حلقة حوارية في بيروت حول الرواية اللبنانية الجديدة

حلقة حوارية في بيروت حول  الرواية اللبنانية الجديدة

هل هناك رواية لبنانية جديدة تختلف عن الرواية اللبنانية السابقة التي كتبها قبل حوالي نصف قرن توفيق يوسف عواد، ومن بعده سهيل إدريس، ثم يوسف حبشي الأشقر وآخرون؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فما ملامح هذه الرواية وخصائصها؟ وما اهتماماتها وطرائقها الفنية؟ وما مؤثراتها ومَن مرجعيتها؟ وما على الخصوص الروابط والصلات التي تربطها بالرواية العالمية؟ وهناك سؤال يثور حول تسميتها: فهل هي «رواية لبنانية» أم «رواية عربية يكتبها لبنانيون»؟

حول هذه الأسئلة دارت الندوة الحوارية التي عُقدت في بيروت وشارك فيها ناقدان بارزان من نقّاد الأدب والرواية, هما د. يمنى العيد 
ود. لطيف زيتوني، والروائية المعروفة نجوى بركات, وهي، بالإضافة إلى ذلك، تدير محترفاً للرواية ينتسب إليه طلاب من أقطار عربية مختلفة.

قبل الحرب ... بعد الحرب
وقد بدأت د. يمنى العيد الندوة بملاحظة لها حول الموضوع المطروح للنقاش، أو حول هوية الرواية الجديدة في لبنان، فهل هي «رواية لبنانية»، أم «رواية عربية» يكتبها لبنانيون?
قالت د. يمنى العيد:
- هل نقصد بـ«الرواية الجديدة» الرواية التي يكتبها اللبنانيون اليوم، أو التي كتبوها في مرحلة معيّنة تمتد من أواخر الثلاثينيات حتى زمن الحرب في لبنان؟ بداية أنا أفضّل بدلاً من عبارة «الرواية اللبنانية» مصطلح «الرواية العربية التي يكتبها اللبنانيون»، لأن هوية الرواية تتبع اللغة ولا تتبع الحكاية التي تحكيها, الرواية التي يكتبها لبنانيون هي «رواية عربية» إنما يمكن أن تكون رواية مختلفة عن الرواية التي يكتبها مصريون أو مغاربة أو غير ذلك.
ولكن هل الرواية التي عندنا هي رواية مختلفة أم لا? يمكننا أن نميّز بين مرحلتين: مرحلة ما قبل الحرب اللبنانية ومرحلة الرواية التي كتبها لبنانيون في الثمانينيات، بعد الحرب. نعم هناك اختلاف، وهناك الرواية التي يكتبها اللبنانيون في الوقت الراهن.
إذا عدنا إلى الرواية التي كتبها اللبنانيون قبل الحرب، نلاحظ أن لها خصائص تؤكد الحكاية أكثر مما تؤكد الشكل أو البنية الفنية. كما أن الشخصيات فيها هي شخصيات قوية مناضلة.
إذا أخذنا «الرغيف» لتوفيق يوسف عواد مثلاً، أو روايات سهيل إدريس، نلاحظ وجود تأكيد موقف معين, أيديولوجي أو نضالي، شخصية تتبنى النضال.
في رواية «الحرب»، وفي ما يتعلق بتقنية سردها، نلاحظ كلاسيكيتها. رواية كلاسيكية بمعنى أن لها مقدمة وحبكة، ولها نهاية، سواء كانت هذه النهاية درامية، أو ثورية، أو تصل إلى الهدف الذي تسعى إليه.
رواية الحرب اختلفت بنسبة أساسية. اختلفت من حيث الحكاية التي تحكيها، ومن حيث بنية العمل الروائي ككل. نلاحظ - مثلاً - بالنسبة للشخصيات، أن هناك شخصيات عبّرت عن عدم سويّتها. أشير إلى رواية إلياس خوري «الوجوه البيضاء»، ورواية حنان الشيخ «حكاية زهرة»، ورواية رشيد الضعيف «فسحة مستهدفة» وروايات ربيع جابر التي كتبها في الحرب ورواية «حجر الضحك» لهدى بركات... هذه الروايات عبّرت فنياً، وليس فقط على مستوى الحكاية، عن الخلخلة التي حصلت في زمن الحرب، والتي استهدفت ليس فقط البنى العمرانية، إنما أيضاً هذا الخراب الذي أصاب المدينة. القيم الثقافية، قيم البطولة، قيم الإرادة، أصيبت. ترك ذلك أثره على الشخصية في الرواية التي كتبها لبنانيون في زمن الحرب.
