأوجزه - في الوقت نفسه - ما نجده في المقدمة الضافية، التي كتبها الأب الدكتور جوزيبي سكاتولين - المستشرق الإيطالي المقيم الآن في القاهرة - الذي أصدر بعد سنوات طويلة من صحبة ابن الفارض على مستوى الدراسة الأكاديمية، والاقتراب الروحي والتحقيق اللغوي أكمل طبعة محققة وأوفاها لديوان ابن الفارض. الذي كان موضوع رسالته للدكتوراه في التصوّف الإسلامي (المعهد الباباوي للدراسات الإسلامية والعربية، 7891، روما).

يقول الدكتور سكاتولين عن ابن الفارض: «ولد أبو القاسم عمر بن الفارض الحمويّ الأصل والمصريّ النشأة والمقام والوفاة في القاهرة في الرابع من ذي القعدة سنة 675هـ/1811م ، ويتفق جميع مَن ترجموا له على أنّ اسمه عمر وكُنْيته «أبو القاسم» أو «أبو حفص». ولقبه «شرف الدين»، وأنه ابن أبي الحسن علي بن المرشد بن عليّ، من أسرة كانت تفتخر بنسب متصل ببني سعد، قبيلة حليمة السّعدية مُرضعة محمد - صلى الله عليه وسلم - رسول الإسلام».

عاش ابن الفارض الأحداث المجيدة التي حققها الأيوبيون، فقد ترعرع في أيام صعود القائد البطل الناصر صلاح الدين الأيوبي إلى ذروة مجده، وعاش في ظل الملك الكامل في مصر، وتوفي قبل سقوط الدولة الأيوبية على أيدي المماليك بسنين عدة.

يذكر أن أباه عليا أبا الحسن قدم من حماة في بلاد الشام (ولذلك سمّى ابنه بالحموي)، حيث رزق بابنه عمر. وصار أبو الحسن يعمل بالفقه حتى أصبح فقيهًا شهيرًا خاصة في إثبات ما فُرض للنساء على الرجال من حقوق، وذلك في بلاط الحكم. فتولى نيابة الحكم وغلب عليه لقب «الفارض»، ومن ثمّ لُقّب ابنه عمر بـ(ابن الفارض).

بدأ الشاعر سياحته الصوفية مبكرًا، فكان يذهب إلى وادي المستضعفين بالمقطم، وهو جبل شرقيّ بالقاهرة، ثم يعود من سياحته إلى أبيه الذي كان يُلزم ابنه بالجلوس معه في مجالس الحكم ومدارس العلم. ويذكر معاصروه أن ابن الفارض تعلّم الحديث على يدي واحدٍ من كبار المُحدّثين في عصره، وهو العلامة الشافعيّ أبو محمد القاسم بن علي بن عساكر الدمشقي، وهكذا انتمى ابن الفارض للمذهب الشافعي فلُقّب بالشافعي.

وتقول المصادر التاريخية إن ابن الفارض جاور مكة المكرمة فترة من حياته وفْقًا لما صارت عليه العادة عند الصوفية، طالبًا في رحابها الفيض الإلهي الذي لم يفض عليه ولم يُفتح به في ديار مصر. ومن آثار مجاورته في مكة ما أنشد في ديوانه:

يا سجيري روّحْ بمكة رُوحي شاديًا إن رغبْتَ في إسعادي
كان فيها أُنْسي ومعراج قُدسي ومُقامي المقامُ والفتْحُ بادِ


وتوفى ابن الفارض بعد رجوعه إلى مصر بأربع سنوات يوم الثلاثاء الثاني من جُمادى الأولى سنة 632هـ/1235م ودفن بسفح المقطم تحت المسجد المعروف بالعارض. ويقول الدكتور سكاتولين «إن ابن الفارض لم يترك لنا من بعده شيئًا آخر سوى ديوانه المعروف، فلم يعثر له على أي نوع من رسالة أو كتاب نسْتعين به لتوضيح مذهبه الصوفي. وهو يخالف في ذلك معاصره الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي (638هـ/1240م) الذي ترك لنا بحرًا زاخرًا من المؤلفات في شتى أنواعها».

