في بيتنا مكتبة!

في بيتنا مكتبة!

يكاد‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بــاركن‭ ‬المكتبة‭ ‬المنزليةب‭ ‬يختفي‭ ‬من‭ ‬البيوت‭ ‬القديمة‭ ‬والجديدة‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬بعد‭ ‬عزّ‭ ‬طارف‭ ‬وتليد‭ ‬كما‭ ‬يقولون‭. ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬لهذه‭ ‬المكتبة‭ ‬أهمية‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الأسرة‭ ‬وفي‭ ‬تربية‭ ‬الأجيال‭ ‬الجديدة‭ ‬على‭ ‬الخصوص،‭ ‬حيث‭ ‬يعود‭ ‬إليها‭ ‬أفراد‭ ‬الأسرة‭ ‬في‭ ‬ساعات‭ ‬معينة‭ ‬من‭ ‬الليل‭ ‬والنهار،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬يجدون‭ ‬فرصة‭ ‬للتمتع‭ ‬بالمباهج‭ ‬التي‭ ‬يقدمها‭ ‬خير‭ ‬جليس‭ ‬في‭ ‬الأنام،‭ ‬لمن‭ ‬يتصفّحه‭.‬

بلغ نفوذ هذه المكتبة المنزلية أوجَّه في النصف الأول من القرن العشرين على الخصوص، أي قبل اختراع التلفزيون والكمبيوتر وما إليهما من وسائل الاتصال الحديثة. كان الكتاب هو تلفزيون تلك الأيام وكمبيوترها، كما كان الوسيلة المفضلة، أو الأساسية، للاتصال بالعالم الحديث. وكان في الواقع خير مُرشد وموجّه لمن يقرأه، وبخاصة للطالب. فقد كان يؤمّن له من الثقافة ما لا يؤمّنه الكتاب المدرسي أحياناً، لأن هذا الأخير تقتصر وظيفته عادة على المعلومات العامة، ولا يتطرق إلى ما يسمّى بـ«المطالعة».

فالمطالعة كان الطالب يعثر عليها في كتب ثقافية عامة، من كل جنس ولون، كان ربّ الأسرة يجلبها معه إلى البيت من مكتبة عامة يتردّد عليها بعد انتهائه من عمله، وينتقي منها ما يجده ممتعاً ومفيداً له ولأسرته.

ولكن نفوذ هذه المكتبة في حياة الأسرة انحسر، أو حتى زال، في مراحل لاحقة، ليحلّ محله نفوذ الفضائيات ووسائل الاتصال الحديثة من كمبيوتر وإنترنت وما إليهما. ولم يقتصر الأمر على النفوذ وحده، فقد وصل الانهيار إلى ركن المكتبة المنزلية نفسه، إذ ألغي لعدم الحاجة إليه، أو للحاجة إلى ملئه بغير الكتب، بالكمبيوتر أو بالتلفزيون أو بسواهما. ومن الطبيعي أن تُرمى الكتب التي كانت تملأه في سلة المهملات، وأن تذرو الريح صفحاتها بعد ذلك.

ولم يعوّض عن هذه الخسارة الأليمة لضياع المكتبة المنزلية وجود مكتبة أخرى في المنازل، وبخاصة منازل الأثرياء، يضعون فيها ما يمكن تسميته بـ«كتب الزينة»، وهي كتب مجلّدة تجليداً فاخراً، ومذهّباً أحياناً، وفيها عدد وافر من الكتب التراثية القديمة. ولكنها كتب لا يعود إليها أحد مع الوقت، ولفرط إهمالها وعدم قراءتها من أحد، يعلوها الغبار، وتتشلّع قمصانها، وتُرمى أو يستبدل بها سواها. ولعل اسمها ذاته، أي كتب الزينة، هو سبب وجودها في المنازل التي تقتنيها. لقد وجد مهندس الديكور أن وجودها يضفي حرارة على الموبيليا، كما فرح صاحب المنزل بها كي يوحي لزائره أنه مثقف، واستناداً إلى ذلك، فإن كتب الزينة هذه لا تمتّ بصلة إلى «المكتبة المنزلية»، فهذه المكتبة كانت زمن عزّها ذات حول وطول في بناء الأسرة، بل في بناء الوطن. سرقت الفضائيات البريق الذي كان لهذه المكتبة، والفائدة التي كانت مرادفة لها، ولم تقدم بديلاً مقنعاً لها. وإذا كان الطالب هو الزبون الأساسي لهذه المكتبة، فإن هذا الطالب لم تعوّضه الفضائيات التي حلّت محلّها، تعويضاً يعتدّ به. فالفضائيات ليست كتباً، ولا تقدم لروّادها كتباً، بل برامج يقصد بها المتعة أو تزجية الوقت أو التسلية، ونادراً ما خرج هذا الطالب، وحتى سواه، من برنامج تلفزيوني، معتبراً أن حقه قد وصله، وأن غياب المكتبة المنزلية بالتالي كان في محله. فالكتاب، بالمتع والمباهج التي يهبها لقارئه، وبإمكان العودة إليه مراراً بعد قراءته الأولى، لا يمكن اعتبار التلفزيون بديلاً مقنعاً له. ولذلك تظل الحاجة إلى ركن المكتبة المنزلية قائمة وجوهرية، سواء كان في المنزل تلفزيون واحد أو عشرة.

هل يمكن القول إن التلفزيون كان سبباً من أسباب انهيار التعليم في مجتمعاتنا نظراً لعامل الثقافة الاستهلاكية التي هي من لزومياته، وإن انهيار المكتبة المنزلية أجهز على ما تبقى من الرصانة والجديّة والتعمّق والتأمّل لدى النشء الجديد؟

كانت المكتبة المنزلية عنصراً مساعداً في تكوين الرجال، لأنها كانت مدرسة إضافية مساعدة للمدرسة العامة خارج البيت. بل كانت وحدها، أي بمعزل عن المدرسة، تخرّج رجالاً وأدباء وشعراء. عباس محمود العقاد، الأديب المصري الكبير، تعلّم القراءة والكتابة والأدب، وصار هذا الأديب الكبير لا لأنه تخرّج في جامعة، بل في مكتبة خاصة. فالمكتبة المنزلية مدرسة ومصنع آخر للتربية والوطنية والثقافة.

وإن أنسى فلا أنسى يوماً كنت فيه ضيفاً على ديوانية وزير الدولة الكويتي الراحل عبدالعزيز حسين (رحمه الله)، فقد جعل عبدالعزيز حسين وهو مثقف كبير، يحدّثنا عن صباه ونشأته. قال لنا إنه لو سُئل عمّا صنع منه مثقفاً وأوقد في نفسه جذوة المعرفة والعلم، لأجاب: إنها المكتبة المنزلية التي وجدها في متناول يديه عندما بدأ يذهب إلى المدرسة ليتعلم. فقد كانت هذه المكتبة بالنسبة إليه هي مدرسته الحقيقية. وإلى اليوم مازال صوته (رحمه الله) يرنّ في أذنيّ قائلاً ومردّداً مرات عدة: «كان في بيتنا مكتبة!». المكتبة المنزلية العربية تلفظ أنفاسها في زماننا الراهن، مع الأسف، وتكاد تلحق بها المدرسة أيضاً! .