في مرحلة متأخرة نسيباً، بعد انتهاء الحرب، في التسعينيات، بدأ بعض الكتّاب يعودون إلى التاريخ. مثلاً ربيع جابر كتب عن بيروت، كان هناك اهتمام بما يعانيه اللبنانيون، في الواقع الشعبي: نجد ذلك في «مريم الحكايا» لعلوية صبح. اهتمت هذه الروائية بما عاناه أهل الجنوب، الناس العاديون.
ما يكتبه الروائيون اللبنانيون الآن له طابع مختلف. مازال يحكي عن الحرب وعن المآسي، لكن لم ألحظ خصائص بنائية مختلفة من حيث علاقة هذه الرواية بالرواية التي كتبها اللبنانيون في زمن الحرب وما بعد الحرب بالنسبة للخصائص البنيوية. ويمكن أن نقول في هذا الدفق أو الإقبال على كتابة الرواية:  إن هناك نوعاً من الاستسهال، ونوعاً آخر عند قسم كبير من الروائيين إلى تحويل الرواية من عملية بناء فني إلى مجرد حكاية، أو مجرد خطاب. ولكن ليس كل الروايات على هذه الصورة.
ثمة روايات أخرى كتبها لبنانيون تميّزت ولم تتناول الحرب. أنا أشير إلى «باص الأوادم» التي كتبتها نجوى بركات، وإلى «لغة السيرك» التي أعجبت بها كثيراً ولها خصوصية. وهناك روايات للدويهي وحسن داود. ثمة ظاهرة روائية تميّزت، ومن الممكن الكلام عنها كرواية لبنانية، أو كرواية عربية كتبها لبنانيون.

التخفف من الأيديولوجية
نجوى بركات: أنا روائية ولست ناقدة، ومقاربتي لن تكون مقاربة نقدية، إنما هي استشفاف لملامح عامة للرواية اللبنانية من موقع همّي ككاتبة.
سأتحدث عن  الرواية التي  نشأت مباشرة خلال الحرب وما بعده، أي الرواية الحديثة المعاصرة التي نعرفها الآن مع الأسماء الدارجة التي لم تأت بعدها أسماء كثيرة. جيلي أنا ما بين جيلين، وما بعدي هناك ربيع جابر، ولينا هويان الحسن. لا يوجد كمّ كثير في الكتابة الروائية اللبنانية خارج الأسماء المكرّسة والمعروفة.
من خصائص الرواية اللبنانية، من وجهة نظري تخفّفها وتخلّصها من القضايا التي حولنا. الحرب اللبنانية كسرت في نفوسنا نوعاً من الجديّة في التعاطي مع القضايا العربية. نحن نملك مسافة كبيرة جداً بسبب ما كسرته الحرب من أوهام لها علاقة بكل الأقانيم التي تسيطر على المشهد الأدبي الثقافي في البلدان العربية بشكل عام. الرواية اللبنانية لا تحكي عن قضية نضالية، ليس فيها ثيمة نضال، ما عدا استثناءات قليلة منها عند إلياس خوري الذي حمل همّ القضية الفلسطينية.
يمنى العيد: توفيق يوسف عواد حكى في روايته «طواحين بيروت» عن قضايا نضالية.
نجوى بركات: صحيح. ولكني أحكي عن جيل ما بعد جيل يوسف حبشي الأشقر. أعتقد أن  هناك تخفّفاً من كتابة «أيديولوجية»، واتجاهاً نحو كتابة ذات صوت خافت تحمل قضايا ذاتية، حميمية، مثل ما نلمسه في روايات حسن داود وعلوية صبح وهدى بركات، وكلك عند رشيد الضعيف بامتياز.
نحن مع انبثاق صوت فردي ليس حاضراً كثيراً في  الرواية العربية. أعتقد أن هذا الصوت يهب الرواية اللبنانية خاصيّة تتميز فيها. أنا لا أعتبر أنني كتبت رواية لبنانية، وإنما أنتقل بين همّ عربي وهمّ لبناني.
لم يشغلنا التراث كثيراً، لا التراث العربي ولا التراث السردي. في العراق، وفي مصر، ثمة محاولة لإعادة ربط السرد العربي المعاصر بالسرد حسب ما تناقله التراث العربي وأعطاه شكلاً. أعتقد أن الرواية اللبنانية تفلتت إلى حدّ بعيد من هذا الهمّ.
