وطني الموعود

وطني الموعود

يعرف‭ ‬عن‭ ‬أري‭ ‬شافيت‭ ‬ذ‭ ‬مؤلف‭ ‬الكتاب‭ - ‬أن‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬نشر‭  ‬في‭ ‬الصحافة‭ ‬كان‭ ‬مقالات‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1982،‭ ‬يناهض‭ ‬فيها‭ ‬حركة‭ ‬الاستيطان‭ ‬في‭ ‬الضفة‭ ‬وقطاع‭ ‬غزة،‭ ‬وكان‭ ‬آنذاك‭ ‬عضواً‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬االسلام‭ ‬الآنب‭. ‬وقد‭ ‬استمر‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المنوال،‭ ‬وأصبح‭ ‬كاتباً‭ ‬مرموقاً‭ ‬ينشر‭ ‬في‭ ‬اهآرتسب‭ ‬والصحافة‭ ‬العالمية‭. ‬والكتاب‭ ‬الذي‭ ‬أمامنا‭ ‬ليس‭ ‬عملا‭ ‬أكاديمياً‭ ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مرجعاً‭ ‬فيه،‭ ‬خاصة‭ ‬أنه‭ ‬يجمع‭ ‬خلاصة‭ ‬تجربته‭ ‬الصحفية‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬عقود،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬لقاءات‭ ‬مع‭ ‬عسكريين‭ ‬وعلماء‭ ‬وتجار‭  ‬وسياسيين،‭ ‬من‭ ‬ضمنهم‭ ‬ضباط‭ ‬إسرائيليون‭ ‬شاركوا‭ ‬في‭ ‬مجازر‭  ‬الفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬اللد‭ ‬ودير‭ ‬ياسين‭ ‬في‭ ‬1948،‭ ‬وأن‭ ‬يستعيد‭ ‬معهم‭ ‬ذكرياتهم‭ ‬لهذه‭ ‬المجازر‭. ‬

استطاع شافيت أن يلتقي بفلسطينيين كانوا هم أنفسهم من ضحايا المذابح التي ارتكبت في اللد. كما قابل فلسطينيين تحولت حياتهم من ميسوري الحال إلى لاجئين في مخيمات «الأونروا». 

وعلى الرغم من أنه بحث في فترة تاريخية ينزعج الضمير الإسرائيلي من البحث فيها، فإن هذا جزء من غرض الكتاب. ولو أردت أن أستنتج غرض الكاتب، إضافة لإنتاج عمل ناجح ومميز، لرأيت أن شافيت قدم تاريخ الحركة الصهيونية منذ نهاية القرن التاسع عشر، وأوضح التغيرات التي طرأت على الوعي والهوية الإسرائيلية منذ أول مستوطنة أنشئت في عام 1890 وإلى الآن، وذلك لتحضير القارئ الإسرائيلي للتحديات التي تواجه بلده في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.

 

رؤية‭ ‬الحركة‭ ‬الصهيونية‭ ‬للفلسطينيين

لعل أهم ما يكشفه شافيت هو التمايز في الرؤى بين رواد الحركة الصهيونية منذ بداياتها في نهاية القرن التاسع عشر من  ناحية التعامل مع سكان فلسطين من العرب، والتوضيح أنه في أغلب الأحيان اختار التيار الرئيس في الحركة الصهيونية أن يلتزم الصمت من دون أن يعلن نواياه نحو الفلسطينيين. فهناك تفاوت مثلا بين إسحق أينشتاين الذي فتح مدرسة لتعليم الأطفال اليهود والعرب من ناحية، والذي فاجأ المؤتمر الصهيوني الذي عقد في نيويورك عام 1904، بأن فلسطين بلد له سكانه الذين يعيشون فيه منذ أكثر من ألف سنة، ومن جهة أخرى رؤية إسرائيل زانجويل، الذي دعا إلى الاستعداد لطرد الفلسطينيين، ما أدى إلى طرده من الحركة الصهيونية. فالحركة الصهيونية في بداياتها لم تتقبل آراء مثل تلك التي نادى بها صاحب النزعة الإنسانية أينشتاين، لكنها لم تستعد بعد لتبني آراء عنيفة مثل آراء زانجويل. لكن في النهاية أخذت برأي الأخير، لأنها حركة استعمارية، وكان لابد أن تصطدم بالسكان الأصليين. لذا تمت إعادة ضم زانجويل إلى الحركة الصهيونية عام 1920. فالتيار الرئيس الممثل بالدكتور هرتزل، الذي دعا للمؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897، لم يعلن العداء للفلسطينيين، وإنما كان يضمره. 

