الفتن السوداء في العالم العربي

الفتن السوداء في العالم العربي

لايزال شبح السواد ظلاً، والظلّ يزحف إلى  الأمام أو الخلف، يمنة ويسرة، يكبر ويصغر، ولكنه دائماً في الأسفل بلا ملامح وبلا روح، نراه ولا نكاد نحتويه أو نقيّده، ولكنه يتبدد بدائرة الأنوار، نور العقل ونور الإيمان، ونور البصر والبصيرة، ونور الخير ونور العمل المخلص. 

بذلك جاء قول الله تعالى: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ  نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. صدق الله العظيم (سورة التحريم: 8). ومن الحديث الشريف نجتزئ ما رواه ابن عباس  () عن الرسول ():  «اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن خلفي نوراً...» صدق رسول الله () (متفق عليه). وهكذا عندما تتقاطع تلك الأنوار تموت الظِلال السوداء وينتهي الضَلال. أتساءلت يوماً: لماذا يربط الإنسان بين السواد وبين الموت والحزن والفجيعة والخطيئة؟! فالعرب لا ترى في السواد خيراً أو جمالاً، إلا سواد الشعر وسواد الخال على الوجنة البيضاء، فالسواد عندهم تعبير عن الظلم والظلام والليل والخوف والذنب والجريمة، حتى قالوا في المذنب: «سوّد الله وجهه». 
وعندما نُقلّب صفحات التاريخ الإسلامي تفاجئنا الثورات السوداء، التي انقلبت على الدول من قِبَل الطبقات الدنيا في المجتمع كالعبيد والمنبوذين، وكان ذلك باسم الدين، فخوّفت الآمنين وقتّلت المسالمين، مثل ذلك عندما عاث «الزُطّ» في الأرض فساداً، يقطعون الطرق ويستولون على أرزاق الناس ومؤنهم. كان أول ذِكر في كتب التاريخ الإسلامي عن الزّطّ ذِكرهم كمحاربين مرتزقة في الجيوش، مع الدولة أو ضدها. بدأ هذا الذّكر منذ حروب الردة، إلا أنّ كثرتهم في دار الإسلام جاءت في العصر الأموي، عندما نقلهم معاوية بن أبي سفيان من العراق إلى سواحل الشام وأنطاكية، وذلك للقيام بالأعمال الدنيا التي يأنف كثير من الناس العمل بها. بعد ذلك، في أواخر القرن الأول الهجري/أوائل القرن الثامن الميلادي، استقدمهم الحجاج بن يوسف الثقفي من الهند، وأسكنهم في المنطقة الوسطى من العراق. وبعد أن استقر نفر منهم في البصرة، التحقت بهم جموع من حثالة المجتمع كاللصوص والعيارين، وبدأ الخطر يهدد سيادة الدولة الجديدة، الدولة العباسية، وانتهى أمرهم بعد ثورتهم (ثورة الزّطّ) في عهد المأمون، وقضي على قياداتهم في عهد المعتصم بالله العباسي، الذي أخمد ثورتهم وأنهى فسادهم عام 220هـ/835م. وكان يُطلَق عليهم اسم «السبابجة»، وهي كلمة فارسية معربة تعني اللباس الأسود، أو ربما البشرة السوداء. ويغلب الظنّ أنّ الزّطّ أقوام وقبائل هاجرت من الهند والسند منذ عصور قديمة، لكونهم طبقات دنيا بالمفهوم الديني الهندوسي، لتفترق وتتخذ لها موطناً في بعض دول حوض البحر المتوسط ومناطق أخرى، وهم من يطلق عليهم اليوم «الغجر» أو «النَّوَر» أو «الجيتان» Gitan بالفرنسية، أو Gitano بالإيطالية أو «الجبسيز» Gypsies بالإنجليزية. 
وفي عام 255هـ/869م، ظهر رجل في البصرة، مدَّعياً أنه علي بن محمد، وقد مدّ نسبه لآل البيت، من بعد ما كان يُعرف رجوع أصله إلى عبدالقيس، ورفع راية العصيان على الدولة، ونشر بين الناس أنّ كل عبد مملوك دخل الإسلام قد تحرر من قيد العبودية، محرِّفاً بذلك الشعار معنى الآية الكريمة من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} (سورة التوبة: 111)، فتبعه أكثر العبيد والسوقة وأراذل الناس آنذاك. وكان من آثار دعوته تلك أن أبِقَ العبيد على أسيادهم، وأصاب الخلل طبقات المجتمع وتجارة الناس، فقد كان التجّار يعتمدون اعتماداً كبيراً على العبيد في الرعي والزراعة والصناعة والتجارة. واستطاع علي بن محمد أن يستميل معه فلول الزّطّ وجموعاً من القرامطة، الذين أيدوه في إعلان الثورة على الدولة العباسية، التي عرفها التاريخ بثورة الزنج. أجرى الزنج النهب والسلب، وعاثوا في العراق فساداً، فقطعوا الطريق والقناطر والجسور، ونشروا الذعر بين الآمنين. وعلى مدى سنتين استطاع صاحب الزنج مدّ نفوذه والاستيلاء على أراضٍ ومدن كثيرة في جنوب العراق، الأبُلة وعبادان والأهواز ومدن أخرى. خمسة أعوام عانى فيها الآمنون في ديار الإسلام من فتنة أضرت بالناس أيّما ضرر، حين أتت تلك الفتنة من عدم وعي الناس للواقع، واضطراب استيعابهم لمفاهيم الدين الصحيحة، لتنتهي تلك المحنة عام  270هـ/883م بإخماد الثورة، وبقتل صاحب الزنج وأعوانه «الذين ضل سعيهم وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً». وبعد إخماد تلك الفتنة قال يحيى الأسلمي:
أقول وقد جاء البشير بوقعة
أعزت من الإسلام ما كان واهيا
جزى الله خيرَ الناس للناسِ بعدم
أُبيح حِماهم خيرَ ما كان جازيا
بمثل ذلك يحفل التاريخ الإسلامي بالأحداث، حتى ترى أن لا تَعَلُمَ من حوادث الدهور أو من فتن العصور، ولا اعتبار مما آلت إليه تلك الثورات... فالاغتصاب ليس طريقاً لاسترداد الحق، والاستكبار ليس دليلاً على علو المرتبة، والخضوع ليس الحلّ، والفتنة أشدّ من القتل.