والرواية اللبنانية متخففة أيضاً من همّ الماضي، تحدّثنا عن جيل توفيق يوسف عواد وعن جيل يوسف حبشي الأشقر وسهيل إدريس. أنا أعترف بفضلهم، ولكن تجاربهم كانت صغيرة إلى حدّ ما، ولا أجد أن وراءنا ثقلاً يكبّلنا، أو ينسبنا إليه، أو يجبرنا على البدء من نقطة ما. كأننا أحرار من هذه الجهة. وهذا الوضع ينطبق على الوضع اللبناني بكامله، وليس الروائي فقط أو الأدبي. إنها الخاصية اللبنانية تنطبق على الرواية كما تنطبق على الإنتاج السينمائي والمسرحي. ثمة حرية في عدم الانتماء لماضٍ ما، وهذا، كما يقولون، سيف ذو حدّين، لأن له نواحي إيجابية، أي إنك حرّ في أن تبدأ من نفسك. كما أن له نواحيه الأخرى الخفيفة التي تجعلك أحياناً تدور في فلك يضفي عليك نوعاً من الخفّة غير المستحبة دائماً. الخفة بمعنى السخف الناتج عن سطحية التجربة وسواها.

رواية عربية بهوى لبناني
بالنسبة للرواية اللبنانية، هذا هو إحساسي ككاتبة. أعتقد أن لروايتنا هاتين الخاصيتين اللتين تميزانها عن الرواية  العربية بشكل عام. مع موافقتي على الوصف الذي ذكرته يمنى العيد، وهو أن الفيصل الذي يحدّد هوية الرواية هو اللغة. نحن نكتب رواية عربية بهوى لبناني...
< العربي: هل تقصدين أن السمة العامة للرواية اللبنانية هي الذاتية؟
- لا، ليس الذاتية، بل صوت فردي قادر على أن يلمس مع الجماعة.
الروائي لا يمثل بالضرورة جماعته، أو طائفته، أو عشيرته، أو عائلته، حتى ولو كانت هذه موضوع روايته. هو يكتب عنها ولكن بمسافة ما. ليست هي همّه. نحن أكثر التصاقاً بالرواية المعاصرة بغثّها وسمينها. مازلنا نحمل هموماً ما مجتمعية، إنما أعتقد أن صوت الفرد أكثر ظهوراً في الرواية اللبنانية منه في الرواية العربية بشكل عام.
يمنى العيد: أنا لا أعتبر أن الرواية العربية بنت التراث، بل هي فن حديث. كل الروايات التي كتبها العرب هي فن حديث ولا علاقة لها بالتراث.
في ما يختص بالصوت الفردي والهمّ العربي، أنا أعتقد أنه حتى الرواية المصرية دخلت في همّها، كما دخلت الرواية اللبنانية بالهمّ الخاص بها. كتبت هذه الرواية بصوت متفرّد. صنع الله إبراهيم فعل الشيء نفسه. لا نستطيع أن نقول إن صنع الله إبراهيم لم يكن عنده صوت فردي. كان همّه هو قضية مصر. والرواية التي تكتب في المغرب عندها صوت فردي هو - مثلاً - الأمازيغ. إنه همّ محلي يختلف عن الهمّ العربي العام.
الرواية كفنٍّ لا يمكن أن تكون رواية فنية ناجحة إلا إذا كان فيها الصوت الفردي الذي من فرديته ينطلق إلى الإنساني العام.

صوت «الأنا» الإنسانية
وأود أن أضيف أيضاً أن الرواية التي كتبها اللبنانيون في زمن الحرب، وهذا مستغرب، لم تتعرض للاجتياح الإسرائيلي. لا حضور لعدو غزا لبنان عند الروائيين اللبنانيين ما  عدا هدى بركات، وبشكل يسير جداً، في روايتها «حجر الضحك».
ثمة صوت فردي في الرواية اللبنانية، لكن «الأنا» هنا هي «أنا» إنسانية. «الأنا» تنطلق من فرديتها وما تعانيه هو قضية أهم من فرديتها، تذهب بها إلى الإنساني العام.
لطيف زيتوني: في مقارنة مرحلتين من مراحل الرواية اللبنانية، أود أن أشير إلى أن هذه الرواية شهدت مشاركة نسائية واسعة. في الستينيات كانت هناك روائيات لبنانيات مهمات مثل ليلى بعلبكي ومنى جبور وليلى عسيران. أتحدث عن الانبثاق الطالع من المجتمع. كانت الرواية اللبنانية من البداية رواية متنوعة. توفيق يوسف عواد طرح في «الرغيف» قضية عربية، بينما طرحت ليلى بعلبكي قضية وجودية فيها شيء من التعبير عن  الفرد، الأمر ذاته نجده في كتابات منى جبور، وأخذت ليلى عسيران منحى آخر في الدفاع عن القضية الفلسطينية... كل هذه الروايات كانت رواية صوت واحد يطغى عليها المنحى الوجودي. والتقنيات المستخدمة فيها كانت تقنيات كلاسيكية.