يذكر أنه عندما عقد المؤتمر الصهيوني الأول كان يوجد 11 مليون يهودي في العالم، 7 ملايين منهم يعيشون في أوربا الشرقية، ومليونان في الغربية. ولم يشكل اليهود إلا 0.4 في المائة من سكان فلسطين آنذاك. ولا يمكن فهم جذور أو أسباب نشأة الحركة الصهيونية من دون النظر إلى الحالية المزرية التي كانوا يعيشون فيها من اضطهاد، خاصة في أوربا الشرقية، إن كان في الجيتو أو من خلال حملات التنكيل بهم مثل ما حصل في أوكرانيا عام 1882 أو مولدوفا في 1903. لذا يرى شافيت أن الحركة الصهيونية لم تحرر اليهود من اضطهاد الآخرين، وإنما حررتهم كذلك من حياة الجيتو ومن التدين الذي مارسه اليهودي في الجيتو. لقد كانت الصهيونية ثورة على الجيتو والدين، على حد تعبير شافيت. 

 

الكيبوتز‭ ‬وتأسيس‭ ‬إسرائيل

إذا أردنا أن نفهم تاريخ إسرائيل، فلا بد من العودة إلى تاريخ الاستيطان من خلال الكيبوتز، حيث أُسست مستوطنات أو كيبوتز مختلفة. فمثلا أخذ كيبوتز ديجانيا الذي أُسس عام 1909 نمطاً مثالياً متأثراً بفكر الروائي تولستوي، وكان رواده يهدفون إلى خلاص الفرد والجماعة. ولم ينجح ديجانيا بمثاليته المفرطة، فتخلى عنه الغالبية الذين هاجر كثير منهم إلى الولايات المتحدة. ولنفهم نفسية الشعب الإسرائيلي، يقدم لنا شافيت كيبوتز عين هارود (Ein Hrod)، الذي تم شراء أراضيه من عائلة سرسوق المصرية، الذي يعتبره شافيت مغادرة الماضي وبداية تاريخ إسرائيل. لذلك يقوم بزيارته والبحث في أرشيفه، ويتساءل: كيف كان المستوطنون يرون مستقبلهم في عام 1921، عندما كان عدد اليهود في فلسطين ثمانين ألفاً، بينما بلغ عدد العرب ستمائة ألف؟ فهم كما كان جدهم الأكبر يرون العرب لكن لا يرونهم. ويقرأ  شافيت تاريخ الاستيطان، ويجد أن الاستيطان البورجوازي الذي أنشأه روتشيلد في 1897 فشل، كذلك فشل الاستيطان المثالي كما في ديجانيا، لكن الازدهار كان للاستيطان الاشتراكي مثل عين هارود «فلكي تنجح الصهيونية، هناك حاجة إلى تنظيم والتزام وضبط لا يوجد إلا في البنية الاشتراكية». ويضيف أن الكيبوتز باشتراكيته كان ضروريا للأسباب التالية:

< هناك جهد جماعي يخفف من شدة المصاعب.

< أضاف الكيبوتز نوعاً من التفوق الأخلاقي لأعضائه لمثاليته.

< تميز الكيبوتز عن المستوطنات الاستعمارية بأن أفراده يمارسون جميع الأعمال.

