العربيُّ يحمل سؤاله أنَّى حلَّ
ثمّة صعوبة في عبور المكان العربي، كما كان يفعل أسلافنا العابرون الكبار، في جغرافيا واقعية مترامية الأطراف وأخرى مُتخيَّلة لا يحدّها حد، فنحن نعيش اليوم في عالم عربي استوت فيه الحدود على نحو قاطع، وسُيّجت بالأختام والأعلام والأناشيد الوطنية، فالسفر بجواز عربي في المكان العربي، هو كالسفر بين عوالم منفصلة ومتباعدة ترمق بعضها البعض شزراً، هذا إن لم يصل التنافر بينها إلى حد العداء السافر. ولعلّ هذا يفسر، جزئيّاً على الأقل، ضآلة - إن لم أقل انعدام - كتابة الرحلة عن العالم العربي بأقلام أبنائه، قبل أن ننطلق بأوجه محاطة بالريبة والشبهات، إلى العالم الأوسع.
هذا ما يكتبه أمجد ناصر في عتبة كتابه «تحت أكثر من سماء»، الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. في كتابه هذا يضم أمجد ناصر رحلته إلى كندا، التي لا يراها غــــريبــــة عن سياق الكتاب العام، إلى جانب رحلاته العديدة إلى الدول العربية، لأنه يرى أن الحضور العربي والأسئلة العربية لم تكن بعيدة عنها، فالعربي يحمل سؤاله، وهو ســـؤال قَلِق ومُــحيّر، أنى حلّ. ويقول في نهاية عتبته هذه إن هذه المقدمة ليست سوى انصياع لتقليد عام يتعامل مع المقدمة كعتبة للكتاب، ونحن نحار، على ما يبدو، في كيفية الدخول في كتاب لا مقدمة له!
الفتنة الصنعانية
يكتب أمجد ناصر عن رحلته إلى اليمن، معنوناً إياها بـ «اليمن: من آرثر رامبو إلى عبدالفتاح إسماعيل... إلى الفتنة الصنعانية»، كما يكتب عن رحلته إلى عُمان: الأساطير، الأئمة، الجبال، الأفلاج. ويكتب عن دمشق: الدار المسقية، والدم الذي سال في شق. مثلما يكتب عن رحلته إلى الدار البيضاء: مجيء الزمن المغربي. وكذلك يكتب عن زيارته إلى أرض القيقب: لهيب الأشجار، صدمة فرنسية، وبرج بابل شعري.
ويقول: «قبل نحو ثماني عشرة سنة، زرت عدن للمرة الأولى، وقبل خمس عشرة سنة كانت الأخيرة، وبين هذين الحدين أقمت شهوراً عدة، طالباً في معهد الاشتراكية العلمية، الذي فررت منه قبل أن أكمل سنتي الدراسية الأولى. في المرة الأولى جئت من بيروت في عِداد وفد فلسطيني وعربي يساري لحضور الإعلان عن حزب طليعي من طراز جديد، كانت عدن تعدنا به منذ وقت».وبعد مزيد من الحكي، يضيف ناصر أن زيارته الأولى إلى عدن كان الهدف منها هو الحزب الطليعي، وليس رامبو، الذي لم يكن يعرف شيئاً عن إقامته في عدن. وقتها كان قادماً من بيروت التي كانت تلتقط أنفاسها بين حربين كاسحتين، تحت مناخ سياسي وفكري يخلط بين القصيدة والبندقية.
