الكاذبون وأنوفهم الطويلة.. الخديعة والحيلة في التواصل الإنساني

الكاذبون وأنوفهم الطويلة.. الخديعة والحيلة في التواصل الإنساني

الأرجح‭ ‬أنه‭ ‬ليست‭ ‬هناك‭ ‬شخصية‭ ‬صهرت‭ ‬مفهوم‭ ‬الكذب‭ ‬في‭ ‬مزيج‭ ‬من‭ ‬الواقعية‭ ‬الفعلية‭ ‬والخيال‭ ‬الطلق‭ ‬مثل‭ ‬شخصية‭ ‬ابينوكيوب‭  ‬التي‭ ‬أبدعها‭ ‬الإيطالي‭ ‬كارلو‭ ‬كولودي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬امغامرات‭ ‬بينوكيوب‭ ‬الصادر‭ ‬عام‭ ‬1883‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬مجتمع‭ ‬يرسم‭ ‬وفقاً‭ ‬لثقافته‭ ‬وقيمه‭ ‬الخطوط‭ ‬الفاصلة‭ ‬بين‭ ‬الحقيقة‭ ‬والكذب،‭ ‬فإن‭ ‬أعمال‭ ‬المخيلة‭ ‬في‭ ‬سلوك‭ ‬بينوكيو‭  ‬وتصرفاته‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الذي‭ ‬أعيد‭ ‬فيه‭ ‬تركيب‭ ‬الواقع‭ ‬والخيال‭ ‬ليكونا‭ ‬قبالة‭ ‬الحقيقة‭ ‬والكذب،‭ ‬هما‭ ‬ما‭ ‬صنع‭ ‬الفارق‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الشخصية‭ ‬الطفولية،‭ ‬فقدمت‭ ‬نموذجاً‭ ‬لصراع‭ ‬المشاعر‭ ‬الإنسانية‭ ‬الذي‭ ‬تضرب‭ ‬جذوره‭ ‬عميقاً‭ ‬في‭ ‬مجاهل‭ ‬النفس‭ ‬البشرية‭. ‬كان‭ ‬أنف‭ ‬ابينوكيوب،‭ ‬مراراً‭ ‬وتكراراً،‭ ‬يستطيل‭ ‬حين‭ ‬يكذب‭ ‬ويعود‭ ‬لحجمه‭ ‬الطبيعي‭ ‬بقوله‭ ‬الحقيقة،‭ ‬وبمساندة‭ ‬صديقه‭ ‬جيبتو‭ ‬ودعمه،‭ ‬بدأ‭ ‬ابينوكيوب،‭ ‬بتوق‭ ‬جامح،‭ ‬استكشاف‭ ‬الكذب‭ ‬والحقيقة‭ ‬واختبارهما،‭ ‬وغدت‭ ‬علاقاته‭ ‬بالآخرين‭ ‬ميداناً‭ ‬يخوض‭ ‬فيه‭ ‬مغامراته‭ ‬الجسورة‭.‬

كانت تلك ابتداءً مرحلة شاقة تحول بينوكيو في مسافاتها المتقلبة من لعبة خشبية عارية من المشاعر والعاطفة إلى كائن حقيقي تهفو جوارحه إلى الحق، فتنمو إنسانيته معه، ويغمره الحزن والخزي حين يكذب فيدنو من عالم الجماد. ولعل أبرز أسباب جاذبية حكاية بينوكيو عرضها، وبشكل متقن، الكيفية التي يكون فيها الكذب والزيف انسحاباً من الحالة الإنسانية وشرطها. فالكذب في مفاعيله لا يختزل في كونه سلوكاً معادياً للمجتمع فقط. إذ تذهب نظرية النشوء الاجتماعي – التي لها إسهامات بارزة في ميدان السلوك الإنساني – إلى أن الخداع بوصفه النواة الصلبة للكذب له تاريخ سحيق، فهو موجود في كل الأشكال وعلى جميع المستويات وعلى امتداد الكائنات الحية. وتضرب هذه النظرية مثلاً بالفيروسات بوصفها كائنات عضوية غاية في البساطة، لكنها تمتلك طرائق جوهرية في خداع الجهاز المناعي الذي تستوطن فيه.  والكذب والخداع يعدان جزءاً لا يتجزأ من السلوك والنفس الإنسانية، وهما أحد المعايير التشخيصية لبعض الاضطرابات النفسية، إذ يدرج «الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية» السفر المقدس لأطباء النفس والمعالجين النفسيين، التلاعب الذي هو صنو للكذب، بوصفه اضطراباً للشخصية وعداء للمجتمع يلجأ المريض فيه إلى الاستخدام المتكرر للحيلة للتأثير أو السيطرة على الآخرين. والأفراد الذين يتم تشخيصهم بهذا المرض هم الأكثر ممارسة لرذائل مثل خيانة الأمانة والاحتيال والادعاء الكاذب.