 

الثورة‭ ‬العربية‭ ‬ومأساة‭ ‬اللد

كانت نتائج الثورة العربية التي أشعلتها كتائب عزالدين القسام كارثية على الفلسطينيين، فبعد إخماد الثورة من قبل الإنجليز لم يتوقف استعداد الصهاينة العسكري. فتشكلت وحدات الهاجانا التي كانت العمود الفقري لتشكيل الجيش الإسرائيلي عام 1939. وفي عام 1941 تشكل تنظيم البالماخ الذي مثل الوحدات الصهيونية الضاربة، ويمكن القول إن هذه الثورة العربية أعطت الحركة الصهيونية الفرصة  للكشف عن أنيابها. فبعد أن كانت بساتين برتقال هنا، ومصانع هناك، بدأ تكثيف الجهد العسكري لخوض «حرب تحرير شاملة». وعلى الرغم من هذا التوتر السياسي والأمني، شهدت فلسطين في تلك الفترة ازدهاراً اقتصادياً كبيراً بلغت فيه الصادرات أوجها. وقد استفاد من هذا الازدهار العرب واليهود على حد سواء. وقد تميز اليهود بسيطرتهم على الجانب الصناعي. ففي عام 1942 كانت نسبة المصانع التي يملكها العرب إلى تلك التي يملكها اليهود 1 إلى 6. 

ومع هذا الجو العدواني، ظل بعض الرواد اليهود يؤمنون بحلول سلمية. وكان منهم سيفغريد ليهمان، الطبيب المولود في برلين عام 1892، الذي رأى «في الصهيونية حركة نظر إليها بأن تجد علاجا للإنسان اليهودي المعاصر والبشر بشكل عام. وأن تنجز رسالة بشرية خالية من التعصب والسلوك الاستعماري. وكانت رؤيته مبنية على أنه لكي تنجح الحركة الصهيونية لابد أن تندمج مع محيطها العربي».

وعندما نشبت حرب 1948، كانت مدينة اللد التي ظلت عربية ولم يخترقها الاستيطان الصهيوني من أكثر المدن ازدهاراً. ويرى شافيت أن الازدهار الذي عم فلسطين وظهور طبقة عاملة وتجارية عربية ساهما في رفع الوعي الوطني لدى الفلسطينيين، الذي زاد التوتر السياسي بين العرب واليهود. لذا شكلت مدينة اللد عائقا لتوسع تل أبيب الصهيوني، فكانت هدفا عسكريا ضروريا لكي يبسط الصهاينة نفوذهم على هذه المنطقة.

ويعتبر الفصل المخصص لمدينة اللد ومأساتها أكثر الفصول أهمية. فقد بذل الكاتب جهدا كبيرا في استقصاء الحقائق، متمكنا من مقابلة القادة العسكريين الصهاينة الذين نفذوا عملية «لارلار»، التي قتل  من خلالها أكثر من أربعمائة فلسطيني مدني بريء، وطرد آلاف الفلسطينيين منها. وقد كتب شافيت هذا الفصل بأسلوب تصويري أدبي يثير مشاعر التعاطف مع الضحايا، وكأنه يجهزه ليكون سيناريو لفيلم يبكي الملايين. فيعتبر شافيت اللد الصندوق الأسود للصهيونية. ويضيف الكاتب: «لقد أخذت اللد على حين غرة، فلم تشك أبدا بأن يحدث لها ما حدث. فقد شاهدت على مدى أربعين عاما الوجه الطيب للصهيونية، مدارس ومزارع زيتون وبرتقال. وتعودت على زيارات من الطبيب «ليهمان» الذي كثيرا ما كان يقدم العناية للأطفال العرب. لقد تعودت اللد على زيارات من طلاب د. ليهمان الذي كان يحاول زرع المحبة للجميع في قلوبهم. لكن اللد لم تعرف أن آخرين كانوا يأخذون بعض هؤلاء الطلاب ليعلموهم إطلاق الرصاص ورمي القنابل. لم يتوقع أهل اللد أن تكون هذه الصهيونية التي رأوها تعطي أملا لأجيال من اليتامى، هي نفسها ستقوم بافتراس مدينتهم».