وبعيدًا عن هذا كله، سنجد في شعر ابن الفارض - عندما نطالعه ونتأمله ونقضي معه ما يستحقه من معايشة وجهد - كنوزًا من الرموز ومفردات الحب الصوفي والعشق الإلهي. مَن يقربها دون أن يتزوّد بالثقافة المطلوبة والحسّ المفعم بالإشراق يشتبه عليه الأمر، ويظن الحب في شعر ابن الفارض حبًا بشريًا. وأن الحديث عن الخمر والكأس سياق دُنْيوي يعيث فيه صاحبه فسادًا ويبحث عن اللذة والمتعة. من هنا تصبح القراءة الثانية في ظل وعي كاشف واستعداد روحي قويّ، ضرورة لعبور هذا البرزخ بين البشرية والروحية، بين الحسّ المادي والرؤيا الصوفية.

يقول ابن الفارض في قصيدته «هو الحبُّ»:

هو الحب فاسلمْ بالحشَا، ما الهوى سهْلُ فما اختاره مُضْنًى به وله عقْلُ
وعِشْ خاليًا فالحبُّ راحتهُ عَنًا وأوّلهُ سُقْمٌ وآخرهُ قتْلُ
ولكنْ لديّ الموتُ فيه صبابةً حياةٌ لمنْ أَهْوَى عليَّ بها الفضْلُ
نَصحْتُكَ علمًا بالهوى والذي أرى مُخالفتي، فاخترْ لنفْسِكَ ما يحلو
فإن شئْتَ أن تحْيا سعيدًا فمُتْ به شهيدًا، وإلا فالغرامُ له أَهْلُ
فمنْ لم يمتْ في حُبّه لم يعشْ به ودون اجتناء الشهد ما جَنتِ النّحْلُ
تمسكْ بأذيال الهوى واخلع الحيا وخَلِّ سبيل الناسكين وإن جلّوا
وقلْ لقتيل الحبِّ، وفّيْتَ حقّهُ وللمُدّعي هيهات، ما الكَحَلُ الكُحْل
تعرّض قومٌ للغرام، وأعرضوا بجانبهم عن صحّتي فيه واعتلّوا
رضُوا بالأماني، وابتُلوا بحظوظهم وخاضوا بحار الحبّ دعوى فما ابتلّوا
فهم من السُّرى لم يبرحوا من مكانهم وما ظعنوا في السير عنه وقد كلّوا
وعن مذهبي لمّا استحبّوا العمى على الـ ـهدى حسدًا، من عند أنفسهم ضلّوا
أحبةَ قلبي والمحبةُ شافعٌ إليكم إذا شئتم بها اتّصل الحبْلُ
عسى عطْفةٌ منكم عليّ بنظرةٍ فقد تعبتْ بيني وبينكمو الرُّسْلُ
أحبّائي أنتم، أَحْسَن الدهرُ أم أَسَا فكونوا كما شئتم أنا ذلك الخِلُّ
إذا كان حظّي الهجْرَ منكم، ولم يكنْ بعادٌ فذَاك الهجرُ عندي هو الوصْلُ
وما الصدُّ إلا الودُّ، ما لم يكنْ قِلي وأصعبُ شيء غيْر إعراضكم سهْلُ
وتعذيبُكم عذْبٌ لديّ وجَوْرُكم عليّ بما يقضي الهوى لكمو عدْلُ
وصبريَ صبرٌ عنكمو وعليكمو أرى أبدًا عندي مرارتُهُ تحْلُو
أخذْتُم فؤادي وهو بعْض فما الذي يضُركمو لو كان عندكمو الكلُّ
نأيْتُم فغيرُ الدّمعِ لم أَرَ وافيًا سوى زفرةٍ من حرّ نار الجوى تَعْلُو
فسُهْديَ حيٌ في جُفوني مُخلّدٌ ونوْمي بها ميْتٌ ودمعي له غُسْلُ
هوى طلّ ما بين الطلولِ دمي فمن جُفوني جرى بالسّفْح من سفْحِه وَبْلُ
تبا له قومي إذْ رَأوْني مٌُتيّما وقالوا بمنْ هذ الفتى مسّهُ الخبْلُ
وماذا عسى عنّي يقالُ سوى غَدَا بِنُعْمِ له شُغْلٌ، نَعْم لي بها شُغل
وقال نساءُ الحيّ عنّا بذِكْرِ مَنْ جفانا، وبعْدَ العزِّ لذّ له الذلُّ
إذا أَنعمتْ نُعْم عليَّ بنظرةٍ فلا أَسعدتْ سُعْدى ولا أَجملتْ جُمْلُ