 

انطباع‭ ‬مضلل

ويسعى الكاذبون إلى محاولة خلق انطباع زائف  ومضلل، ويرمون إلى تأكيد أمر يعلمون أنه غير صادق، كما أن الكاذب المتمرس قد يلجأ أحياناً إلى قول جزء من الحقيقة وليس أكملها، كي يدفع الآخرين إلى نتيجة مضللة، أو يحجم أحياناً أخرى عن قول الحقيقة وهو يعلمها، فتلك أساليب تستهدف القضاء على الصدق وكشف الحقيقة.

والمرء حين يكتسب عادة الكذب،  فإنها تصبح جزءاً ثابتاً من شخصيته وتكوينه. ويشير الطب النفسي إلى هذه الشخصية على أنها مصابة بالكذب القهري، والمبتلى بهذا المرض يشكو في أعماق نفسه من تدني احترام الذات، ومشاعر الدونية ونقص الثقة بالنفس، والكذب القهري يجر وراءه تاريخاً بعمر صاحبه، فهو ينمو في سنوات الطفولة المبكرة حينما يبذل الطفل الجهد كي يبدو أكثر تميزاً من أقرانه أو ينتزع إعجاب بيئته أو يصنع نوعاً من التأثير الاجتماعي. وكما في حال بينوكيو، فإن مفاتيح الكذب تكون في الطفولة، ذلك أن الأطفال غير الراضين عن أنفسهم أو بيئتهم المنزلية قد يبدأون الكذب للتعويض عن الشعور بالنقص.

والكاذب يصنع دنياه الخاصة بحيث تتبدى نظرته الوهمية وكأنها واقعية لدرجة أن الأحداث يمكن سردها باستمرار بطرق مختلفة، ويتم تغيير التاريخ الشخصي وإعادة كتابته مراراً وتكراراً. وفي سياق كهذا، تأخذ الأكذوبة شكل حياة خاصة بصاحبها، حيث إن الحقيقة والواقع لم يعودا قادرين على الدخول في وعي الجاني أو الشعور بالذات على الإطلاق.

 وقد يساجل البعض، وهو ليس مجافياً للصواب، بأن الكذب والخديعة قد أصبحا وسيلة للتواصل الاجتماعي وأداة لتيسير التفاعل الاجتماعي.  ومع ذلك ثمة بيئات تعمد أساساتها بالقيم الإنسانية كالمؤسسات العلمية والفكرية حينما يجد الكذب والزيف طريقهما إليها، وتكون تربة خصبة لازدهارهما، فإنهما يتحولان إلى فيروس شرس يهتك النسيج الإنساني ويذيب القيم كما يذيب «الأسيد» اللحم الحي.

 

الكذب‭ ‬الثقافي‭ ‬والعلمي

ويتساءل المرء: ما الذي يدفع الكاذبين والمزورين إلى تدنيس مؤسسات طاهرة غاياتها الارتقاء بقيم الإنسان وصقل ضميره، فيتهافتون عليها ويطرقون أبوابها بصورة دائمة، وتهطل عليها شهاداتهم وبحوثهم وكتبهم العلمية المزورة كأمطار المدارات الاستوائية، فلا تكسب من وراء ذلك إلا تحول منتسبيها إلى العينة الأشد إهانة للثقافة والفكر بإطلاقيتهما؟ ربما ينتصب أولا، وعلى السطح، سبب رئيس لذلك، وهو الربح المادي والكسب السريع، ولكن قطعاً هناك عوامل ما انفكت تضرب عميقاً في هذه الشخصيات بحيث تحولت ممارسة كهذه إلى ظاهرة ساحقة.

