زها حديد وأنا... كل تصميم عظيم يبدأ بتحطيم القيود

زها حديد وأنا... كل تصميم عظيم يبدأ بتحطيم القيود

يؤسفني‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬هذه‭ ‬السطور‭ ‬بعد‭ ‬رحيلك،‭ ‬لمجلة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2016،‭ ‬وهي‭ ‬خواطر‭  ‬لطالما‭ ‬راودتني‭ ‬ورغبتُ‭ ‬في‭ ‬إرسالها‭ ‬لك‭ ‬شخصياً‭ ‬بالبريد‭ ‬إلى‭ ‬عنوان‭ ‬شقتك‭ ‬في‭ ‬لندن‭, ‬ولكن‭ ‬رغبتي‭ ‬في‭ ‬مراسلتك‭ ‬لم‭ ‬تتحقق،‭ ‬ليس‭ ‬لغياب‭ ‬الجرأة‭, ‬بل‭ ‬لأنني‭ ‬كلما‭ ‬دخلت‭ ‬إلى‭ ‬اجوجلب‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬عنوان‭ ‬شقتك‭ ‬وكتبت‭ ‬Zaha Hadid Appartment‭ ‬فوجئت‭ ‬بمئات‭ ‬الروابط‭ ‬لمئات‭ ‬الشقق‭ ‬والمباني‭ ‬التي‭ ‬ستبقى‭ ‬عناوين‭ ‬يحلق‭ ‬حولها‭ ‬كل‭ ‬المعماريين‭ ‬الباحثين‭ ‬عن‭ ‬الإلهام‭, ‬وكنتُ‭ ‬كلما‭ ‬فعلت‭ ‬ذلك‭ ‬تورطتُ‭ ‬وأبحرتُ‭ ‬ساعات‭ ‬طوالاً‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المحيط‭ ‬المبدع‭ ‬من‭ ‬الأعمال،‭ ‬ناسياً‭ ‬السبب‭ ‬الذي‭ ‬دفعني‭ ‬أساساً‭ ‬لتصفح‭ ‬الإنترنت،‭ ‬وهو‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬عنوانك‭!‬

أكثر ما يحزن في نبأ الوفاة المفاجئ هو أننا انتهينا كمعماريين من مرحلة انتظار جديد زها حديد, وانتهينا من مرحلة ترقب المدهش القادم، وانتهينا من مرحلة الفنانين المجتمعين في مقهى للنخبة للتفلسف وتحليل هذا الإبداع المثير للجدل.

 

البحث‭ ‬عن‭ ‬هوية‭ ‬

رحلتي مع زها بدأت في عام 2001 عندما كنت في أحد معارض الكتب - قسم العمارة - ووقع نظري على كتاب جميل للمصورة هيلين بينيت HОlПne Binet عنوانه «عمارة زها حديد في صور». كان نجمها آخذاً في الصعود، ومن حين إلى آخر كانت أعمالها تصادفني في بعض مجلات العمارة المتخصصة على مدى السنوات الخمس التي سبقت ذلك التاريخ، وتحثني على التأمل, وكنت حينذاك مهندساً شاباً مولعاً بكل ما هو مدهش, ومتحيزاً بشكل سافر للمعماري الأمريكي الشهير ريتشارد ماير Richard Meier وشغوفاً بمنجزات الياباني العالمي تاداو أندو Tadao Ando وكل من اتبع مدرسة المعماري الألماني العظيم لودفيغ ميس فان دير روه Ludwig Mies van der Rohe، التي تتميز بالمعاصرة الرصينة والخطوط الأنيقة والنسب المثالية, وكنت أرى في زها وأمثالها أنهم عابثون ومجربون ومحطمون للقواعد. أعتقد أن «زها» حينذاك كانت مسكونة بهاجس التجريب, ولكن مما لا شك فيه، ورغم الأعمال القليلة المنفذة لها في ذلك الوقت، فقد بدا واضحاً أنها تملك موهبة خارقة مثيرة للاهتمام، وكنت أشعر أن تجربتها المعمارية تستلهم من تجربة فرانك غيري Frank Gehry صانع الإبداع البشع، كما قال عنه كاتب خبيث، وتتقاطع أساليبها مع أفكار مجموعة «كوب هيملبلاو» Coop Himmelblau في فيينا التي صممت البنك المركزي الأوربي، وتتماهى مع مناخات وعوالم مورفوسيس Morphosis Architects وغيرهم من نجوم تلك المرحلة من المعماريين الذين عاصروها ونافسوها، وأفضى هذا الاستلهام والتقاطع والتماهي مع الموجة إلى تغيير واتساع نظرة «زها» إلى الفضاء المعماري، فكنا نرى تبديلاً في أسلوبها بشكل كلي بين مشروع وآخر، لذلك لم أكن أدرك في ذلك الحين هويتها المتجددة والمتغيرة باستمرار, وتأثرنا كلنا بهؤلاء النجوم في ذلك الوقت, وأذكر أنني كنت أصمم حينها مشروعاً في مدينة أورلاندو في فلوريدا، وكما الجميع لم أستطع الهروب من سطوة إبداع ذلك الرعيل من العباقرة، ومازلت أراهم جميعاً في هذا العمل، ولم تكن «زها» قد تمكنت مني في ذلك الوقت. مما لا شك فيه أن «زها» أدركت منذ ذلك الحين ما الفرق بين المبنى والعمارة, ومن حظنا جميعاً أنها لم تقدم التنازلات التي نقدمها كلنا كمعماريين لكسب رضا الزبائن، ولعل هذا ما جعلها تصمم عشرات المشاريع على الورق فقط منذ تخرجها في نهاية السبعينيات حتى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، واقتصر عملها المنفذ على مشروع واحد فقط هو عبارة عن مبنى سكني صغير في برلين، لكنه يُفصح عن طموحٍ سجينٍ في قفص. 

