بدوي الجبل ورائعتُه «البلبل الغريب»

بدوي الجبل ورائعتُه «البلبل الغريب»

بين عامي 1904و1981 عاش نابغة الشعر العربي في سورية بدوي الجبل، وهو الاسم الذي طغى على اسمه الأصلي، محمد سليمان الأحمد، منذ نشرت أولى قصائده في جريدة «ألف باء» الدمشقية، مذيّلة بهذا التوقيع، وعندما سعى الشاعر الشاب إلى صاحب الصحيفة يسأله عن هذه التسمية أجابه بقوله: «إن الناس يقرأون للشعراء المعروفين ولستَ منهم، وهذا التوقيع المستعار يحملهم على أن يقرأوا الشعر للشعر، وأن يتساءلوا: من يكون هذا الشاعر المُجيد؟ وأنت في ديباجتك بداوة، وأنت تلبس العباءة، وتعتمد العقال المقصّب، وأنت ابن الجبل».

غلب اللقب على الاسم، وتوالت قصائد الشاعر ومشاركاته في المحافل الأدبية والوطنية والقومية، والتفت إليه الناس، ثم التفت إليه الزمان، فإذا به شاعر سورية الأول، بل شاعر العربية، في كل مناسبات الإبداع الشعري، وإذا به صوت سورية في معترك النضال القومي من أجل الحرية والاستقلال، ومن أجل أعياد الأمة ومواقفها، منذ ثلاثينيات القرن الماضي، حتى ختام ستينياته. داعياً إلى الوحدة العربية، وتمجيد الثورة العربية، واللوعة والتفجع لحدوث النكسة. وهو الأمر الذي عرّضه للتشريد والنفي والاغتراب، بعيداً عن الوطن والأهل، لكنه فجّر في شعره الحنين العاصف والشوق المزلزل، والحزن العتيق العميق. 
ورغم مشاركاته السياسية والبرلمانية، في لحظات فاصلة من تاريخ سورية الحديث، فقد ظل الشعر فيه جوهره وحقيقته، وعندما انحسر غبار هذه المشاركات، بقي شعره المتوهِّج، يتغنى بالشام وبكل الوطن العربي، منعطفاً إلى الغوطتين وبردى ولبنان والأرز ودجلة والفرات والنيل، وزاده حسّ الاغتراب - حتى وهو في وطنه وبين أهله - رقة وانجذاباً وتعلقاً، وحلولاً - كحلول الصوفية - في كل ما يمثله هذا الوطن الكبير من وجوه وعالم وذكريات. 
ومن بين قصائد بدوي الجبل، تستوقفنا قصيدته البديعة «البلبل الغريب»، وفي عنوانها ما يدل على الغربة والاغتراب، والحنين والشوق. وهو مجال رحب وفسيح في شعره كله، يتوهج بالأماني والتطلعات، ويدْمى بالانكسارات والهزائم، ويتفجر بالصبر والصمود والنضال، والتفاؤل واليقين الراسخ في الانتصار. ومع غرْبة هذا البلبل عن عشّه الأثير، هناك انعطافته إلى عالم الطفولة، متمثلاً في افتقاده لحفيده الأصغر محمد، الذي يصوغ فيه ما لم يكتبه شاعر في ابن أو حفيد. لقد أبدع الشاعر قصيدته وهو في واحدة من عاصفات اغترابه الطويل بعيداً عن الوطن والأهل، في «فيينا»، لكن وجدانه المترع يطير به ويحمله إلى الأرض التي قدّس ترابها، والسماء التي أظلت دوماً شاعريته وكبرياءه، وزهوه وتطلعاته.
