عوائق العملية التعليمية في العالم العربي

عوائق العملية التعليمية  في العالم العربي

يجد الوطن العربي نفسه أمام تبعية اقتصادية مفروضة عليه بالرغم من ثرواته الطبيعية، وهي - بلا شك - ستخلف وراءها تبعية ثقافية ليست أقل شأناً، بل ربما أكثر فداحة وخسارة. فهي تتسلل خفية، ليلتبس الأمر علىالمثقفين والمفكرين والمربين وليجدوا أنفسهم في نهاية الأمر أمام سيل عارم من العوائق في تربيتهم للجيل الصاعد.

لعلّ أول هذه العوائق متمثل في النقاط التالية:
1 - تواضع مستوى التعليم
إن الأنظمة العربية اليوم لا تعير بالاً لما يحدث من تغييرات علمية، وإنما يكفيها الخضوع لتوجهات فرضتها قوى العولمة. فكيف لها مواجهة الضغوط العالمية بنظام تربوي هشّ وإنجاز تنموي متواضع ومستوى تعليمي متدنٍ، تدل عليه مؤشرات عدة، أولها مؤشر الأميّة الذي سجل أعداداً هائلة، حيث قدّر العدد عام 2000م بحوالي 68 مليون شخص، 63 في المائة منهم من الإناث.
إن عدد الأميين هذا يزداد كآبة عندما تضاف إليه المعدلات المرتفعة للتسرّب في المرحلة الابتدائية. هذا على صعيد الكمّ، أما على صعيد الجودة والنوعية، فالأمر ليس بأفضل حالاً، فنظرة نقدية إلى مدخلات التعليم ومخرجاته تبرز عدم القدرة على استثمار التعليم والعجز عن إنتاج قدرات ذهنية مبدعة، ويزداد هذا العبء مع ما تفرضه العولمة من تحديات إضافية.
إن الطالب في المجتمع العربي يقضي، إلى أن ينهي دراسته الثانوية، حوالي 5000 ساعة على الأقل، في تعلم العلوم سواء في المدرسة أو في المنزل، إلا أنه يفشل بعد ذلك في تصميم اختبار علمي بسيط أو تقويم معلومة بيولوجية. فهو قد حفظ معلومات وحشا دماغه بعلوم نظرية بعيداً عن التجارب في المختبرات. فالوقت يضيق عن إجراء الدرس عملياً، لتأتي العملية التعليمية بشكل عمودي، تتتابع الدروس فيها من دون توكيد عليها، بعيداً عن الشكل الأفقي حيث تتراكم الأنشطة والتجارب لتؤكد المحاور المطروحة.
أنّى لمثل هذاالطالب أن يصعد سلّم الإبداع والتميّز ليدخل عالم التقانة ويخرج منه بإنجازات ونجاحات مذهلة. إذا أخذنا بالمؤشرات الدولية المتاحة بشأن مدى توافر تقانة المعلومات مثل حيازة الحاسوب الشخصي والتواصل بالإنترنت، تظهر دراسة حديثة أن مجموعة الأقطار العربية تحقق أقل من المتوسط العالمي في مؤشرات تقانة المعلومات والاتصال.
غير أن حيازة الحاسوب أو التواصل بالإنترنت لا تعدو كونها تعبّر عن مظهر، فهذه المؤشرات لا تصوّر مدى إسهام هذه التقانة في تفعيل الإنتاج المعرفي، فالجوهر هو توظيف هذه التقانات في التصنيع لا في الاستهلاك وحسب.

