المَقريزي ... وشجاعة المواجهة

المَقريزي ... وشجاعة المواجهة

ثارت نزعة إصلاحية عند المؤرخ الكبير تقي الدين علي بن أحمد المَقريزي (ت845هـ)، أزكتها الأزمة الاقتصادية التي عاشتها مصر لسنوات عدة من عام 796 هـ حتى عام 808هـ، إلى جانب عمله بالحِسْبة، ما جعله مُعَايِشاً للمشاكل الاقتصادية عن قرب بما يسمح له بمعرفة العلل وآثار الداء، إلى جانب معاناته الشخصية بوفاة ابنته سنة 808 هـ وهي في السادسة من عمرها، جراء تلك الأزمة. 

وجهت كل  هذه العوامل المقريزي إلى أن يبحث في منبت الداء ويجتهد في تلمُّس الدواء، فكان من نتائج ذلك ثلاثة كتب مترابطة: «إغاثة الأمة بكشف الغمة» ولعله كتبه على عجل في فورة حماسه فاختصره جدّاً، ثم بدا له أن يكمل جوانبه ويعمِّق مسائله في كتابين آخرين، هما: «الأوزان والأكيال الشرعية»، و«شذور العقود في ذكر النقود».
 وقد لفت نظري في كتابه «إغاثة الأمة» الشجاعة المفرطة التي يعرض بها أطروحته، ويمكن تقسيم هذه الشجاعة إلى جانبين؛ الشجاعة في مواجهة المجتمع وأعرافه السائدة، والشجاعة في مواجهة السلطان فرج بن برقوق ورجال دولته وأرباب الوظائف المؤثرة.
ولم تظهر شجاعته في هذا الكتاب فقط، بل في مواضع أخرى من كتبه، ولكن تركيز هذا البحث على كتاب «الإغاثة»؛ لأن شجاعته تجلَّت فيه بكثافة رغم صغر حجمه.

أولاً: شجاعته في مواجهة الأفكار السائدة في المجتمع
 بعض الأفكار ترسخ في الذهن الجمعي حتى تكون عقيدة لا يمكن ادعاء خطئها، لاسيما إذا كانت تتترَّس بقناع ديني مما يجعلها غير قابلة للنقاش، وهذه الفكرة هي فكرة القَدَر المحتوم الذي لا مفرَّ منه، حيث ينظر البعض إلى المجاعات والأزمات التي تحل بمصر على أنها قدَرٌ محتومٌ لا مفرَّ منه، وينظرون إلى المجاعة الأخيرة التي كانت بين عامي 796 و808 هـ، على أنها أسوأ ما مرَّ على مصر من مجاعات، وأنها لا يشبهها شيء مما مرَّ في الفظاعة.
 فواجه المقريزي تلك الأفكار السائدة، مؤكداً أنه مرَّ بأفظع من الأزمة الحالية ولكن الإنسان لا يتصور ذلك لأنه لم يعايشها، ولاختلاف قوة احتماله، وأكد أن الأزمات ليست قَدَراً محتوماً بل هي ظاهرة إذا عُرِف سببُها أمكن علاجها، قال المقريزي: «لمَّا طال أمد هذا البلاء المُبين، وحلَّ فيه بالخلق أنواع العذاب المُهين، ظنَّ كثير من الناس أن هذه المحن لم يكن في ما مضى مثلُها ولا مرَّ في الزمان شبهها، وتجاوزوا الحدَّ فقالوا: لا يمكن زوالها، ولا يكون أبداً عن الخلق انفصالها. وذلك أنهم قوم لا يفقهون، وبأسباب الحوادث جاهلون، ومع العوائد واقفون، ومن روح الله آيسون، ومن تأمَّل هذا الحدَث، علِم أنَّ ما بالنَّاس سوى سوء تدبير الزعماء والحُكَّام وغفلتهم ...».