إذا أردنا أن نتحدث عن مرحلة ثانية في الرواية في لبنان، عن التغيير الذي طرأ، نجد أنه حصل في السبعينيات. ومع اشتداد الحرب تغير الموضوع، صارت خلفيات الحرب أو نتائج الحرب، أو الأجواء اليومية الشعبية اليسيرة والفردية التي يعيشها فرد واحد في الحرب، كما عند كتابات رشيد الضعيف، هي الموضوع. الحرب كان لها حضور مختلف في الرواية اللبنانية. كانت حاضرة باستمرار ومازالت حاضرة حتى في النتاج الذي يصدر اليوم. لهذا السبب هناك مَن يقول إن الرواية اللبنانية نشأت مع الحرب، وإنها بنت الحرب، ربما لكثرة ما كُتب عن الحرب من روايات.
هؤلاء الكتّاب أخذوا بالتقنيات الحديثة في الكتابة، وهي تقنيات ما بعد الحداثة، بدءاً من إلياس خوري الذي استخدم تقنيات يمكن أن ننسبها إلى ما بعد الحداثة، وسواه من الكتّاب.
هناك تقنيات جديدة دخلت إلى الرواية لم تكن موجودة فيها. هذه التقنيات يمكن من خلالها أن نصنّف روايات الحرب بأنها مرحلة ثانية.

تقنيات ما بعد الحداثة
هناك اليوم مرحلة ثالثة هي مرحلة ما يكتبه الجيل الجديد، جيل الشبان. هذا الجيل ينطلق من تقنيات حديثة، ولكنه لم يعد يريد أن يكتب عن الحرب، صار يبحث عن موضوعات أخرى، لهذا نلاحظ أنه في الروايات التي صدرت بعد سنة 2000، وأكثر كتّابها غير معروفين إلا قليلاً، وهم يكتبون ضمن تقنيات ما بعد الحداثة، يبحثون دائماً عن موضوعات جديدة.
لهذا لا يمكن أن نتحدث اليوم عن موضوع طاغ على الرواية. لكن يمكن أن نتحدث عن رواية ما بعد الحداثية كما رواية الحرب تقريباً لكن بموضوعات مختلفة تماماً.
يمنى العيد: مع موافقتي على ما عرضه 
د. لطيف زيتوني، أضيف أن ما كتبه روائيو قبل الحرب، مثل ليلى بعلبكي وليلى عسيران ومنى جبور، لم يشكّل ظاهرة. الرواية التي شكّلت ظاهرة في اللغة العربية كانت الرواية المصرية. الأعمال التي ذكرها لهؤلاء الروائيات اللبنانيات كانت أعمالاً فردية. كانت هناك أعمال روائية أخرى لتوفيق يوسف عواد وسهيل إدريس وليلى بعلبكي، ولكنها كانت أعمالاً قليلة تعد على الأصابع.

الذات الأنثوية
بالنسبة للرواية الحالية عندنا، أعتقد أن هناك تركيزاً على الذات الأنثوية، وهو ما يشكّل إضافة للرواية العربية. وكما سبق أن ذكرت، هناك اهتمام بالحكاية بما هي حكاية الذات. ولا أعتقد أن هناك ميلاً ما إلى ما بعد الحداثة بالنسبة للروايات اللبنانية التي تُكتب حالياً، وهذا الميل يشكّل ظاهرة. الميل هو لأسلوب الحكاية. وبعض هذه الروايات مازال يحكي عن الحرب.
< العربي: عندما تتحدثين عن «الحكاية» 
د. يمنى، هل تقصدين نوعاً من الرواية الكلاسيكية كالتي كان يكتبها الفرنسي بلزاك؟
يمنى العيد: أقصد تأكيد سرد شبه خطي: غلبة الأحداث وتتابعها، وللشخصيات فيها مركز مهم، وهناك تأكيد الحبكة. وهناك الراوي الذي يحكي بضمير الأنا. رواية الأنا/الذات أكثر من روايات الحرب.
إذا أخذنا روايات إلياس خوري، أو روايات هدى بركات أو نجوى بركات، أو حسن داود، نجدها تتحدث عن فضاء مجتمعي معين يكوّن عناصر الرواية وعالمها.
في الرواية التي يكتبها الآن الجيل الجديد، هناك غلبة لـ«الأنا»: حكايات تخصهم، علاقات في حدود شبه ضيقة، لا تتجاوز عالم العائلة أو الأهل والأقرباء والمدينة.