2 - أبعاد المناهج المعلّبة
تحديات غير مسبوقة يواجهها الوطن العربي في الفترة الأخيرة، وتهديدات مستمرة بالتدخل الأجنبي عسكرياً، وسياسياً، واقتصادياً، لتطول الشأن الاجتماعي وعلى رأسه المجال التعليمي الذي يبني العقول التي تخطط وترسم المستقبل، لترسو الحال على تحكم من قريب أو بعيد في المناهج وبرامج التعليم.
يكفي أن تغيب الفلسفة التربوية عن نظام التعليم ليغيب الإطار العام الذي تحدد فيه الأهداف وآليات التنفيذ والمناهج المرسومة المتوافقة مع عصر تحوّل الدارس فيه من متلقٍ إلى باحث متقصٍ يتقن التعامل مع فيض المعلومات.
تأتي المناهج خبط عشواء غير منسجمة مع متطلبات السوق وحاجات المعرفة... هي مناهج رثّة لا تتجدد وإن تجدّدت فتظل في ثوبها القديم، من الناحية الوطنية خلت من مفهوم المواطنة وأبعاده الأساسية المتمثلة في الحرية والمساواة والمسؤولية والتفكير الناقد إلا بنسبة ضئيلة. فإذا بجيل مضيّع لذاكرته وتاريخه وهويته وجذوره.
ومن الناحية السياسية، تؤكد دراسات عدة ضعف الدور الذي تلعبه المناهج، فهي تفشل في توضيح النظام الســــياسي وتفســـــير نظــام الحكم والأحزاب، وتندر فـــــيها المعلومــــات المتصلة بالمؤسسات الرسمية وغير الرسمية، وهو ما يعوق وصول المواطن لمجتمع ديمقراطي.
إن المناهج الراهنة لا تنمّي لدى الطلاب الوعي بواقع مجتمعهم، وتكاد تخلو من الأنشطة والمواقف التعليمية التي يدرك بها الطلاب ماهية المواطنة ويمارسون فيها معاني الديمقراطية. وهذا ما يعوق المواطن عن المشاركة السياسية وحرية الرأي، بل يدعم معاني الخضوع والطاعة لديه.
أما على الصعيد الفكري، فالمناهج تنقل جوانب من المعارف في صورة قوانين وشروح مقطوعة الصلة عن طريقة وصفها والتوصل إليها، من طرائق تفكير وتطبيق وبحث واستقراء، حتى في تدريس العلوم. إن تصميم المناهج الدراسية يستند إلى المنهج الوضعي والمنهج السلوكي اللذين يروّجان لمفاهيم الثوابت واليقين والحتمية والمطلق. وعلى مستوى المنهج الواحد، فإنها تتم في صورة فصول وأبواب منفصلة، وهو ما يجعل المناهج الحالية بمحتواها وطريقة تناولها مسهمة في اختزال العمليات المعرفية في عملية واحدة هي التذكّر مع غياب كامل للعمليات الأخرى.
إن ذلك يلقي عبئاً حقيقياً على المناهج الدراسية المعلّبة في كتب تمثّل حصاراً على المعرفة المفتوحة، فلابدّ إذن من تحويل الوجبات الجاهزة إلى مهارة انتقاء المعلومة وحسن استثمارها.
وهذا يستلزم تفكيراً إيجابياً قادراً على تأطير المعلومة والإفادة منها في قالب خلاق يفتح الآفاق، ويستلزم بالتالي تحليلاً مستمراً للمناهج الدراسية، وتشكيل هيكل مرن للتدريس يسهّل انخراط الاقتصاديين والرياضيين والبيولوجيين وعلماء التاريخ والفيزياء و... في وضع ونقد ومنهجة المناهج ومساعدة الطلاب في إدراك كيفية التعامل مع المشكلات المختلفة، والسعي لدمج اختصاصات متنوعة بغية إقامة ترابط بين المعارف الإنسانية المتعددة، وذلك بالتعاون مع التربويين المتخصصين لتكون ثمرة هذا التآزر برامج ومناهج دراسية عملية تتوافق مع الحداثة وسوق العمل، وتلبي اهتمامات الطلاب والمجتمع معاً.