ثانياً: شجاعته في مواجهة السلطة ورجالها
 لم يخش المقريزي قوة السلطة الحاكمة وهي سلطة السلطان المملوكي فرج بن برقوق (تولَّى من 801 إلى 815 هـ) وأخيه عبدالعزيز بن برقوق الذي حلَّ محلَّه عام (808 هـ) فقط، وهما اللذان قد ألَّف كتابه في عهدهما، وقد عُرِف فرج بأنه سفَّاك. وكان ينزع إلى الاستيلاء على ممتلكات رعاياه من الأراضي، كما كان مولعاً بالشراب ليل نهار حتى ارتفع سعر العنب في عهده.
 أرجع السبب الأول من أسباب هذه الأزمة إلى ولاية المناصب بالرشوة والبراطيل كالوزارة والقضاء ونيابة الأقاليم وولاية الحسبة وسائر الأعمال، ويذكر نتائج ذلك بشجاعة، حيث يقول: «تخطَّى لأجل ذلك كلُّ جاهلٍ ومفسدٍ وظالمٍ وباغٍ إلى ما لم يكن يؤمِّله من الأعمال الجليلة والولايات العظيمة؛ لتوصُّله بأحد حواشي السلطان ووعده بمال للسلطان على ما يريده من الأعمال...».
ويقول أيضاً: «وتزايدت غباوة أهل الدولة وأعرضوا عن مصالح العباد وانهمكوا في الملذات لتحق عليهم كلمة العذاب، {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (الإسراء: 16). فهذا رمي صريح بالغباوة وبالفسق وبسوء الخاتمة.
ويعرِّض به أو بغيره ممن يرفض رأيه الإصلاحي قائلاً: «من ملَكته العوائد واسترقَّته المألوفات وقيَّدته رعونات نفسه حتى وقف على ما عهد ولم يتراء إلى ما غاب عنه ولا تصوَّر سوى ما أحسَّ فإنَّه يقول: لا فائدة في إتعاب فكرك وإطالة كدِّك... والحال بعد طول العناء أفضى إلى كون الذهب والفلوس على مثل ما كانا عليه سواء، من غير تغيير شيء من حالها، بغير زيادة في سعرها ولا نقصان منه البتة». 
وقال بعد أن ردَّ على هذه الشبهة: «ولعمري لا يجهل قدر هاتين الفائدتين الجليلتين ويجحد حق هاتين النعمتين العظيمتين من له أقل حظ من تمييز وأنزر نزر من شعور إلا من قصد أن يخون عهد الله وأمانته في ما استرعاه من أمور عباده بإظهار الفساد وإهلاك العباد والله لا يهدي كيد الخائنين». 

شجاعته في مواجهة السلطان 
عبَّر المَقريزي عن وجهة نظره بجرأة، وتظهر هذه الجرأة في عدة مواضع، منها قوله في المقدمة: «ومَن تأمَّل هذا الحادثَ من بدايته إلى نهايته، وعرفه من أوله إلى غايته، علم أن ما بالناس سوى سوء تدبير الزعماء والحُكَّام، وغفلتهم عن النظر في مصالح العباد». فهذا اتهام مباشر لا مواربة فيه بسوء التدبير من قبل السطان.
وقال في أسباب الأزمة التي عاشها: «والأمر فيها من اختلاف النقود وقلة ما يحتاج إليه وسوء التدبير وفساد الرأي في غاية لا مرمى وراءها من عظيم البلاء وشنيع الأمر». فهذا رمي بسوء التدبير وفساد الرأي.
 بل لا يخاف من أن يذكر السلطان باسمه فيقول: «وانسحب الأمر في ولاية الأعمال بالرشوة إلى أن مات الظاهر برقوق». فهذا اتهام لوالد السلطان فرج وعهده.
ويحدِّث السلطان قائلاً: «اعلم أرشدك الله إلى صلاح نفسك وألهمك مراشد أبناء جنسك». فهذا اتهام مبطن بحاجته إلى صلاح نفسه.
ويحدث السلطان قائلاً: «اعلم وفقك الله إلى الإصغاء إلى الحق وألهمك نصيحة الخلق أنه قد تبين بما تقدم أن الحال في فساد الأمور إنما هو سوء التدبير لإغلاء الأسعار فلو وفَّق الله من أُسند إليه أمر عباده حتى ردَّ المعاملات إلى ما كانت عليه قبل المعاملة بالذهب خاصة...». فهذا اتهام صريح بسوء التدبير وعدم توفيق من أسند إليه الأمر.
وفي خواتيم كتابه قال: «فإذن ليس بالناس غلاء إنما نزل بهم سوء التدبير من الحُكَّام».