بعد هدوء العاصفة
في هذا الشهر نستذكر السادس والعشرين من فبراير عام 1991م، عندما هدأت عاصفة الصحراء، وتحرَّرت الكويت من العدوان الغاشم بفضل من الله أولاً، ثم من قوى التحالف الخليجي والعربي والدولي، ليأتي ربيع التحرير مواكباً للعيد الوطني لدولة الكويت في الخامس والعشرين من فبراير، ويكون عيد الوطن عيدين. وهاهم اليوم، أبناء وبنات الشهداء، قد أصبحوا رجالاً ونساءً تحمل أمانيهم طموحات الحب في رفعة الوطن وتقدمه. لقد عانت الكويت ألماً من جور الجار القريب، الذي كانت له عوناً وسنداً، في السراء والضراء، في السلم والحرب، وتحمل أهلها صبراً أذية نظام غاشم غُرّ بنفسه فأهلكه ذاك الغرور. لقد صار العراق وشعبه من بعد طغيان ذاك النظام البائد نهباً للمؤامرات والسرقات والتفتيت والتشتيت، ولم ينل شعب العراق الحبيب سوى الجمرة بدلاً من الثمرة... ونال الجوع والحاجة من شعب أرضه أظهرت القمح والرطب، وأبطنت الذهب، ومياهه عذبة ومراعيه طيبة... أرض الحضارات ورحم الثقافات... فواحزناه على دماء الأبرياء التي سالت ظلماً، ويا حزن الشرفاء على رفات الشهداء التي عصف بها الريح ولم تجد لها قبراً غير قلوب الثكالى والأحبة. وعندما تزحف رايات الشؤم والدمار السوداء على ديار العرب وأراضيهم لتضرب وتخرّب، وتسحل وتقتل، وتستعذب الرعب وتغتصب الحبّ، ثم تنتشي بكؤوس الدماء العربية المسفوكة، التي حرّمها الله أن تُسفك، وتُخرّب المساجد وتُهدم الكنائس والمعابد، ويُلَوَّثُ الماء والهواء ويُستعبد الرجال والنساء، ويَتْرُك الشيوخ والأطفال منازلهم لاجئين للمجهول، هنالك ينتصر الطغيان والشرّ، ما دام أهل الحقّ والخير فقط يجتمعون، يستنكرون ويشجبون، ويقولون ولا يفعلون. هكذا زحفت رايات الظلم والظلام بسوادها على سورية، لتعمل فيها ما عملته بالجوار، فتكثر فيها معاول الهدم والرجعية، فتهدم آثار الماضي العريق وتبدِّد أحلام الحاضر وتسرق آمال المستقبل. 