يقول بدوي الجبل: 
سَلِي الجمر، هل غالى وجُنَّ وعذّبا
كفرتُ به، حتى يشوق ويعْذُبا
ولا تحرميني جذوةً بعد جذوةٍ
فما اخضلّ هذا القلب حتى تلهّبا
وما نال معنى القلب إلا لأنه
تمرّغ في سكْب اللظى وتقلّبا
هبيني حزنا، لن يمرَّ بمهجةٍ
فما كنتُ أرضى منكِ حزناً مُجرّبا
وصوغيه لي وحدي فريداً وأشفقي
على سرّه المكنونِ أن يتسرّبا
مصُوناً كأغلى الدرّ عزَّ يتيمهُ
فأُودعَ في أخفى الكنوزِ وغُيّبا
وصوغيهِ مشبوب اللظى، وتخيَّري
لآلامه ما كان أقسى وأَعْزبا
وصوغيه كالفنان يبدعُ تُحفةً
ويرمقُها نشوانَ، هيمانَ، مُعجبا
فما الحزن إلا كالجمالِ، أَحبُّهُ
وأترفُه، ما كان أنأى وأَصْعبا
****
خيالُكِ يا سمراءُ، مرّ بغربتي
فحيّا، ورحّبنا طويلاً، ورحّبا
جلاكِ لعيني، مُقلتيْنِ وناهداً
وثغراً كمطلول الرياحين أَشْنبا
فصانكِ حبي في الخيال كرامةً
وهمَّ بما يهواه، لكن تهيّبا
وبعضُ الهوى كالنور، إن فاض يأتلقْ
وبعض الهوى كالغيث، إن فاض خرّبا
أرى طيفكِ المعسول في كلِّ ما أرى
وحِدْتُ، ولكن لم أجد منه مَهْرَبا
سقاني الهوى كأسيْنِ: يأساً ونعمةً
فيا لك من طيفٍ أراحَ وأَتْعبَا
وخالط أجفاني على السُّهد والكرى
فكان إلى عيني من الجفن أَقْرَبا
شكونا له السمراءَ حتى رثى لنا
وجرّأنا حتى عتبْنا، فأعتبا
وناولني من أَرْز لبنان نفحةً
فعطّر أحزاني، وندّى، وخضّبا
وثنّى بِريّا الغوطتيْن، يذيعها
فهدهد أحلامي، وأغْلَى، وطيّبا
وهل دلّلت لي الغوطتانِ لُبانةً
أحبّ من النُّعمى، وأحلى، وأعذبا
وكأنما تجيء هذه المفردة السحرية «الغوطتان» لتحركا وتراً دفيناً فيه، وشوقاً مستهاماً إلى طفولة حفيده الذي تفصل بينهما المسافات والسدود، والغوطتان هنا أهلٌ وناس ووطن وتاريخ، ومكان وزمان، واعتصارٌ لحنّةٍ موجعة في القلب، تكشف عن المستور من حناياه وطواياه وطبقاته، فيقول عن حفيده: 
وسيماً من الأطفال لولاه لم أَخفْ
- على الشيب - أن أنأى وأن أتغرّبا
تودُّ النجوم الزُّهْرُ لو أنها دُمًى 
ليختارَ منها المُترفاتِ ويلعبا
وعندي كنوز من حنانٍ ورحمةٍ
نعيميَ أن يُغْرَى بهنَّ وينْهَبا
يجور وبعضُ الجوْرِ حُلوٌ مُحبّبٌ
ولم أرَ قبل الطفل ظُلما مُحبّبا
ويغضب أحياناً ويرضى وحسْبُنا
من الصفو أن يرضى علينا ويغْضَبا
وإن ناله سُقمٌ تمنيتُ أنني
- فداءً له - كنت السَّقيمَ المُعذّبا
ويوجز في ما يشتهي وكأنه
بإيجازه دّلاً أعادَ وأَسْهبا
يزفُّ لنا الأعياد عيداً إذا خطا
وعيداً إذا ناغى، وعيداً إذا حَبا 
كزُغْبِ القطا لو أنّهُ راح صادياً
سكبْتُ له عيني وقلبي ليشربا
وأُوثر أن يَرْوَى ويشْبعَ ناعماً
وأظمأَ في النُّعمى عليه وأسْغَبا
وألثمُ في داجٍ من الخطب ثغْرهُ
فأقطف منه كوكبا ثم كوكبا
ينام على أشواق قلبي بمهدهِ
حريراً من الوشي اليمانيِّ مُذْهَبا
وأُسدلُ أجفاني غطاءً يُظلُّه