ولا ننسى أن هناك اهتماماً كبيراً بالجسد لدى هذا الجيل الجديد من الروائيين، ولا أقول هذا من موقع المأخذ. ثمة اهتمام بالجسد، بحرية المرأة، بحرية الاختيار، بحرية الحياة في علاقتها مع الآخر. نجد هذا بارزاً في الرواية التي يكتبها اللبنانيون، وكذلك في الرواية التي يكتبها المغاربة. قرأت أخيراً روايات لبنانية ومغربية فيها إعادة اعتبار للجسد في علاقته مع الآخر. إعادة اعتبار واهتمام بالحب وبالعلاقة بين الجنسين، بمتعة الفرد في أن يعيش جسده.
< العربي: أليس هذا ملاحظاً في الرواية العربية بوجه عام؟
نجوى بركات: الرواية اللبنانية سبّاقة في هذا المجال، وهي تذهب باتجاه إيجاد صوت فردي ذاتي يقطع مع الجماعة، مع سقف أن المقبول يقطع مع المشرّع والمحلّل والمسموح به. تجاوزت الرواية اللبنانية - على ما أعتقد - الملاحظة التي يشير إليها بعض النقّاد. أي فكرة أن هذه الرواية جريئة تكسر «التابوات». الرواية والرواية اللبنانية بشكل خاص، قامت بخطوات كبيرة ومهمة في تجاوز المشهد الثقافي بشكل عام.
الرواية ليست بنت واقعها الثقافي، والرواية اللبنانية أكثر من غيرها تجاوزاً لهذا الواقع.
أنا لدي محترف للرواية وأعمل كثيراً مع الشباب، ومن وحي ذلك لاحظت وجود نزعة نحو البدعة، أو الاختلاف. هم لم يعيشوا الحرب، بل تبعاتها وذيولها. يعانون مشكلة ما تجاه الأجيال التي سبقتهم، خروجهم من تحت هذا السقف يدفعهم نحو التجريب في الشكل، وفي محترفي ألاحظ أن الروائيين المصريين والعراقيين واللبنانيين أول ما يفكرون فيه هو الخروج على النمط السابق، أي التغيير. هم يحاولون البحث عن صوت خاص بهم، وهذا البحث يتم عبر إيجاد شكل جديد، والشكل الجديد ليس دائماً متاحاً.

دروس تجارب الآخرين
ثم إن الرواية تعلمت من تجارب الآخرين، لقد عادت إلى الحكاية في الأخير، الرواية حكاية. رجعت الرواية إلى القص، إلى أصول ما في السرد، عادت تشتغل على الحبكة، روايتنا اللبنانية الجديدة هي بنظري رواية متينة، متماسكة، قائمة على أسس، على أعمدة. وهي رواية ثرية لأنها متنوعة. كل روائي لبناني خلق عالماً، أو صوتاً خاصاً به. لا تجد روائياً عندنا يشبه الآخر. لا تتكرر التجربة أو التجارب. الرواية المصرية لها خصوصية. عندما أقرأ رواية مصرية أعرف أنها مصرية، لا لأنها تتوسل العامية المصرية في الحوار، بل لأنها وليدة مكان مسيطر عليها. الرواية اللبنانية استفادت من خراب المكان. كأن خراب المكان أعطاها حرية في أن تبني أمكنة خاصة بها. كل رواية عندنا عبارة عن عمارة لها هندستها وشكلها وطبيعتها ومناخها وروائحها.
< «العربي»: أليس من مسرى معين بنظرك للرواية اللبنانية؟
نجوى بركات: لا. لا نستطيع أن نقول إن هناك خاصية لبنانية لروايتنا خارج ما ذكرتُه. عندما نذكر اسم روائي لبناني ما، يحضرنا أسلوب وعالم وموضوعات لا تشبه أبداً اسم أو أسماء الروائيين اللبنانيين الآخرين. وأحياناً، وحتى ضمن المشروع الروائي الواحد، تجد تنوّعاً.
يمنى العيد: قد يكون من المفيد أن نعطي مجالاً للجيل الناشئ، لكي يقدم تجربة مختلفة على المستوى الفني. أشعر أن المعاناة القاسية التي عاشها الجيل الروائي الجديد، وورثها من الأهل، دفعته لأن يروي أو يحكي كما يشاء. أريد أن أتحدث عن نفسي، عن حياتي. هذا الأمر نابع من تأكيد الذات. ثمة نقلة من عالم الحكي أو عالم العيش إلى عالم الكتابة كـ«شرعنة» لتأكيد الذات وإعطائها حق الوجود. بعد كل ما حدث في لبنان: الخراب، الدمار، معاناتنا في الحياة اليومية، كأني بالروائي يريد أن يقول: أنا أريد أن أحيا، أنا موجود. يعطي ذاته حق الوجود بما هي عليه وبما تعانيه. مثلاً: مايا الحاج كتبت رواية حول الأيديولوجيا الدينية التي تُسيَّس، وأبدت رأيها بكل صراحة. كأنها تقول: هذا ما أريده ولا أريد سواه. ثمة نوع من إثبات الروائي لحضوره ضد ما يراه مخالفاً لرأيه أو لما يرى أنه الحقيقة.