في عدن، تَعيَّن على ناصر، لدى ملامسته كثافة الهواء، ووقوفه تحت الحواف البركانية المطلة على المدينة، أن يفكر بماركس وعبدالفتاح إسماعيل وجورج حبش، أكثر مما يتعيّن علـــيه أن يُفكـــــر برامـــــبو. بل، يقول ناصر: ما كان رامبو سيخطر له علــــى بال، لولا المصادفة التي ستجعله، في ما بعد، على تماس مع حفيف وأمكنة هــــذا العابر الهـــــائل بنعال من ريح. ناصر الذي فُتن بسيرة رامبو، أكثر مما فُتن بشعره يقول إن شظايا من السيرة الأسطورية لرامبو، التي نُشرت هنا وهناك في العالم العربي، دفعت شعراء شُباناً لهجر بيوتهم واجتياز الحدود إلى كومونة بيروت، أما شعره فلم يجد له متكأً مريحاً في لغتنا العربية. ويرى أن رامبو الذي كان في السادسة والعشرين حينما زار عدن، تمت استضافته بشكل سيئ في اللغة العربية، وخاصة أن الكتاب الذي ترجمه خليل الخوري ضم رُفات الشاعر أكثر مما ضم جسده الحي، ذا الانفلاتات الصاخبة.
وعن صنعاء يقول ناصر إن الكتابات العربية التي تؤرخ لقيامها تقول إن سام بن نوح طفق، بعد الطوفان، يبحث عن موضع يتعادل فيه الليل والنهار، ولا يغلب فيه البردُ الحرَّ، ولا يفسد فيه الطعام، فلم يجد أفضل من هذا الموضع، فأقامَ فيه صنعاءَ، وهي بذلك تكون أقدم مدن الأرض.
بيروت.. شهادة ميلاد
ناصر الذي يعنون رحلته إلى بيروت بـ «لستُ راعي الذكرى ولا مدبر شؤون الحنين»، يقول إن بيروت ليست هي مسقط رأسه، وليست كذلك مجرد مدينة مر بها بين مكانين. لقد منحته بيروت، في أول مرة يزورها، اسمه في شهادة ميلاده في الصحيفة، وعلى غلاف كتابه الأول، وشكلت، بيدين لم تفرقا كثيراً بين عابر ومقيم، هيئته وقوامه. ويقول إنه من غريب التدابير أن يبلغ غيابه عن بيروت الزمن نفسه الذي بلغه غيابه عن بلده الأردن: «أربعة عشر عاماً غبت فيها عن الأردن، وأربعة عشر عاماً أخرى عن بيروت، أدركتُ، في الأخيرة، مغرب الشمس وبحر الظلمات. فأي قسمة عجيبة للزمن؟ وأي عدالة لهذا الغياب الذي ساكنني حياتي؟ بل قل أي مواعيد مع الأقدار تنتظرني هناك؟».
يُقر ناصر بأن الزمن العربي سال بفداحة، وبأن الحنين يطور أمكنة لا وجود لها، ربما، إلا في أعالي سكراته. وبذا يأمر نفسه بأن يعطي الخيبة بعض ما تستحق من وجاهة، وبأن يوطد النفس على تَقبّل كفاح الأيام، ضد مطارح الألفة، وما أنجزته أيدي اللاعبين بالمصائر، ضد مواضع الحنين. ويعلن أنه ليس وحده مَن يحمل وشم بيروت، بل كثيرون غيره يحملون الوشم نفسه، وليس هو راعي الذكرى، ولا مدبر شؤون الحنين. ناصر الذي ينتمي لعائلة من تسعة أبناء، وُلِد كل منهم في منزل ومكان مختلف، يرى أنهم لا يمتلكون ذاكرة طفولية واحدة، بل تسع ذاكرات وتسع طفولات، كل واحدة منها تشخص إلى بيتها الأول الذي لم يعد موجوداً، وبيروت، أكثر من غيرها، تمتلك أسباباً كافية لمحو الخُطى والأثر. فالحروب، التي دارت عليها وفيها، تكفي لأن تقوّض أحياء برمتها، وتنهض، بالأسمنت المرتجل، أحياء جديدة منبتة الذكرى والأثر. وها هو يرى في بيروت المدينة التي تجتلب المواطن العائد، والسائح الأجنبي، ورجل الأعمال العربي العابر إلى جهة أخرى، والمقتفي خيط حنين مثله.
صهاريج الحجر!