ففي 11 يوليو 1948، وتنفيذا لأوامر من بن جوريون، تدخل قافلة عسكرية مكونة من لواء المدينة مطلقة النار على كل المارة، وخلال 47 دقيقة يقتل أكثر من مائة من أهالي اللد. بعدها يطلب من الأحياء من أهل المدينة التجمع في المسجدين الكبير والصغير وكاتدرائية المدينة. وبعد أن تم التجمع، يدعي الضابط الذي قابله شافيت أنه سمع إطلاق رصاص من المسجد الصغير، فيتم توجيه قاذفة مضادة للدبابات إلى هذا المسجد، مما يتسبب في قتل جميع الذين لجأوا إليه، والذين زادوا على السبعين. بعدها يطلب من ثمانية من الفلسطينيين حفر حفرة لدفن الضحايا، وبعد إتمام الحفر ونقل الضحايا، يطلق الرصاص على هؤلاء الثمانية ليدفنوا مع البقية. 

 

هجرة‭ ‬يهود‭ ‬العراق

يستمر شافيت في رواية تاريخ إسرائيل، فقد ولد بعد سبع سنوات من تأسيسها. وهو صحفي ماهر لا يكتفي بقراءة التقارير أو مقابلة الشخصيات أو زيارة الأماكن، وإنما بكل ذلك. فيلتقي شخصيات هاجرت إلى إسرائيل قبل وبعد  تأسيسها، يهوداً نكَّل النازيون بأهلهم، وطردوا من مكان إلى آخر ونجوا من الموت بأعجوبة. كانوا قبل التنكيل ينتمون إلى الطبقة العليا في بولندا وألمانيا وليتوانيا، بعضهم اضطر إلى أن يغير ديانته لينجو. وبعد وصولهم لا يجدون السعادة في الوطن الموعود، وإنما يواجهون ظروفا صعبة في السكن وفي إيجاد العمل، نتيجة لكثافة الهجرة لإسرائيل خلال الفترة من
1945 إلى 1951، حيث استقبلت 750 ألف مهاجر. لذا ففي عام 1949، كان هناك ما يقارب 93 ألفاً من المهاجرين يعيشون في بيوت الصفيح، وبمنتصف عام 1951 ارتفع عددهم إلى 220 ألفاً، مما دعا إسرائيل إلى وقف الهجرة في عام 1952، وتخفيض العملة وميزانية الدفاع. 

كان المحظوظ من المهاجرين يسكن في وحدات لا تزيد مساحتها على 34 متراً مربعاً. ومن بين هؤلاء المهاجرين الذي مروا بالتجربة، كانت لويز عينجي، العراقية التي كانت تعيش مع عائلتها في فيلا على نهر دجلة في بغداد. وتروي لشافيت كيف أن أحوال اليهود قد ساءت بعد ثورة رشيد عالي الكيلاني وعمليات النهب (الفرهود) التي شهدتها بغداد. وكيف أن كثيرا من الشباب اليهودي إما تبنى الفكر الصهيوني وإما التحق بالحزب الشيوعي العراقي. وتتحدث عن الرفاهية التي كان يعيشها معظم يهود العراق وزالت بين ليلة وضحاها. وكيف ساءت الأحوال أكثر عندما أعدم التاجر العراقي عدس في البصرة. وأنها لم تصدق نفسها عندما ركبت الطائرة في يونيو 1951، متوجهة لإسرائيل، فأخذت تلقي من خلال النافذة نظرتها الأخيرة على نهر دجلة وبغداد التي ولدت ونشأت فيها. وتروي خيبتها عندما وصلت إلى إسرائيل، وأسيئت معاملتها لدرجة أن رشوا مادة «دي دي تي» على شعورهم. وسكنوا الخيام إلى أن انتقلوا إلى وحدات سكنية تجلب الأسى واللوعة. 

 

نمو‭ ‬الدور‭ ‬السياسي‭ ‬لليهود‭ ‬العرب

هاجر معظم اليهود الشرقيين لإسرائيل في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وقد شكلوا 50 في المائة من سكان إسرائيل اليهود عام 1990. وكانت معاملتهم مختلفة منذ وصولهم إلى أرض إسرائيل، كما حكت لويز عينجي التي هاجرت من بغداد. فمن لحظة الوصول وبعد أن وضعوا الـ «دي دي تي» على رأسها، شعرت بأنها أقل من اليهود الأشكيناز (اليهود الغربيين). والأهم من ذلك أن اليهود الشرقيين فقدوا نمطا روحيا دينيا بعد وصولهم لإسرائيل، فقد شعروا بالغربة في أرض الميعاد. وإلى أول التسعينيات كان دورهم هامشياً في السياسة الإسرائيلية. 