من جهة أخرى، وخلافاً لما ذكرته نجوى، لا أرى أن الرواية مشتركة. إذا أخذت مثلاً، الروائي إبراهيم أصلان، أشعر أنني أقرأ إبراهيم أصلان لا سواه. إذا قرأت الروائي محمد البساطي أجد نفسي أمام محمد البساطي لا غيره.
نجوى بركات: أنا لم أقل إن الروائيين المصريين يشبه بعضهم بعضاً، وإنما قلت إن هناك خصوصية مصرية بالمعنى الجميل للكلمة، خصوصية تعود إلى المسرود.
يمنى العيد: إذا عدنا إلى الرواية المصرية، أو الرواية اللبنانية، نجد أن بإمكاننا أن نتحدث عن خصائص في مرحلة تخص الرواية العربية بشكل عام وليس فقط الرواية اللبنانية.
نجوى بركات: ثمة إحساس بالخسارة عند هذا الجيل الروائي. نوع من الحزن المحلي. أنا كقارئة أشعر أن هناك شيئاً يخص المصريين. لا أقصد بذلك أنهم كروائيين يشبه بعضهم بعضاً. أعرف جيداً أن تجاربهم مختلفة.
لطيف زيتوني: إذا رافقنا مسيرة الرواية اللبنانية عبر المراحل الثلاث التي أشرت إليها، نجد اختلافات بينها. الوجودية عندما نهضت في أوربا، جعلت المرء يكفر بكل القيم التي قام عليها المجتمع الأوربي. الوجودية طرحت ذهنياً هذا الرفض، الروائيون اللبنانيون، سواء كانوا يوسف حبشي الأشقر أو ليلى بعلبكي وزميلاتها، كان يطغى عليهم التفكير الوجودي، أي الرفض لكل القيم. لكن هذا الرفض كان رفضاً ذهنياً. وجاءت الحرب اللبنانية فأثبتت أن هذا الرفض كان في محله. الحرب اللبنانية كانت بالنسبة للروائيين اللبنانيين إسقاطاً واضحاً وعملياً لكل ما قامت عليه تربيتهم وتراثهم وفهمهم للحياة. وما بين سقوط القيم نظرياً إلى سقوطها عملياً، أصبح الروائي اللبناني يشعر بأنه إنسان فردي لا علاقة له بأي شيء سابق، وعليه أن يبني نفسه بنفسه. فهو حرّ وعليه أن يبحث عن طريقه من دون أي مرجعية. سقطت المرجعية النظرية.

الاهتمام بالمهمشين 
لقد لاحظت لدى بعض الروائيين اللبنانيين الجدد، اهتماماً بالمهمّشين وهو ما لم يكن في الرواية اللبنانية السابقة. رواية رشيد الضعيف الأخيرة «هرّة سسيكيريدا» تهتم بالمهمّشين. شخص ابن خادمة غير لبنانية يقيم علاقة مع امرأة مشلولة. هذه نماذج إنسانية لم يكن الروائيون اللبنانيون في السابق يتحدثون عنها. نجد اليوم روايات تتناول عمال النفايات. يوجد الآن هذا المنحى: الاهتمام بالمهمّشين لا ذهنياً بل فعلياً.
<العربي: إذا ذكرنا عبارة «الرواية الفرنسية الجديدة»، تداعت إلى الذهن أسماء آلان روب غرييه وناتالي ساروث ورفاقهما، كما تتداعى إلى الذهن طرائق وأساليب فنية وغير فنية في كتابة الرواية. السؤال هو: هل للرواية اللبنانية الجديدة أساليب فنية تختلف عن أساليب الروائيين اللبنانيين السابقين؟ وكيف يتبدّى ذلك؟
يمنى العيد: أنا أعتقد أن المراحل التي مرّت بها الرواية العربية عامة واللبنانية خاصة، مختلفة عن مراحل تطور الرواية الغربية، وإن كانت هذه الرواية تستفيد من تجربة الرواية في الغرب.