وقد صدِئتْ عني برؤية غيْرها ولثمُ جُفوني تُرْبَها للصّدا يجلو
وقد علموا أني قتيلُ لحاظها فإنّ لها في كلّ جارحةٍ نَصْلُ
حديثي قديمٌ في هواها، وما له كما علِمتْ بعْدٌ وليس له قَبْلُ
وما ليَ مثْلٌ في غرامي بها كما غَدتْ فتنةً في حُسْنها ما لها مِثْلُ
حرامٌ شفا سُقْمي لديها، رضيتُ ما به قَسَمتْ لي في الهوى ودمي حِلٌ
فحالي وإن ساءتْ فقد حسُنتْ بها وما حطّ قدْري في هواها به أعْلُو
وعنفوانُ ما فيها لقيتُ، وما به شَقيتُ، وفي قوْلي اختُصِرْتُ ولم أغْلُ
خفيتُ ضنىً حتى لقد ضلّ عائدي وكيف ترى العُوّادُ من لا له ظِلٌّ
وما عثرتْ عينٌ على أثري ولم تَدعْ ليَ رسْمًا في الهوى الأعينُ النّجْلُ
ولي همةٌ تعلو إذا ما ذكرْتُها وروحٌ بذكراها إذا رخُصتْ تغْلُو
جرى حبُّها مَجْرَى دمي في مفاصلي فأصبح لي عن كلّ شُغلٍ بها شُغلُ
فَنافسْ ببذْلِ النفْس فيها أَخَا الهوى فإن قبلتْها منْكَ، يا حبّذا البذْلُ
فمنْ لم يجُدْ في حُبّ نُعْمٍ بنفْسهِ وإن جاد بالدنيا إليه انتهى البُخْلُ
ولولا مراعاةُ الصبابةَ غيْرةً وإن كثرُوا أهلُ الصبابة أو قلّوا
لَقلتُ لعِشّاقِ الملاحةِ أقبلوا إليها على رأيي وعن غيرها ولّوا
وإن ذُكرتْ يومًا فخرُّوا لذِكْرها سجودًا وإن لاحتْ إلى وجْهها صلُّوا
وفي حُبّها بعْت السّعادةَ، بالشّقا ضلالاً، وعقلي عن هُداتي به عقْلُ
وقلتُ لرشدي، والتنسُّكِ والتُّقى تخلّوا وما بيني وبين الهوى خلّوا
وفرغْتُ قلبي من وجوديَ مُخلصًا لعلّيَ في شُغلي بها معها أخلو
ومن أجلها أسْعى لمن بيْننا سعى وأغدو ولا أعدو لمن دأبُه العذّلُ
فأرتاحُ للواشين بيْني وبيْنها لتعْلمَ ما أَلْقى وما عندها جهْلُ
وأصبو إلى العُذّال حبًا لذكْرها كأنهمو ما بيْننا في الهوى رُسْل
فإن حدّثوا عنها فكُلّي مسامعٌ وكُلّيَ إن حدّثْتهمُ ألسنٌ تتلو
تخالفت الأقوالُ فينا تبايُنًا برجْمِ ظنونٍ بينَنا ما لها أصْلُ
فشنّعَ قومٌ بالوصالِ ولم تصلْ وأَرجفَ بالسُّلوانِ قومٌ ولم أسْلُ
وما صدقَ التشنيعُ عنها لشقْوتي وقد كشفَتْ عني الأراجيفُ والنقل
وكيف أُرجّي وصْلَ من لو تصوّرتْ حِماها المُنى وهْنًا لضاقت بها السّبْلُ
وإن وعدتْ لم يلحق الفعلُ قوْلها وإن أُوعدتْ فالقولُ يسبقهُ الفعلُ
عديني بوصلٍ وامْطُلي ينجازه فعندي إذا صحّ الهوى حسُنَ المَطْلُ
وحُرمةِ عهدٍ بيننا عنه لم أحلُّ وعقد بأيدٍ بيننا ما له حلُّ
لأَنْتِ على غيْظِ النّوى ورضا الهوى لديّ وقلبي ساعةً منْكِ ما يخلو
تُرى مُقلتي يومًا تَرً مَنْ أحبُّهم ويُعتبني دهري ويجتمعُ الشّمْلُ
ما برحوا معنى أراهم معي، فإن نَأوا صورةً في الذهن قام لهم شكْلُ
فهم نصْب عيني ظاهرًا حيثما سَروْا وهم في فؤادي باطنًا أينما حلّوا
لهم أبدًا مني حُنواٌ وإن جَفوْا ولي أبدًا ميْلٌ إليهم وإن ملُّوا


 

فاروق شوشة