في عام 1990 فجرت زها حديد قنبلة إبداعية بعد نشرها في إحدى المجلات تصميماً داخلياً لمطعم Monsoon في مدينة سابورو اليابانية, وعلى رغم صغر المشروع فإنه كان تحفة فريدة في العمارة الداخلية إلى يومنا هذا, وكان هذا متزامناً مع مشروع متحف فيترا لتصميم الأثاث للمهندس فرانك غيري الذي كان نجم العمارة الساطع في ذلك الحين, ولا أنكر تأثير هذين المشروعين في نمط التفكير التقليدي لكل طلاب الفن والعمارة، وكنت وقتها في سنتي الجامعية الأولى، ورأيتُ الجميع منكبين وراء مراسمهم يحاولون تحطيم النمط التقليدي لمفهوم الإنشاء الهندسي القائم على مكعب له نوافذ، واللحاق بهؤلاء السَحَرَة الذين وضعوا منظوراً جديداً لمفهوم التعامل مع العمارة.

ومن المثير للعجب أنه بعد ثلاث سنوات خطر على بال شركة فيترا Vitra، وهي بمنزلة الزبون والشريك للمعماري فرانك غيري الذي كان قد صمم ثلاثة مبان داخل حرم المجمع الصناعي للشركة، بما فيها المتحف الشهير المذكور أعلاه, أن تنشئ مبنى صغيراً داخل المجمع لإطفاء الحريق، وأقدمت على دعوة زها حديد لتصميم هذا المبنى على بعد أمتار من متحف فرانك غيري، وإذا بالمنافسة تستعر بينهما من جديد، ولم تكتفِ الشركة بذلك، بل صبّت على نار المنافسة زيتاً عندما دعت في العام والوقت نفسه المعماري الرائع الياباني تاداو أندو ليصمم مشروعه الأول خارج اليابان وهو مبنى قاعة المؤتمرات على بعد أمتار من مبنى «زها», ومن الجدير بالذكر أن المصنع الرئيس في هذا المجمع الضخم كان من تصميم نيكولاس غريمشو Nicholas Grimshaw أحد رواد العمارة المعاصرة, ومما لا شك فيه، أن وجود زها حديد مع كل هؤلاء في مجمع شركة فيترا كان اعترافاً صريحاً بأنها تحلق في فلك واحد مع العمالقة الكبار. أعود بكم إلى مكتبي في بداية عام 2014، عندما كنا نعمل على تصميم مبنى مكاتب في مدينة لوسيل، وكنت أحاول أن أجد حلولاً تقنية لواجهة المبنى المعقدة والمصممة وفقاً لمدرسة العمارة المعيارية parametric Architecture التي تعتبر زها حديد أحد روادها، وكان لابد لنا أن نجد معادلات وخوارزميات يتغير فيها سلوك مغلف الواجهات وفق شكل الكتلة النحتية Geometry للمبنى، ولتبسيط هذا الكلام التقني وتقريبه للفهم، يكفي أن تلقوا نظرة على المعادلات المنطقية لسلوك واجهات المبنى، ثم الرسم النهائي لهذه الواجهات بعد أن ولدها الكمبيوتر من فهمه لتلك المعادلات.

