تحلية المياه بأغشية الجرافين النانوية

تحلية المياه  بأغشية الجرافين النانوية

إن‭ ‬توافر‭ ‬مياه‭ ‬عذبة‭ ‬لسكان‭ ‬العالم‭ ‬يُعد‭ ‬من‭ ‬الأمور‭ ‬المهمة‭ ‬جداً‭ ‬لاستمرار‭ ‬الحياة‭ ‬على‭ ‬كوكب‭ ‬الأرض،‭ ‬فالطلب‭ ‬المتزايد‭ ‬على‭ ‬المياه‭ ‬أصبح‭ ‬مشكلة‭ ‬عالمية؛‭ ‬والمصادر‭ ‬التقليدية‭ ‬للمياه‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تفي‭ ‬بحاجة‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬المياه‭ ‬العذبة،‭ ‬وقد‭ ‬قامت‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬بمقارنة‭ ‬بين‭ ‬استهلاك‭ ‬المياه‭ ‬والمتوافر‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العالم،‭ ‬وتوقعت‭ ‬أنه‭ ‬بحلول‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬الحالي‭ ‬سيعاني‭ ‬حوالي‭ ‬2-7‭ ‬مليارات‭ ‬إنسان‭ ‬ندرة‭ ‬المياه؛‭  ‬لذلك‭ ‬بحث‭ ‬العلماء‭ ‬عن‭ ‬تقنيات‭ ‬مبتكرة‭ ‬ورخيصة‭ ‬اقتصادياً‭ ‬معتمدة‭ ‬على‭ ‬التقنية‭ ‬المتناهية‭ ‬في‭ ‬الصغر‭ ‬لتوفير‭ ‬المياه‭ ‬العذبة‭ ‬بتحلية‭ ‬مياه‭ ‬البحار‭  ‬والمحيطات،‭ ‬فالتقنيات‭ ‬القائمة‭ ‬اليوم‭ ‬لتحلية‭ ‬مياه‭ ‬البحار‭ ‬والمحيطات‭ ‬مكلفة‭ ‬اقتصادياً‭ ‬للغاية،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬تستهلك‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬الطاقة‭ ‬التي‭ ‬يتوقع‭ ‬ندرتها‭ ‬في‭ ‬المستقبل‭.‬

تكنولوجيا النانو أعطت الأمل في تطوير تقنيات تحلية المياه, حين تم تجريب أنابيب الكربون النانوية في صناعة الأغشية المستخدمة في التحلية، وقد أكدت التجارب المعملية والميدانية أنه مع استخدام أنابيب الكربون النانوية، انخفضت تكلفة عمليات التحلية بنسبة 75 في المائة، وذلك إذا ما قورنت بتقنية التناضح العكسي الباهظة التكلفة المستخدمة اليوم، وتمثل أنابيب الكربون المؤلفة من فتحات نانوية الأبعاد مصادر فريدة ومتميزة لعمليات الترشيح و«الفلترة», فتصمم فتحاتها بحيث تسمح لجزيئات الماء النقي بالعبور خلالها، بينما تحجب مرور جزيئات الأملاح المذابة مع الماء النقي.

 

تقنية‭ ‬واعدة‭ ‬لتحلية‭ ‬المياه

     تقوم هذه التقنية الواعدة بتحلية مياه البحار والمحيطات, عن طريق أغشية ذات مسام نانوية مصنعة من مادة الجرافين Graphene, التي تعد من أكثر المواد رقة على الإطلاق, سمكها رقاقة واحدة مفردة من ذرات الكربون, تتخذ شكلاً نمطيًّا كخلايا قرص العسل السداسية الأضلاع. والجرافين صلب كالألماس، وأقوى من الصلب مئات المرات، لكنه في الوقت نفسه في غاية المرونة, بل قابل للمط, يوصل الكهرباء عند درجة حرارة الغرفة أسرع من أي مادة أخرى معروفة. وخلال العقد الماضي منذ فصل الجرافين لأول مرة, اقترح الباحثون عشرات التطبيقات الممكنة بدءاً برقائق حاسوبية أسرع وشاشات لمس مرنة إلى  خلايا طاقة شمسية, وأغشية تحلية مياه عالية الكفاءة.

  وتستند هذه التقنية إلى تفوق نفاذية غشاء الجرافين ذي المسام النانوية للمياه, وكذلك معدل رفضه للملح على بقية الأغشية المستخدمة في تقنيات تحلية المياه الموجودة الآن, وقد قام بابتكار هذه التكنولوجيا الحديثة العالمان دافيد كوهن وجفري غروسمان من معهد ماساتشوستس للتقنية بالولايات المتحدة الأمريكية، وهي المرة الأولى التي يستكشف فيها العلماء دور الجرافين ذي المسام النانوية كمرشح لتحلية المياه. ويتميز هذا الغشاء باستقراره الكيميائي والميكانيكي، والأهم من ذلك سمكه الضئيل – ذرة كربون واحدة- ويكون على شكل صفيحة سداسية الشكلHexagonal تشبه  قرص العسل, ويتم إحداث ثقوب نانوية في غشاء الجرافين أحادي الطبقة باستخدام عملية الحفر ببلازما الأكسجين التي تعمل على ضبط حجم المسامات.

