أسرار الحرف عند العرب القدامى

أسرار الحرف عند العرب القدامى

إن كل أمة وحضارة عاشت على هذه البسيطة منذ الأزل سعت إلى تحقيق الخلود الأبدي، وفكرت في اتخاذ رموز ومعالم لها، تتوارثها البشرية جيلاً بعد جيل في ما يعرف بالتراث الإنساني، فالحضارة المصرية القديمة بنت الأهرام التي تعد من عجائب الدنيا السبع والتي خلدت بها عبر التاريخ، واليونانيون اتخذوا من الفلسفة رمزاً دالاً على حضارتهم استمرت باستمرار التفكير البشري وإعمال العقل في العلوم والنظريات وتطبيقها.

   أما الحضارة العربية فقد اتخذت من الحرف العربي رمزاً لها، واختارت من حروفها الثمانية والعشرين حرف الضاد، وأصبحت اللغة العربية يكنى عنها بلغة الضاد، وإن للحرف عند العرب أسراراً، وهو ما جعلهم يعتمدون - دون غيرهم من الشعوب - لكل حرف عدداً يقابله، سمي بحساب الجمل الكبير، وحساب الجمل الصغير، وقد استعمل هذا الحساب للتأريخ للأحداث الجسام وحشدت في الشعر الذي اعتبر ديوان العرب والجامع لثقافتهم. وهي طريقة استبدلت الأعداد بالحروف. وفي علم الفلك عند العرب أيضاً، وظفت الحروف بأسرارها في الجداول والطلاسم كالمثلث المعروف عند الغزالي، الذي يكتنز كنوزاً من أسرار الحروف. ويروي صاحب كتاب «نزهة المجالس» قصة الصبي الذي جاء إلى الشاعر أبي العلاء المعري، وسأله: أأنت القائل:
إني وإن كنت الأخير زمانه    
لآت بما لم تستطعه الأوائل؟
قال أبوالعلاء: أجل. فتحداه الصبي بقوله: إن العرب جاءت بثمانية وعشرين حرفاً فأتِ بواحد، فضحك أبو العلاء في وجه الصبي.
   هذه القصة تلخص لنا العناية الكبرى التي يوليها العرب للحرف ولصورته والإعجاز الذي يجمعه، وهو ما حدا بهم إلى التفنن في أنواع الخط والرسم، وجعلهم في عصر التدوين يكرمون أفضل الكلام وأجمله بأفضل الخطوط وأجملها في اختيار تسديس الخط لتدوين القرآن الكريم، كما نقل أبوحيان التوحيدي عن ابن مقلة. 
   ويكتسي الحرف العربي رمزية نابعة من تقديس العرب للحروف الهجائية، إذ بواسطتها مجتمعة تتمكن من بناء خطاب مكتوب ومحرر بخط اليد أو الآلة، ومن منا لم يستهوه الخط أو الرسم الجميل بريشة كاتب فنان بموهبته؟ وأولى علماء اللغة العربية كامل اهتمامهم لرسم الحرف العربي، إذ من الحروف ما يستقيم على السطر من أعلى كالألف والفاء والقاف...، ومنها ما يبدأ من السطر فينحدر إلى أسفل كالزاي والراء...، ومنها ما يأخذ من الأعلى والأسفل نصيباً مفروضاً كالهاء والسين.
وفي المدارس التعليمية الرسمية ومدارس تحفيظ القرآن الكريم، أَوْلَى معلمو اللغة العربية ومدرسوها اهتماماً فائقاً بكيفية رسم الحروف الهجائية العربية، وكانت أُولى المهارات التي يتعلمها الأبناء وطلاب العلم الخط، ومن منا لم يذكر الخطوات الأولى لتعلمه الكتابة باللغة العربية، بدءاً برسم الحرف ثم الكلمة وانتهاء بالجملة كمستوى أرقى؟ وكذا الجهد الجهيد الذي بذله المعلم من أجله ليصل إلى استبطان صورة كل حرف على حدة، تمييزاً بين مقاماتها، وتمييزاً بين المنقط وغير المنقط منها، وموطن النقط من الحرف، ثم إن هذا الحرص من المعلمين منح اللغة العربية مكانة بين لغات العالم، لكونها حافظت على أصلها وأصالتها، واستمراريتها، فبدأ الطلاب يتنافسون آنئذٍ في ما بينهم على الكتابة بخط جميل والاقتداء بخط المعلمين والمدرسين الذين كانوا بدورهم شديدي الحرص على صورة الحرف في التحرير الكتابي، وكانوا يستعملون عبارات لتقدير وتقييم أعمال طلابهم وتلامذتهم من قبيل «حَسِّن خَطَّك»، تنبيهاً للطالب على ضرورة احترام صورة الحرف العربي وإعطائه حقه في الصعود أو الانحدار أو الامتثال للسطر أفقياً.
أما الآن فقد غزت الآلة كل مجالات الحياة وجوانبها، فظهرت الآلات الكاتبة  أو الراقنة، ثم الحواسيب والهواتف الذكية والسبورات التفاعلية، وبدأ الاهتمام بخط اليد يتهاوى، وبدأت العناية بالخط في المدارس تضمحل لدرجة أن الطفل يبدأ تعلم الحروف وأبجديات القراءة والكتابة على اللوحات الذكية التي تمكنه من الكتابة عليها وإعادة استعمالها لفترات من دون الحاجة إلى استبدال أخرى بها كالكراسات والدفاتر والكتب الورقية، وحتى المعلمون لم يعد لديهم اهتمام بتدريس الخط والإملاء لطلابهم، إذ أصبحت الآلة هي المعلم الأول والأخير للقراءة والكتابة، بل إن السواد الأعظم من المعلمين أنفسهم أصبحوا غير فنيين في رسم صورة الحرف العربي، أو بالأحرى الحفاظ على صورته دون فنية، فأصبح منهم من يكتب حرف الظاء بنقطة على يسار الرقبة، ويكتب السين والشين بأربعة أسنان أو سنين وغير ذلك من التجاوزات التي استباحوها على الحروف.
إن أخشى ما أخشى على اللغة العربية أن تُوأَدَ على أيدي أبنائها وما تخطه، بسبب تبخيس صورة حروفها وتحريفها حتى يختفي رَسْمها (ما بلي من الديار والتراث)، وإن كانت المعرفة اليقينية أن تستمر اللغة العربية باستمرار القرآن الكريم إلى الأبد ما دامت السماوات والأرض.