 

الشكل‭ ‬يتبع‭ ‬الوظيفة

 ليست التقنية هي ما قصدته وأردت الإضاءة عليه في هذا المثال، إنما قصدت أن تفكيرنا وسلوكنا كمعماريين قد تغير, وهذا تماماً ما تعلمناه من زها حديد خريجة الرياضيات التي تدرس واجهاتها وكتل مبانيها وفق معادلات وخوارزميات مولدة للجمال, مبتعدة عن النمط التقليدي للعمارة ذات مخططات أقلام التحبير المنتجة لمبنى ذي أرض وسقف وجدران ونوافذ، وصار بإمكاننا التفكير بأسلوب النحاتين المتحررين من قيود الإنشاء التقليدي, وهذا يحطم الدرس الأكاديمي الأول الذي كنت أعلمه لطلابي في الجامعة عبر قاعدة «الشكل يتبع الوظيفة» Forms follow function، وأصبحت صيحة العمارة اليوم تطويع الوظيفة لمتطلبات الشكل، وهذا ما أدهشني دائماً في عمارة زها، وأصبحنا على دراية كاملة بأن العلاقة البصرية بين العامة والعمارة هي قيمة عليا لا تنازل عنها في سبيل الوظيفة، وأن بمقدور العمارة والأماكن أن تغدو محركاً من محركات السعادة في المجتمع إذا اخترقت حدود الجمال والدهشة، إن هذا المستوى من التفكير المعماري يتطلب استخدام أدوات مختلفة تتجاوز قلم الحبر والورقة البيضاء, وهذه المسألة تحتاج إلى مخيلة وإلى برامج حاسوب متطورة وإلى مختبر للمواد، والأهم إلى فريق عمل مميز، وهذا ما استثمرت زها حديد فيه كثيراً, إذ قالت لي يوماً إحدى اللواتي عملن معها في مكتبها بلندن: لم نكن نراها في المكتب كثيراً، فهي غالباً محلقة بين المؤتمرات والجامعات والمحاضرات ومقابلة للزبائن والإدارة, لكنها خلفت وراءها في المكتب فريقاً مذهلاً جمعته من كل بلاد العالم, يفهم أسلوبها وخطوطها، ويكاد يعرف ويحفظ تلافيف دماغها, وهي في السنوات الأخيرة تفعل كما يفعل كل نجوم العمارة، إذ إنها تأتي من حين إلى حين، لتضع لمساتها على المبنى الذي صممناه باسمها قبل أن يخرج ليذهل العالم.

 

بيئة‭ ‬النبوغ‭ ‬والحضور‭ ‬الإنساني

بعد عام 2002 دخلت زها حديد عالم النجومية فكانت كلما زارت جامعة أو مؤتمراً يصطف طلاب العمارة والمعماريون الشباب للحصول على توقيعها، أو أخذ صورة تذكارية معها، وعلى الرغم من أنها قدمت أعمالاً رائعة، فإن هذه الأعمال لم تتسم بوحدة النسق على صعيد المواد والخطوط والكتل, ويدرك المتتبعون لأعمالها أنها كانت تنضج كلما تعمقت تجربتها، وأن الأسرار الخفيّة لسحر العمارة انكشفت أمام بصيرتها منذ عام 2006، وبدا للجميع أنها باتت مسيطرة تماماً ومتأكدة من أسلوبها في تصاميمها الأخيرة، ولا يخطئ أي منا ولا يتردد اليوم في القول إن هذا المبنى من تصميم «زها» حتى لو كان يراه للمرة الأولى, وأصبحت خطوطها معروفة وباتت من رواد العمارة العضوية Organic Architecture، ولا أقصد بالمصطلح ما ذكره فرانك لويد رايت Frank Lloyd Wright عن العمارة العضوية وعلاقة الإنسان بالطبيعة, إنما أقصد العمارة ذات الشكل العضوي Organic shapes, وقفزت زها بأسلوبها الخاص وبوثبة عالية تجاوزت صروح العمارة، لتصبح علامة فارقة في عالم التصميم والموضة وتصميم الأزياء والأحذية والمجوهرات والمفروشات وحتى اليخوت, ما جعلها تتربع من دون أدنى شك على عرش العمارة المعاصرة ليأتي الجميع من بعدها.

وأعتقد أنها تفوقت في أعمالها وشهرتها على أستاذها المعماري الهولندي الشهير ريم كولهاس Rem Koolhaas الذي كنت دائماً أرى شيئاً من خطوطه في مشاريعها الأولى, وكيف لا وهي التي عملت في مكتبه عند تخرجها، ولا شك في أنه ترك بصمته في إبداعاتها. 