ويا ليتها كانت أَحنَّ وأَحْدبا
وحمّلني أن أقبل الضيْم صابراً
وأرغب تحْناناً عليه وأرهبا
فأعطيتُ أهواءَ الخطوبِ أَعنّتي
كما اقتدْتَ فحْلاً مُعرق الزهو مُصْعَبا
تأبى طويلاً أن يقاد، وراضهُ
زمان، فَراخى من جِماحٍ، وأَصْحبا
تدلّهتُ بالإيثار كهلاً ويافعاً
فدلّلتهُ جَدًّا، وأَرضْيتهُ أبا
وتخفق في قلبي قلوبٌ عديدةٌ
لقد كان شِعْباً واحداً، فتشعّبا
تُرى، هل تذكرنا هذه الأبيات في هذا المقطع البديع من قصيدة بدوي الجبل بجمال الاقتراب من عالم الطفولة روحاً وإحساساً وحركة إنسانية في مقطوعة حِطّان بن المعلّى حين قال: 
لولا بُنيّاتٌ كزغْبِ القطا
رُددن من بعض إلى بعض
لكان لي مُضطرب واسعٌ
في الأرض ذات الطول والعرض
وإنما أولادنا بيننا
أكبادنا تمشي على الأرضِ
لو هبّت الريحُ على بعضهم 
لامتنعت عيني عن الغمض

من المؤكد أن الطفولة في وجدان الشاعرين وترٌ نابض بالحياة والحركة، والإعزاز والحنوّ، لكن بدوي الجبل يستنفر كلَّ مشاعرنا وانعطافنا إلى أبياته حين يقول: 
يزفُّ لنا الأعيادَ، عيداً إذا خطا
وعيداً إذا ناغى، وعيداً إذا حبا
كزُغب القطا لو أنه راح صاديا
سكبْتُ له عيني وقلبي ليشربا

وتبقى صورة «زغْب القطا» المشتركة في أبيات الشاعرين دليلاً على سبْق حطان بن المعلّى، وتوقف بدوي الجبل والتفاته إلى الصيغة والصورة، وإن كان يبقى لحطان فضل السبْق والإبداع.
وتتسع رحابة الأفق والفضاء الشعري والنفسي عند بدوي الجبل لدعاءٍ غير مسبوق، وهو يجعله من أجل الطفولة صلاةً للرب حتى يفيض السّلم - شرقاً ومغرباً - على عالم يأتلق بضحكة الأطفال الملائكة، لا يعترض مسيرتها وجه مُقطب قد لجَّ في الإعنات. ويتسع قلب الشاعر الجدّ ووجدانه، الرحب رحابة الإنسانية كلّها، ليرى في السلام ملاذاً لحاضر الطفولة ومستقبلها وأماناً لها مما تصنعه العداوة والبغضاء:
ويا ربّ من أجل الطفولة وحْدَها
أفضْ بركات السلم شرْقاً ومغربا
وردّ الأذى عن كلّ شَعب، وإن يكن 
كفوراً، وأحبْبهُ وإن كان مذنبا
وصنْ ضحكة الأطفال يا ربّ، إنها
إذا غرّدت في موحش الرمل أعشبا
ملائكُ، لا الجنّات أنجبْنَ مثلهم
ولا خُلْدُها - أستغفرُ الله - أنجبا
ويا ربّ حبّبْ كلَّ طفلٍ، فلا يرى 
وإن لجَّ في الإعنات وجهاً مُقطِّبا
وهيّئْ له في كلِّ قلبٍ صبابةً
وفي كلّ لُقْيا مرحباً ثم مرحبا
ويا ربّ إن القلب مِلْكُكَ إن تشأْ
رددتَ مَحيلَ القلب ريّانَ مُخْصبا
ويا ربّ في ضيق الزمان وعُسْرِهِ
أَرى الصبْرَ آفاقاً أعزَّ وأرحبا
صليبٌ على غمْرِ الخطوبِ وعسْفها
ولولا زغاليلُ القطا كنتُ أصْلَبا
ولي صاحبٌ أعفيْتُه من مودّتي
وما كان مجنونُ الغرور ليُصْحَبا
غريبان، لكنّي وفيْتُ وما وَفى
ونازع حبْلَ الودِّ حتى تقضّبا
ويا رب هذي مهجتي وجراحُها
سيبقيْن إلا عنك سرًّا مُحجّبا
ويا رب إن هانت دموعٌ، فأدمعي
حرائرُ شاءت أن تُصانَ وتُحجبا