في مواجهة رجال الدولة
كما لم يخش المقريزي أهل الدولة الفاسدين، فتحدَّث عنهم تلميحاً وتصريحاً بذكر اسم الشخص وتهمته. فتلميحاً جعلهم سببين من ثلاثة أسباب أدت إلى الأزمة الحالية، فهم الذين يحتكرون الأقوات ويتحكَّمون في سعرها، وهم الذين يتسببون في غلاء الأطيان، «... أن قوماً تَرَقَّوْا في خدم الأمراء يتولَّفون إليهم بما جبوا من الأموال إلى أن استولوا على أحوالهم فأحبُّوا مزيد القُربة منهم، ولا وسيلة أقرب إليهم من المال، فَتَعَدَّوا إلى الأراضي الجارية في إقطاعات الأمراء وأحضروا مستأجريها من الفلاحين وزادوا في مقادير الأجر؛ فثقلت لذلك متحصِّلات مواليهم من الأمراء».
وقال أيضاً: «وقلَّت الدراهم لأمرين أحدهما عدم ضربها البتة والثاني سبك ما بأيدي الناس منها لاتخاذه حُلِيًّا منذ تفنَّن أمراء السلطان وأتباعهم في دواعي الترف وتأنُّقهم في المباهاة بفاخر الزي وجليل الشارة». فهذا اتهام بالترف الذي أفسد الناس.
وقال أيضا في شجاعة: «فأهل الدولة لو أُلهِموا رشدهم ونصحوا أنفسَهم لعلموا أنهم لم ينلهم ربحٌ البتة بزيادة الأطيان ولا بغلاء سعر الذهب... بل هم خاسرون، وأن ذلك من تلبيس مباشر بهم لنيلهم ما يحبون من أعراضهم، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله». وهذا سبٌّ بأنهم أهل سوء.
وسبَّ التجَّار سبًّاً مباشراً ورماهم بالغباء فقال: «فالبائس لغباوته يزعم أنه استفاد, وفي الحقيقة إنما خسر، ولسوف - عما قليل - ينكشف له الغطاء ويرى ماله قد أكلته النفقات وأتلفه اختلاف النقود... ومن يضلل الله فما له من هاد». 
وقال في التعريض برجال الدولة: «سبب غلائها أحد أمرين الأول فساد نظر من أسند إليه النظر في ذلك وجهله بسياسة الأمور وهو الأكثر في الغالب...». وتصريحاً يذكر تهمة الشخص مقرونة باسمه، فقال عن محمود بن علي الأستادار الذي ولي أمر الأموال السلطانية في زمن الظاهر برقوق: «فلما كانت أيام الظاهر برقوق وتولَّى محمود بن علي الأستادار أمر الأموال السلطانية شَرِه إلى الفوائد وتحصيل الأموال فكان مما أحدثه الزيادة الكبيرة من الفلوس». 
وبعد, فهذه هي تجليَّات الشجاعة في المواجهة عند المقريزي في كتاب «الإغاثة»، ولعل سببها هو احتراقه على ما حلَّ بقومه من مهالك، وحرصه على الصدع بالحق.
 وربما تميل الأذهان إلى أن الذي ساعده على هذه الشجاعة لين جانب السلطان فرج بن برقوق معه، حيث تولى جُلَّ مناصبه في عهده، وبذلك كان في مَنَعَةٍ من بطش رجال السلطة ممن هم أدنى مرتبة من السلطان، ويكون هذا صحيحاً لو توقَّف المقريزي عن معارضة السلطة بعد فرج بن برقوق، لكنه استمر على هذا النهج في سائر كتاباته وإن كان بكثافة أقل.