اللافت في الأمر أني كنت أرى في زها حديد شخصاً عابراً للهويات وأنموذجاً للإنسان العالمي المتحرر من الحدود والقيود, وربما كان هذا مصدر ثرائها الفني. ويصفها المقربون منها والذين عملوا معها بالمرأة الحديدية، وهو وصف ظالم، لأنني أراها امرأة من ذهب. كانت تتحاشى التحدث باللغة العربية رغم اعتزازها بأصلها العربي, لأنها كانت تخجل من لهجتها, على رغم قوة شخصيتها، فقد كانت لها لهجة عربية خاصة وفريدة لا تشبه العراقية ولا السورية ولا اللبنانية, ويعزى السبب إلى السِمة الأرستقراطية لعائلتها, إذ يعلم الجميع أن والدها كان من أعلام السياسة ورجال الحركة الوطنية في العراق، وشغل منصب وزير التموين والمالية لسنوات، وكما كل العائلات الأرستقراطية, كانت العائلة تتردد بشكل دائم إلى مصايف لبنان، وكانت أحياناً ترسل أبناءها لتلقي الدورات الدراسية هناك، لذلك قضت زها جزءاً كبيراً من طفولتها بين العراق ولبنان ومدارس سويسرا إلى أن انتقلت إلى الجامعة الأمريكية في لبنان لدراسة الرياضيات، قبل أن ترحل إلى بريطانيا لتدرس العمارة هناك وتحمل جنسية ذلك البلد. وبعد كل هذا التاريخ الحافل من الترحال والمؤثرات الواسعة الطيف, أعتقد أنها لم تعد تكترث بهويتها المحلية، ولعلها كانت ترى هويتها الحقيقية من خلال إنجازاتها فحسب، وما لغتها وأصولها العرقية أو القومية وجوازات سفرها سوى هوامش زائلة، لأن وطن زها حديد الحقيقي والوحيد هو العمارة وهذيان الحديد وصمت الإسمنت وثرثرة الزجاج وأبجدية الخط الهندسي الممتد كحبلٍ سُرّي يرسم خط السماء للمدن بين الأفق والأرض. 

لطالما كانت زها موضع حسد الجميع، وأنا أولهم، وكنت أقول دائماً إذا كانت زها كاتبة ونجمة على مسرح أعمالها فأين مخرج العمل ومنتجه؟ لماذا تحصد هي كل هذا التقدير ولا يهتم أحد بهؤلاء! أنا أحسدها على مهندسها الإنشائي الذي استطاع تكييف متطلباتها المستحيلة لمقتضيات التنفيذ العملي، هي التي لا تقبل التنازل عن أصغر تفصيل في سبيل تيسير مهمته، وعلى سبيل الدقة، يُروى أنها في إحدى رحلاتها طلبت مرة من مضيفها تغيير الفندق الذي يستضيفها فيه لإلقاء محاضرة، لأن لون طلاء الغرفة التي ستمكث بها ليوم واحد لم يعجبها! وأحسدها على زبونها المستعد لإنفاق عشرات أضعاف التكلفة الطبيعية للبناء فقط لتحقيق أحلامها.  لذلك، في السنوات الأخيرة، كان أغلب زبائنها من الحكومات وبلديات المدن التي تستطيع تحمل النفقات الباهظة لأحلامها, لعلمهم أن عمارتها قادرة على وضع مدينة على الخريطة العالمية. فهؤلاء يعرفون حق المعرفة أن تاريخ المدينة قبل أن تضع فيها زها بصمتها يختلف تماماً عن مستقبلها بعد إنشاء المبنى, ويعلم هؤلاء أن المدينة ستكسب صرحاً يستحق عناء سفر السياح والمقبلين لزيارة عمل زها الجديد, كما حدث في مدينة باكو في أذربيجان، عندما قررت الحكومة دعوة زها لتصميم مركز حيدر علييف الثقافي الذي غير وجه العاصمة, فهو صرح غاية في الجمال والإبهار, وأعتقد أنه احترق أخيراً من شدة حسدي لمستوى الإبداع الذي وصلت إليه عمارة زها حديد!

أخيراً، كنت أعمل على تصميم مبنى البريد الجديد في مدينة الدوحة, وبعد أن انتهيت من تصميمي نظرت إليه بتجرد لأكتشف أن هذه المرأة احتلتني تماماً، وأنها كانت معلمتي دائماً من دون أن أدري, لست وحدي, فهذه المرأة شاركت في صوغ فكر وذوق جيل كامل من المعماريين, ولا أبالغ في القول بأنها تشكل منعطفاً في تاريخ العمارة، وما قبلها لا يشبه ما بعدها, ونبأ وفاتها لا يغير حقيقة أنها ستبقى حية وخالدة من خلال أعمالها التي تزين عواصم العالم، فهي ستبقى كما بقي لوكوربوزييه وسنان ومايكل أنجلو, وبحق: هي أيقونة العمارة الحديثة التي قدمت للعالم قصة طموح غير قابلة للنسيان .