بداية كان عندنا الرواية الكلاسيكية التي ازدهرت وتبلورت مع نجيب محفوظ في «الثلاثية» في ما بعد. بعد ذلك كان عندنا مرحلة التجريب. لا نستطيع أن نتحدث عن رواية عربية أو لبنانية حديثة كما حصل في أوربا، بل نستطيع أن نتحدث عن رواية تجريبية. رواية التجريب كان همّها أن تتحرّر من التقليد من ناحية، وأن تبحث بذاتها عن وسائل تعبير فني باعتبار أنه ليس عندها رواية سابقة. روايتها السابقة، كما كان يقال، كانت تحاكي بكلاسيكيتها الرواية الغربية. وأنا لا أعتبر ذلك مأخذاً، كما لا أعتبر أن هناك محاكاة. كانت الرواية العربية واللبنانية تحاكي الرواية الغربية تقنياً. رواية التجريب كانت تقول على لسان كتّابها: «كيف أقول حكايتي؟ عندي حكاية مختلفة عن الحكاية التي تحكيها الرواية الغربية. هذه الحكاية تقتضي طريقة قول، كيفية قول». هنا كان التجريب وكان التنوّع. لم نستطع أن نصنع منهما منظومة للرواية العربية، منظومة تصف الرواية العربية في مسألة معينة.
لذلك أعتبر أن الرواية التي كتبها اللبنانيون في زمن الحرب شكّلت ظاهرة متفرّدة، من ناحية، لقوانين أو لقواعد الكتابة الكلاسيكية، كما شكّلت محاولة تجريب مختلف عن التجريب الذي قامت به الرواية العربية من ناحية أخرى. محاولة تجريبية مختلفة لتقول حكايتها. وفي ما هي تحاول هذه الحكاية التي تعيشها، استطاعت بصدق فني أن تقدم شخصيات مختلفة، أن تقدم المشهد. لم يعد هناك سرد. صار هناك حوار، وبعد ذلك نشأت الرواية عن طريق «الأنا». الراوي/الأنا. الراوي الذي ليس لديه موقف. الراوي الذي يدع الشخصيات تحكي.
بهذا المعنى لا نستطيع الحديث عن «رواية جديدة» كما حصل في فرنسا وأوربا.
قد نجد خصائص أو ملامح مشتركة بين الرواية الحديثة التي كتبها اللبنانيون في زمن الحرب، والرواية الغربية الحديثة: تقنيات البناء التي تتعلق ببناء الشخصية، بمفهوم الراوي، بمفهوم الزمن السردي، بتقنيات عامة مطروحة في الطريق. المهم كيف توظفها، كيف تعيد صياغتها باستعمالها في حكايتك أنت.

مسألة «الكيف» الفنية
ثمة إعادة صياغة للمفاهيم العامة، للتقنيات العامة، ومن هنا أؤكد على الحكاية وعلاقتها بكيفية القول. العلاقة بين ما نقول وكيف نقول. وهذا ما طرحه عبدالرحمن منيف الذي قال: كيف أقول؟ عندما كان يريد أن يحكي عن «مدن الملح»، كان لديه همّ كيف يروي، من أين يأتي بتقنيات ليقول حكايته، حكايته الثرية، كي لا يكون مباشراً. لم يكن يريد أن يسرد تاريخاً.
صنع الله إبراهيم أيضاً قال: «كيف أقول؟»، روائيون لبنانيون قالوا أيضاً: كيف نروي؟ مثل إلياس خوري.
هذه «الكيف» الفنية ليست مسألة هينة وليست مستقلة ولا معزولة عما نحكيه أو نقوله، أتحدث هنا عن خصوصية البناء وعلاقته بخصوص الحكاية.
لطيف زيتوني: أعتقد أن الحديث عن الرواية الفرنسية اليوم كالحديث عن رواية فرنسية في الماضي. يمكن أن تتحدث عن ناتالي ساروث وعن أسماء أخرى. لكن اليوم هناك تأثير كبير للرواية الأمريكية على الرواية الفرنسية. لم يعد هناك استقلال يعطي للرواية هوية مستقلة. هذا الانفتاح الحاصل بين الثقافات والآداب جعل القيمة لا للبيئة بل للفرد. قواعد الكتابة وتقنيات السرد باتت أموراً عامة شائعة. لكل روائي فكهته وأسلوبه وخلفيته وماضيه. ناتالي ساروث لم تكن فرنسية في الأصل، وقد جاءت إلى فرنسا ومعها كل ماضيها، وأدخلته في رواياتها، كثير مما يرد في أعمالها الروائية يحمل شيئاً من هذا الماضي. هناك نكهة في ساروث هي من طبيعة هذا الماضي، على أنها بلا شك روائية مقتدرة.