3 - التسلّط في التدريس
إن توفّر التفكير الإيجابي قليلاً في ظل المناهج المعلّبة، فإنه - ولا شك - سيندثر في ظلّ التسلّط (*) في التدريس. فمدارس اليوم لا تعمل على التزويد بالمهارات العملية والمعرفية بقدر ما تعمل على تزييف الوعــــي وتغريب الإنسان وصقل شخصيته ليكون مواطناً يتسم بالطاعة والخنوع في وظيفته المستقبلية، وهذا ما يتجلى واضحاً في طرق التدريس المعتمدة، في جلسة المعلم وسط طلابه، في العلاقة الهرمية التي تتدرج من المدير لتصل إلى الطلاب في النهاية، في الجواب الصحيح الواحد... وما إلى ذلك من ظواهر متنوعة تهيمن بظلها على الطالب ليصبح في المستقبل القريب ناقلاً للقرارات والأحكام من دون نقاش أو تبديل، وهذا ما يتوافق في الأصل مع طبيعة النظام الحاكم الذي أراد أن تكون الثقافة العربية اليوم ثقافة غيبية تسلّطية لا عقلانية تعزّز في أبنائها عدم المشاركة بكل أشكالها السلبية وتكرّس الانعزال.
إذن هــــو تعلّم كيــــف نتصرف وكيـــــف نذعــــن ونتقبّل مكانتــنا في نظام الأشيـــــاء أيّا كان شكــــله: الزي الموحّد واستخدام الوقت والجلوس في صفوف داخل الفصل... والتدريب على الضجر والسأم كما يتمثّل في غالبية اليوم الدراسي الذي يقضى في التلقي السلبي للتدريس أو الأداء النشط للمهام التي ليس لها معنى واضح، فالمدرسة تمثل إعداداً سليماً للحياة العملية، إنها تدريب على الخضوع والعمل في بيئات مقيّدة ثقافياً وقائمة على الإقصاء الثقافي.
وتتتابع الدراسات (**) لتؤكد أن الأطفال غالباً ما يجلسون سلبيين، بينما يتحدث المعلمون إليهم ويطلب منهم بين الحين والآخر إجابة كورالية لسؤال مغلق. وللحفاظ على النظام يعتمد الأساتذة المحاضرة في التدريس كشكل من أشكال السيطرة البيروقراطية... وعلى ذلك فليس من قبيل المغالاة التأكيد على أن الموقف التدريسي موقف سلطوي بالدرجة الأولى، فالمعلم العربي لايزال مصدر العلم والقوة والسلطة، بغض النظر عن المسوغات المبرّرة له، سواء لتقدمه عليهم في العمر أو الخبرة أو العلم. إلا أن هذا هو الواقع الذي لا مفرّ منه... وإن تولدت عنه سلبيات كثيرة، منها: فقدان الدافعية للتعلّم، ونأي التفكير جانباً، ومشكلات سلوكية جمّة.
هذا الموقف هو في حد ذاته، عثرة تحول دون إنتاج المفكّرين وتوصل للطلاب رسالة سلبية تجعلهم عجينة مطواعة في أيدي معلميهم اليوم في المدرسة، وغداً في الوظيفة، وتولّد لديهم إحساساً بالقهر والاستبداد وعدم احترام إنسانيتهم.
وهكذا فإن التحديات التي تترصّد بالتربية كثيرة تكاد لا تحصى، ويظل التساؤل مطروحاً، أين تتجه مخرجات هذا التعليم؟ إن ضعف الإنتاج وهشاشة التصنيع وذبول مجتمع المعرفة كلها عوامل تكرّس طلباً ضعيفاً على المهارات الفكرية العليا.
وفي هذا الإطار يغيب عن الساحة المناخ العلمي الذي يجعل العلم في مقدمة الأولويات، والمعرفة... دافعاً ذاتياً يحفّز على التعلم من أجل العلم لا من أجل الشهادة.
أين عالم العمل الذي يطـــرح وظائـــــف تحتـــــاج إلى متطلبات معرفية راقية؟ إن الانفتاح على الأسواق الأجنبية في ظل العولمة شكل منافسة قوية للإنتاج ووسّع من احتمالات البطالة.
< وقد كشفت دراسة حديثة للصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي عن تزايد معدل البطالة في البلدان العربية بنحو 15 في المائة من إجمالي قوة العمل، وفي دراسة أخرى بحوالي 20 في المائة في المتوسط، مع اعتباره أعلى المعدلات في العالم على الإطلاق. وهذا في حد ذاته لدى المواطن العربي شعور بالاغتراب عن المجتمع الذي لم يؤمّن له عائداً لسنوات تعليمه.
أين السياسات العامة التي تسعى إلى بناء الطاقات الإنتاجية والقدرات الفكرية، ولا تسير في ركاب تبعية شبه كاملة تعيق استقلال الفكر المنتج؟
لقد فشل التعليم في تشكيل السلوك الذي يواجه تحديات العولمة، وذلك عائد للأسباب التالية:
< فشل التعليم في تشكيل اتجاهات تنطوي على العقلانية والتسلسل المنطقي.
< الفصل في التعليم بين شقّيه النظري والميداني.
< اعتماد التلقين وتلقي المعلومات أحبط القدرة على إنتاج الأفكار الأصيلة وأساء إلى مهارات التفكير العليا مثل التحليل والاستنتاج والنقد وغيرها.