إن غشاء الجرافين ذا المسام النانوية يمتلك نفاذية عالية ونقلاً سريعاً للماء،  كما أن له معدل رفض عالياً لأيونات الملح، ففي دراسة قام بها Sumedh P. Surwade ,el,al نشرت في23 مارس 2015 في مجلة Nature Nanotechnology ثبت أن أغشية الجرافين ذات المسام النانوية لها معدل رفض للملح يقارب 100 في المائة, ونقل سريع جداً للماء.

و على النقيض من تقنية التناضح العكسي التي تستخدم ضغطاً عالياً لدفع المياه المالحة عبر الأغشية وتصفيتها من الأملاح, وبالتالي استهلاكها كثيراً من الطاقة, فإن أغشية الجرافين تعمل تحت الضغوط المنخفضة, وبالتالي تحتاج إلى طاقة أقل, ومن ثم تكلفة رخيصة, فكلما كان الغشاء أرق في السمك, وأكثر مسامية, زاد تدفق الماء من خلاله وقلّت متطلبات الضغط, وهذا كله يعمل على تقليل الطاقة التي تُستهلك لإنجاز عملية التحلية, فقد أظهرت دراسة قام بها عام 2013 Chongqin Zhu ,el,al, من خلال المحاكاة باستخدام مقاربة الديناميكا الجزيئية MD, أن أغشية الجرافين تستهلك طاقة قليلة جداً لإنتاج متر مكعب واحد من الماء العذب، وهي أقل ألف مرة مقارنة بأغشية التناضح العكسي التجارية ذات التكنولوجيا العالية.

 

حجم‭ ‬المسام‭ ‬وكيمياؤها

يعتمد نجاح عملية التحلية باستخدام غشاء الجرافين على حجم المسام بصورة حاسمة, بالإضافة إلى زرع زمر وظيفية كيميائية Chemical Functionalization على حواف المسام, فحجم أو قطر المسام لابد أن يكون كبيراً بما يكفي ليسمح لجزيئات الماء بالمرور, وصغيراً لمنع مرور أيونات الملح من خلالها, فقد وجد العلماء أن أفضل حجم للمسام من أجل تحلية مياه بكفاءة وفاعلية يتراوح بين 0.5 و1 نانومتر, كما أن كثافة وعدد المسام ينبغي ألا يتجاوزا الواحد لكل 100 نانومتر مربع من مساحة الغشاء, وهذا أفضل وضع ممكن حتى لا يحدث عدم استقرار ميكانيكي أو تدهور مادي للغشاء.

أما فيما يتعلق بكيمياء المسام،  فقد بينت المحاكاة التي قام Cohen & Jeffery باستخدام مقاربة الديناميكا الجزيئية أن زرع زمر وظيفية على حواف المسام يكون له تأثير مهم في تحسين أداء غشاء الجرافين, ففي هذه الدراسة بدلت حواف المسام كيميائياً عن طريق تخميلهاPassivating  بمجموعات الهيدروكسيل (OH) المحبة للماء Hydrophilic، ومجموعات الهيدروجين (H) الكارهة للماء Hyrophobic، واكتشف الباحثون أن مسام الهيدروكسيل تتصرف على نحو أفضل من المسام المهدرجة في ما يتعلق بنفاذية الماء, وعلى العكس في ما يتعلق برفض الملح، ووجد الباحثون أن مسام الهيدروجين تتصرف على نحو أفضل من مسام الهيدروكسيل، الأمر الذي ضاعف سرعة عملية تحلية المياه وفصل الملح عنها.

 

تحضير‭ ‬غشاء‭ ‬الجرافين‭ ‬

يحضر غشاء الجرافين باستخدام طريقة ترسيب الأبخرة الكيميائية، حيث يصب غاز الميثان في أنبوب الفرن على درجة حرارة 1000 C فوق ركيزة Substrate من النحاس، التي تحفز تحلله إلى كربون وهيدروجين، ثم تتطاير ذرات الكربون المفككة إلى النحاس في درجات الحرارة العالية، يليها ترسيب ذرات الكربون على سطح النحاس، أثناء عملية التبريد، وتتجمع ذاتيا Self-assembled مع بعضها في سداسيات متجاورة لتكون صفيحة الجرافين بسمك ذرة كربون واحدة، ثم يثبت غشاء الجرافين على نيتريد السيليكون, ثم يُعرَّض غشاء الجرافين المتكون إلى بلازما الأكسجين من أجل تكوين المسام، ويتم ضبط عدد وحجم المسام من خلال تغيير طول الفترة الزمنية التي يتعرض لها غشاء الجرافين للبلازما .