الكاذبون والمزورون في الحقل العلمي أعمتهم جملة أسباب سنأتي على ذكرها، فوسعت انفصالهم عما يفترض أنه مكون أخلاقي يقع في قلب التنوير. في مطلع تلك الأسباب يأتي الكسب المادي بكل انتهازيته، والتعري من القيم الفكرية لمصلحته، وخساسة كهذه تحشر الكاذبين والمزورين في الحقل العلمي والفكري في عداد مزوري الأعمال والمنتجات الاستهلاكية كالحقائب والعطور وغيرها، لأن كليهما لا يحركه سوى الكسب الرخيص والسطو على جهود الآخرين وبخاصة المتميزين منهم.

 ولكن الفائدة المالية ليست هي الدافع الوحيد للكذب والتزوير، فثمة عوامل أخرى، متفشية ومزدهرة في مجتمعاتنا، فصناعة التزوير والكذب تمنح المرء لذة شريرة تتولد من قدرته على خداع الآخرين، وشخصية المزور تنطوي في داخلها على سلوك سادي يتمتع صاحبه بالنظر إلى من خدعهم على أنهم – كما يظن – أغبياء وسطحيون لم يتمكنوا من مجاراة قدراته وإمكاناته.

إن ممارسة التزوير والكذب في الإنتاج على اختلاف أنواعه، سواء كان علمياً أو استهلاكياً، تقدم دليلاً على حالة تمرُّد ضد الأخلاق السائدة وانتهاك للقانون، وبهذا المعنى يشكل سلوك الكاذب وإنتاجه المزور تملصاً من النظام المؤسسي بقوانينه ورموزه، فعدم إبدائه الاحترام الواجب لهذا النظام هو صفعة في وجه النظام المؤسسي، وهذا مرتبط بشكل وثيق بالحالة المرضية للكاذب، فهذا السلوك يسهم في إضفاء نوع من التحرر من الشعور بالضآلة والعجز المزمنين اللذين استقرا في نفس الكاذب زمناً طويلاً. 

 من جانب آخر، فإن الكذب والتزوير يسدان نقصاً مؤقتاً في عدم النضج الشخصي، ذلك أنهما يستجيبان بشكل ملتوٍ للرغبة الجامحة بامتلاك قدرات متميزة ومذهلة، فمزورو البحوث والشهادات العلمية – على سبيل المثال -  بعجزهم عن العمل وبذل المجهود والصبر لنيل الخبرة المطلوبة لإنجاز ذلك، وهي جميعاً من متطلبات العمل الفكري وشروطه، يلجأون عوضاً عن ذلك إلى الحيلة والخديعة كي يشبعوا رغبتهم المتأججة في حصد نتائج سريعة وفورية من دون جهد أو ممارسة. فالتزوير يقدم لمن يستعين به طريقاً سريعاً خالياً من مشقات العمل ومكابداته.

إن النظرة إلى المزور في ميدان الفكر  يجب ألا تختلف عن النظرة إلى مزوري البضائع. فالمرء تجتاحه المشاعر ذاتها حينما يكتشف الكذب والحيلة، فتلسعه سياط الغضب والألم والخيانة التي يشعر بها المرء حينما يبتاع بضاعة على أنها أصلية، فيتضح له أنها مزورة، ويجب أن تكون تلك هي النظرة نفسها إلى المزورين في حقول الفكر والثقافة، فذلك شرط للمحافظة على درجة من الأصالة في الشخصية والسلوك، أما غير ذلك فهو استسلام لتفسخ شامل وأخلاقي لا نعلم عواقبه .