لكن صار من الصعب اليوم حتى أن تتحدث عن رواية لبنانية منفصلة عن الرواية الأجنبية، لأن الروائيين اللبنانيين الكبار كلهم يقرأون ما يصدر من روايات في الخارج. هؤلاء يقرأون ما يصدر في مصر وفرنسا وإنجلترا وأمريكا وما يصدر في أمريكا الجنوبية. إن الكاتب المقتدر الذي يمتهن كتابة الرواية يبحث عن تطوير نفسه من خلال اطلاعه على كل ما يستجد بـفنه في العالم، بعد أن تيسّر هذا الاطلاع بواسطة وسائل الاتصال الحديثة كالإنترنت.
يمكن أن نتحدث عن خصوصية عامة بسيطة للرواية عندنا، ولكن لا يمكننا أن نتحدث عن هوية كاملة منفصلة كما كان عليه الأمر في الماضي.
في ما يتعلق بالرواية اللبنانية، يمكن القول إنه ليس للبنان الطابع الذي لمصر مثلاً. مصر لها طابع خاص في جوانب شتى. ثم طابع وطني مصري مستمر ليس للبنان مثله. لبنان دولة متشظية، وبالتالي فإن الشعور اللبناني بالانتماء هو شعور ملتبس. ولهذا الشعور انعكاساته في الرواية اللبنانية. التشظّي في الرواية اللبنانية مردّه إلى التشظي في الهوية، في الانتماء، في التعامل مع الأرض، في التعامل مع البيئة.
ثم إن الواقع اللبناني يسمح بقدر واسع من الحرية، وهذا الواقع سمح لكل كاتب أن يبني ثقافته وأن يطرح في رواياته ما يشاء من دون أن يشعر بأن هناك «تابوات» عليه أن يتقيد بحدودها.
نجوى بركات: أولاً أنا أخالف د. زيتوني حول «التشظي في الواقع اللبناني». أنا أعتقد أن تشظّي الواقع اللبناني انعكس تماسكاً على الرواية اللبنانية. الرواية اللبنانية ليست رواية متشظية. 
لقد عبّرت عن هذا التشظي بتماسك. الرواية اللبنانية متنوعة وثرية، وكل روائي أوجد خصوصيته السردية. الروائي المصري ابن واقع آخر لا يستطيع الخروج منه. وهذا ما يمنحه جذوراً، ويربطه بمكان لا يتجاوزه.
هذا اللاانتماء اللبناني جعل كل لبناني حرّاً في نفسه ومستقلاً في خلق عالمه الروائي، الخاص به.
في ما يتعلق بالرواية اللبنانية أرى أنها رواية حديثة بالمعنى الإيجابي للكلمة. الرواية الحديثة في الغرب، ونموذجها الرواية الفرنسية، عندما لجأت إلى التجريب، دخلت في طريق مسدود، وهي إلى اليوم، تعاني هذا التجريب. ثم جيل كامل في فرنسا يرى أن تأثير الفلسفات الحديثة، كالتفكيكية والبنيوية والألسنية، كان مضراً بالرواية.
ثمة دراسة حديثة عن الرواية الفرنسية ترى أن رولان بارت واحد من الذين أجهزوا على الرواية الفرنسية لأنه اعتبر أن المؤلف ليس مهماً، بل النص. مثل هذا التنظير قطع الصلة بين الرواية وبين أهلها ومرجعيتها. صار بإمكان أي شخص أن يحكي تجربته بلا أي عمود فقري للنص. وخارج بعض الأسماء الروائية الفرنسية، وهي قليلة، لم يعد هناك رواية فرنسية ذات شأن. الرواية الفرنسية تعاني اليوم أزمة بسبب البدع التي تسرّبت إليها. في حين أن الرواية اللبنانية لم تدخل عالم البدع التي نشير إليها. ثم فرق شاسع بين الحداثة وبين البدعة، بين التجريب بمعناه الإيجابي، وبين الهرطقات على أنواعها.
لطيف زيتوني: لم يكن تركيز الناقد الفرنسي رولان بارت على النص سبباً في مقتل الرواية الفرنسية، عندما دافع بارت عن نصّ آلان روب غرييه، أبرز الأسماء في الرواية الفرنسية الجديدة، وهب هذا النص قيمة إضافية، كما وهب قيمة للرواية الجديدة. وصارت الموضة تقضي بأن يقف المرء مع هذا الاتجاه الروائي الذي ساد.
شكل الرواية الجديدة تمثل في قتل الشخصية فيها. بارت قتل ما يسمّى الروح التي تتضمنها. حصل نوع من القطيعة بين القارئ الذي كان يقرأ الرواية ليتسلى، وبين رواية باتت موجهة لنخبة متخصصة.
آخر ما كتبه غرييه نوع من سيرة ذاتية تحدث فيها عن حياته، وكأنه يريد أن يقول إن نهج «الرواية الجديدة» التي كان هو أحد رموزها، قد وصل إلى طريق مسدود.