لكن أريه ديري الذي ولد في مكناس وهاجر طفلا إلى إسرائيل قلب المعادلة. فهذا الطفل الذي ولد في كنف عائلة ميسورة في المغرب في أول الستينيات، كانت عائلة تنوي تربيته ليدرس القانون في فرنسا.  لكن الأحوال أصبحت سيئة على العائلة  واليهود بشكل عام في مكناس بعد حرب 1967، مما دفعها للهجرة إلى إسرائيل. وفي إسرائيل وجدت العائلة نفسها في واحد من الأحياء الشرقية الفقيرة التي كثر فيها الإجرام، فما كان من الأم إلا أن تحمي ديري بوضعه في مدرسة داخلية دينية. كان الطفل ذكيا ومميزا عن بقية رفاقه. لكن تدريسه الديني نقله إلى جذوره اليهودية الشرقية. وبعد إتمام دراسته وزواجه تمكن من إقناع حاخام شرقي وآخر غربي بتأسيس حزب لليهود الشرقيين، فولد حزب شاس في عام 1984 بقيادة أريه ديري، الذي كان في الرابعة والعشرين من العمر. وعندما بلغ الثلاثين، كان الوحيد من اليهود الشرقيين الذي استطاع كسر حلقة النفوذ السياسي التقليدي وتقلد منصب وزير الداخلية في بداية التسعينيات. لكن في النهاية كان عليه أن يستقيل بسبب تهم بالفساد.

إن تأثير حزب شاس ظل مستمرا على اليهود الشرقيين، فجعلهم يمارسون السياسة ولا يقتصرون على التصويت. وبتعبير شافيت «أخذهم الحزب إلى جذورهم التقليدية الصوفية، وأعطاهم الفخر». إضافة إلى تحويلهم إلى قوة سياسية يعتد بها. ويبدو أن وضع اليهود العرب الذين ينتمون إلى ثقافة يهودية شرقية تغير إلى حد كبير بعد بروز حزب شاس. لكن مشكلة انتمائهم إلى هذه الدولة التي أسسها أوربيون غربيون  وشعورهم بالغربة ظلت قائمة. وفي هذا المجال ينقل لنا شافيت من  لقاء له مع اليهودية المغربية جال جابي التي تقدم برنامجا في التلفزيون الإسرائيلي معبرة فيه عن مشاعرها الشرقية: حيث تقول: «أحب تشايكوفسكي، لكني أحب فريد الأطرش كذلك. بداخلي حنين لما افتقدناه كمهاجرين من المغرب، فلدى حنين لما هو عربي. لذا تدمع عيناي عندما أزور أصدقاء عرباً وتغمرني العواطف عندما أشاهد فيلما عربيا. لقد افتقد أبي راحته عندما ترك المغرب، وقد أورثنا عدم ارتياحه. وعلى الرغم من أني أقدم برنامجا ناجحا في التلفزيون الإسرائيلي، فإنني أشعر أني داخل جليد. لقد توقف الانتماء العربي عندي، لكن كذلك توقف الانتماء الإسرائيلي. ومع أن زوجي يهودي غربي فإن إسرائيل لا تقبلني، فأنا دائما تحت دائرة الشك».

 

الصناعة‭ ‬العلمية‭ ‬المتقدمة

منذ عقدين وأكثر تطورت في إسرائيل صناعات اعتمدت على المعرفة العلمية المتقدمة، خاصة في مجال الأجهزة الطبية وفي مجال الكمبيوتر وهندسة الاتصالات، فكثير منها كان ناتجاً من تفوق فردي. على هذا النمط كان مثلاً نجاح كوبي رختر - الطيار السابق، والذي أكمل بعد تقاعده الدكتوراه في العلوم، وحصل على براءات اختراع حوّلها إلى صناعة في المجال الطبي.