التعافي من الجراح
لقد وقف العراق وشعبه لمواجهة الإرهاب المتخذ من الإسلام قناعاً، وهاهو الشعب قد أزاح الغمّة، وهاهو العراق يتعافى من جراحه، بتكاتف شعبه ودول العالم العربي والإسلامي كجيش واحد للهجوم على أوكار الإرهاب وجحور الذئاب. وكلّ الأمل أن يعود السوريون إلى وطنهم سالمين غانمين. ألم تر ما جرى في ليبيا حبيبة عمر المختار؟ ليبيا التي حاربت سنين طويلة الاستعمار، قد حلّ بها الدمار، وأشعل الضلال بوحدتها النار، فتفرقت وتجزَّأت الراية إلى ثلاث رايات، وكل فريق بما لديهم فرحون. كنا قد بنينا آمالاً على صوت الحرية الليبي عندما تحرر من السكوت والصمت الطويل، ولكننا - مع الأسف - ما سمعنا بعد ذلك سوى العويل، وأصوات صرخات الخوف وأنات الجرحى وحشرجات المحتضرين، وما كنا قد عرفنا عندما لاح فجر عليها جديد، أنّ ثمن الحرية لابدّ أن يحصد تلك الأرواح النقية الأبية، وأن يفتح رِبا الحرية الليبية للإرهاب أبواباً. أين منا اليمن السعيد؟ اليمن الحبيب الذي انقسم ثم الْتأم ثم اشتعل فتألم... فانتفض على الظُّلْم والظُّلَم وهو يعلم أنه لا كرامة بلا حرية، ولا حرية بغير نضال، وأنّ «الحرب أولها كلام»، ولكن الطغيان يأبى أن يسمع صوت الشعب، ويجور على أهله وبني وطنه:
وظُلْم ذوي القربى أشد مضاضة 
على النفس من وقع الحسام المُهنَّدِ
من أجل ذلك، هبّت «عاصفة الحزم» على الظُّلم، لإنقاذ شعب اليمن الشقيق، وتحالفت قوى العدالة والخير لكسر قيود التعدي على الحريات والحقوق. كانت العاصفة ذات ريح صرصر على مصاصي دماء الشعوب وأعداء النور، ونسيماً على الأبرياء والمظلومين القابعين تحت سيطرة المجرمين. يُذكِّرني ذلك بما كان حين سُلبت بلادي الكويت في أغسطس عام 1990م، فتعاضدت قوى الإنسانية لتعصف بالأعداء، فبدأت بالقصف الجوي على مواقع جيش العدو ومكامنه، وكان الشعب يسمع انفجارات قصف الطائرات، التي كان صداها له إيقاع لحن جميلٍٍ على القلوب يؤنسها ويمنيها بالأمل. هكذا اليمن، يعيش اليوم تحت ظلّ «عملية إعادة الأمل»، الأمل في عودة الحياة والأمن والاستقرار. وليس أبلغ من تقديم التضحيات في سبيل تحرير اليمن، وأكبر تلك التضحيات ما قدَّمته المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، لقد قدّمتا أبناءهما فداء لتحرير شقيقهما اليمن. بذلك قال أبوالقاسم الشابي:
فلا بـــدّ لليـــل أن ينجلـــي
ولا بـــــد للقيـــد أن ينكسر
ومثله أنشد نجيب الريس:
ليس بعد الليل إلا
فجرُ مجدٍ يتسامى.