وفي حديثه عن رحلته إلى عُمان يقول ناصر إنه لا يملك، الآن، سوى الأسف على خيلاء الفتوة، التي جعلته يمشي على الأرض مرحاً، منصرفاً عن تقري الأزمنة المتعاقبة على الصهاريج الحجرية التي قوّرتها الجن، والروح الباسلة التي تناضل في الأشجار القليلة، والصلة التي تتجاوز التطيّر بين النافذة والغراب الأسود، والصمت البليغ الذي يفرض نفسه سيداً أوحد على الظهيرات، والخلخال الفضيّ الذي يلمع في كاحل هضيم لامرأة تصعد على الهوينى إلى الحافلة العمومية، والعيون السود الكحيلة التي طورت في احتجاب الجسد معجماً خاصّاً لتراسل الأشواق وروائح البخور والعطور الشرقية الثقيلة المعششة ببعض الحوانيت الباقية من الحقبة الكولونيالية والخط البحري لشركة الهند الشرقية.
هنا يتحدث ناصر عن عدن كمدخل لعُمان، وهو مدخل، كما يقول، غريب للوهلة الأولى، إذ لم يكن هناك ما يجمع اليمن الجنوبي بعُمان إلا التنافر والخيارات المشدودة على طرفيْ نقيض. ففي الوقت الذي كانت فيه عدن تُولّي وجهها شطر الكتلة الشرقية، كانت عُمان تدير وجهها جهة الغرب. يلاحظ الكاتب نظافة مدينة مسقط الاستثنائية، لا يستغرب وجود أكثر من لافتة في شوارعها مكتوب عليها ممنوع البصق في الشوارع، غير أن مسقط الحديثة لها آفتها أيضاً، وهي آفة عربية الطابع، فكأن التحديث، في التصور العربي، هو قطع حبل السُّرة مع البيئة وخبرات الماضي، واستجلاب مواد وأنماط بناء وعيش عصرية لا تستقيم مع المحيط الطبيعي.كذلك يرى ناصر أن عُمان ظلت، حتى عهد قريب، من أكثر الأقطار العربية غموضاً ونأياً، ولعلها لاتزال كذلك في خيال البعض. عُمان التي يقول ناصر عنها: قلما يصادف المرء اسمها أو صورتها في أخبار العرب التي لا تكف عن إدهاشنا بمدى سوئها، لا يأتي غموضها من قلة الأخبار فقط، بل من الموقع الجغرافي، والتكوين المذهبي، وانكفاء البلاد على شؤونها أيضاً.
كندا
أما عن رحلته إلى سورية، فيكتب ناصر قائلاً إن سورية، على كل حال، تبدو لزائرها البلد العربي الأكثر تماسكاً، كان هذا طبعاً يوم أن زارها ناصر، في وجه العصف الكوكبي الذي تقوضت تحت زعانفه وشفراته الفولاذ منظومات سياسية واقتصادية كبرى، وبهذا المعنى، لايزال للأيديولوجيا حضور في دمشق، بل إنها العصبية الظاهرة التي تستند إليها القوة، ويقوم عليها السلطان.
ويكتب ناصر عن رحلته إلى الدار البيضاء بالمغرب، كما يكتب عن رحلته إلى كندا، التي يُنهي كتابته عنها، قائلاً: قد أرغب أن أكون بعيداً عن العالم العربي، لكنني لا أتصور نفسي بعيداً عنه كل هذا البعد... في كندا.
هذا كتاب ممتع بحـــــق، أخــــذنا أمجد ناصر، عـبر صفحــــاته، إلــــى مدن وأماكن عــــديدة، ربما لم يذهب إليهـــا كــــثيرون منا، وربما لن تسمح لهم ظروفهـــم بالذهاب إليها أبداً، وعرّفنا على معالمها، وتاريخها القديم والحديث معاً، ناجحاً إلى أقصى حد، في نقل صورة متكاملة لها للقارئ، جاعلاً إياه يشعر وكأنه يتجول برفقته في شوارعها وبين أهلها وقاطنيها .