المشربيات... لمسة معمارية ولدت في البصرة واستوطنت الأندلس

المشربيات... لمسة معمارية  ولدت في البصرة واستوطنت الأندلس

تكتنز الذاكرة العربية بتركة كبيرة من الإرث المعماري الذي نتج عن تلاقح الحضارات على مر القرون، فقد تعاقبت وتلاقت الحضارات العربية والفارسية والعثمانية معاً لتترك لنا بصمة واضحة  في تاريخ الفنون وعلوم البناء على أراضي المسلمين من مشرقها إلى مغربها.

من تلك الحضارات التي تركت بصمتها الفريدة في فنوننا حضارة بلاد فارس التي تطل في كثير من علوم الأدب والفكر والفلسفة وغيرها. وإن كان قد تكرر اسم  حافظ الشيرازي وعمر الخيام في صفحات كتبنا التاريخية، فكذلك الجميع بمن فيهم الأطفال يعرفون تلك الشخصيات القصصية الأسطورية كـ «شاهبندر التّجار» الذي اعتدنا سماع اسمه  في حكايات الجدات وألهم كتّاب المسلسلات وألهب مخيلة الأطفال على مدى عقود طويلة.
 الشاهبندر هو مصطلح فارسي مركب من كلمتين «شاه» و«بندر» وتعني زعيم السوق, ومفهوم المُصطلح القصصي بالفارسية هو «كبير التجار».
تتالت القصص الفارسية التي تصف السلاطين وكبار القوم وأماكن جلوسهم، فكانت كلمة «شاه نشين» التي تصف مكان جلوس الشاه  في شرفة تطل على الشارع، والتي أصبحت مع مرور الزمان عنصراً معمارياً يدعى شناشيل. والشناشيل عبارة عن شرفات خشبية  تبرز من واجهة الدور الثاني ويكون هذا البروز من الخشب عادة, تنوعت أشكاله، فبدأ شرفة، ثم أصبحت الشرفة غرفة, ورغم اختلاف زخارفها بين المناطق فإنها حافظت على طابعها الخاص حتى مع اختلاف العصور. 
ولو أردنا أن نتقصى ميلاد هذا الفن المعماري لوجدنا أن الشناشيل بدأت وتطورت عربياً في مدينة البصرة، حتى أصبحت هوية جمالية للمدينة. ثم انتقل هذا التصميم المعماري من البصرة إلى بغداد وباقي المدن العراقية حتى أصبح رمزاً للبلاد يتغنى به الشعراء في كثير من القصائد والقصص والروايات.
 امتد بناء الشناشيل عبر التوسعات الإسلامية، إلى كثير من البلدان العربية، نظراً لما يتمتع به هذا الأسلوب من فوائد صحية وأخرى اجتماعية. تبنّى المسلمون هذا الفن المعماري وزوَّدوه بعديد من المفردات، سواء في مجال العمران ومواد البناء، أو في مجال النقوش والزخارف، فكانت أشكال نقر الخشب هي ما يميّز الشناشيل بعضها عن بعض، فقد اشتهرت في إيران وبلاد الحجاز بـ«الرواشين» ومعناها بالفارسية المكان المثقب، وعندما انتشر هذا الفن المعماري في شبه الجزيرة العربية قام العرب بتعريب كلمة روشان إلى «مشربية»، المشتقة من الفعل شرب وتعني «مكان الشرب»، فالمصريون هم أول من استخدم عنصر المشربية لتبريد المكان, ومن هنا شاع انتشار المشربية في البلدان العربية، وخاصة الحارة منها, وكان سبب تلك التسمية هو جرار الماء الصغيرة التي كانت توضع لتبريد المكان بفعل التبخر الناتج عن تحرُّك الهواء عبر فتحات الواجهة المثقبة، وبالتالي زيادة التهوية وتبريد المكان. كما لعبت المشربيات دوراً كبيراً في القيم الدينية والاجتماعية، خصوصاً في ما يتعلق بنزعة الخصوصية التي تميز المجتمعات الشرقية، إذ إن الواجهات ذات الأشكال الخشبية البارزة من الخارج كانت سبباً لحجب رؤية أهل الدار, فكانت تلك الخاصية أساس كثرة استخدام هذا العنصر المعماري في بلاد المسلمين, حتى وصل إلى الأندلس وشاع اسمه Ajimez المترجم إلى «الغيور» لكونه يحجب رؤية  نساء أهل الدار. استمر الإسبان في استخدام «الغيور» حتى بعد سقوط الأندلس، ولكن بمواد بناء جديدة كالحديد والزجاج مع تطور الأزمان. 
لقد أضافت المشربيات قيمة جماليّة للشارع القديم، فما تؤلفه من نسق معماري ذي أبعاد هندسية أضاف لهوية شوارع المسلمين, وتقابل المشربيات بعضها مع بعض من الخارج ينتج ظلالاً للمارة تقلل من أشعة الشمس القوية وحرارتها، أما من داخل الدار فهي تسمح لنور الشمس بالتسلل إلى داخل المنزل في زمن لم تكن الكهرباء فيه قد اكتُشفت. 
لقد كانت سهولة استخدام الخشب ونحته من العوامل الأساسية لانتشار هذا الفن المعماري، فقد أصبح النحاتون  يتفننون في طرق النحت والزخارف في الأزمنة القديمة. وأصبحت النقوش دليلاً على معرفة تاريخ البناء ومكانه وحقبته الزمنية. هذا العنصر المعماري بدأ انتشاره في الدولة العباسية وتوسَّع بشكل كبير حتى زمن الدولة العثمانية، حيث وصل إلى أبهى صوره ابتداءً من العراق ووصولاً إلى الشام ومصر وتونس والجزيرة العربية، حيث أضافت المشربيات بيئة داخلية مريحة رغم الظروف الخارجية الشديدة الحرارة. تعددت أنواع الزخارف باختلاف المناطق إلّا أنّها جميعاً اشتركت في طريقة  بناء متوافقة مع القيم الاجتماعية والدينية للمسلمين, فأهميتها لم تنحصر في شكلها الجمالي فحسب، بل تجاوزت ذلك إلى لعب أدوار اجتماعية وثقافية، بل ونفسية.  لوحات خلابة مليئة بحكايات الأزمنة المديدة على واجهات بيوت من الزمن القديم تركت ثراء من الفن المعماري على أراضي المسلمين، اندثر تراثها اليوم.