ويملك الآن شركة تنتج 35 في المائة من دعامات القسطرة في العالم. ولدى إسرائيل براءات اختراع في المجال الطبي هي الأكثر في العالم نسبة إلى عدد سكانها. ولديها شركات في هذا المجال أكثر من فرنسا. 

وقد ساعد على تطور هذه الصناعة هجرة مليون روسي في بداية التسعينيات، لذا فإن 85 في المائة من العاملين في الصناعة المتقدمة هم من اليهود الروس. هذه الصناعات هي التي جعلت الاقتصاد الإسرائيلي ينمو بمعدل 4.7 في المائة عندما كان الاقتصاد العالمي يعاني الكساد خلال الفترة من 2008 إلى 2011. إسرائيل تعاني مشاكل لكنها تستثمر في البحث العلمي ما يعادل 4.5 في المائة من دخلها القومي مقارنة مع 2.8 في المائة في الدول المتقدمة. لذا كانت هناك شركات إسرائيلية مدرجة في سوق نيويورك لشركات التكنولوجيا (نازداك) أكثر من الشركات اليابانية أو الكندية.

 

التحديات

 ويشير شافيت إلى سبعة تحديات تواجه إسرائيل، أربعة منها يشكلها العرب. وتفصيلا هناك التحدي الإسلامي، فإسرائيل تحتل القدس والمسجد الأقصى، وذلك يثير مشاعر عدائية نحو إسرائيل. فهناك دائرة من مليار مسلم تحيط بإسرائيل وتهدد وجودها. أما التهديد الثاني فيأتي من المحيط العربي. وما حصل من اعتراف في الربع الخير من القرن العشرين كان اعترافاً سطحياً ناتجاً من اضمحلال وفساد الحركة القومية العربية. ويشكل الفلسطينيون حلقة التهديد الثالثة. فإسرائيل بنيت على أراض فلسطينية مغتصبة، وقد تدهور في السنوات الأخيرة تأثير السياسيين المعتدلين على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. أما التهديد الرابع فيشكله العرب الإسرائيليون، فقد صادرت إسرائيل معظم أراضيهم وأعاقت حصولهم على حقوقهم ولم تمنحهم المساواة. وكما ذكرنا فقد تركت لهم نظاما تعليميا متخلفا. كما أن من الظواهر التي ستسبب مشاكل في إسرائيل هي عدم اهتمام الإسرائيليين بما يجري في العالم العربي أو بأي شيء عربي. 

ويضع شافيت غياب قيم الكيبوتز المثالية مهدداً خامس لمستقبل إسرائيل. فالدولة بنيت على تأصيل هذه المثالية وتحويلها إلى سلوك في الحرب والسلام، وغيابها يضعف إسرائيل على مواجهة التحديات. ويرى أن المهدد السادس هو الأخلاقي، حيث إن المتطرفين اليهود والإسرائيليين من أصل روسي لا يؤمنون بالقيم الديمقراطية، ما يشكل خطرا على الاستقرار السياسي.

أما الخطر السابع والأخير، فهو تدهور الهوية العبرية. ويرى شافيت أن «الهوية العبرية كانت هوية ثورية. فقد كانت ثورة على الدين والشتات والسلبية. وإنه في الربع الأخير من القرن العشرين والسنين الأولى من القرن الحادي والعشرين، تدهورت هذه الهوية».  

وفي النهاية، لابد أن أذكر أن قراءة الكتاب ليست مفيدة  تاريخيا فقط، وإنما متعة كبيرة. فهناك تآزر وتوافق بين جهود بذلها وتجارب شخصية، وقدرة على الكتابة بأسلوب أدبي جميل وتأملي. ورأت الإيكونومست البريطانية في الكتاب أنه يحمل نبوءات ودروساً على طرفي النزاع الاطلاع عليها. أما دوايت جارنر في الـ «نيويورك تايمز» فرأى أن «الكتاب يقرأ وكأنه قصة حب ورعب في الوقت نفسه» .