فما عرفت إلا قبور أَحبتي
وإلا لداتي في دجى الموتِ غُيّبا
وما لمْتُ في سكْب الدموع، فلم تكنْ
خلقْتَ دموع العين إلا لِتُسْكبا
ولكنَّ لي في صوْن دمعيَ مذهباً
فمن شاء عاناهُ، ومن شاء نكّبا
ويا ربّ أحزاني مضاءٌ كأنني
سكبتُ عليهن الأصيل المُذهّبا
ترصّد نجم الصبح منهنّ نظرةً
وأشْرفَ من عليائه وترقّبا
فأرخيتُ آلاف الستور كأنني
أمُدُّ على حالٍ من النور غَيْهَبا
فغوّرَ نجم الصبح يأساً، وما رأى
- على طُهرهِ - حتى بناناً مُخضّبا
وقد تبهرُ الأحزانُ وهي سوافرٌ
ولكنَّ أحلاهُنَّ حزنٌ تنقَّبا
هذه القصيدة التي تُمثل ذروة إبداعه الشعري وهو في منفاه بفيينا، لا يمكن أن تكون خِلْواً من أية إشارة للوطن. فالوطن قائم في سمرائه التي لا يفارقه خيالها وهو في غربته، يرحب كلّ منهما بصاحبه، وقادته سمراؤه وخيالها إلى عالم من كنوز حنانٍ ورحمة، يلهو بها وسيمٌ من الأطفال - وهو حفيده المفضل - لينفتح على عالم الطفولة الرائع، وفضائه الرحب البديع، ويتشكل الوطن من جديد في قسمات هذا الوليد الصغير وروائحه وأنسامه، مُذكّراً بالمشيب الذي يؤذن بالحلول، وهو لايزال في زمن الصبا والكهولة. يقول بدوي الجبل:
ويا ربِّ: دربٌ في الحياة سلكْتُه
وما حدْتُ عنه لو عرفتُ المغيّبا
ولي وطن أكبرْتهُ عن ملامةٍ
وأعْليهِ أن يُدعى - على الذنب - مُذنبا
وأغْليه حتى قد فتحتُ جوانحي
أدلّلُ فيهنّ الرجاءَ المُخيّبا
تنكّر لي عند المشيب - ولا قِلًى-
فمن بعض نُعماهُ الكهولةُ والصّبا
ومن حقّه أن أحمل الجرح راضياً
ومن حقّه ألا ألوم وأعتبا
وما ضقْتُ ذرْعاً بالمشيب، فإنني
رأيتُ الضحى كالسيف عُريانَ أشيبا
يُمزِّق قلبي البعدُ عمّنْ أُحبُّهم
ولكنْ رأيت الذلَّ أخشْنَ مرْكَبا
وأستعطف التاريخ ضنًّا بأمتي
ليمحُوَ ما أُجْزَى به لا ليُكْتَبا
ويا ربّ عزٌّ من أمية لا انطوى
ويا ربّ نورٌ وهّج الشرق لا خبَا
وأعشقُ برْق الشامِ، إن كان مُمطراً
حنُونا بسُقْياهُ، وإن كان خُلّبا
وأهوى الأديم السّمْحَ، ريّان مُخصباً
سنابلهُ نشوى، وأهواهُ مُجْدبا
مآربْ لي في الرّبْوتين ودُمّرٍ
فمن شمّ عطراً شمَّ لي فيه مَأْرَبا

لا بد أن يتسع المجال بعد هذا التطواف الشعري لتطواف بالأماكن التي ارتبط بها صباه ويفاعتهُ، والتي شهدت خطواته الأولى في الشعر والحياة، بدءاً باللاذقية - المحافظة التي ولد في إحدى قراها «ديفة» - وحلب الشهباء التي تضم عطر الشهداء من أقرانه وأصفيائه، وحمص وحماة، وحوْران حيث عناق السهل والجبل، وأرض الجزيرة، التي يظللها قطيع الغيم ينسكب عليها وعلى الصحراء المتاخمة، وهكذا تتسع اللوحة الشعرية والشعورية لتذكارات العمر وأوراقه التي تساقطت على تتابع الليالي والأيام: 
سقى الله عند اللاذقية شاطئاً
مَراحاً لأحلامي ومغْنًى وملعبا
وأرْضَى ذرى الطوْد الأشمِّ فطالما
تحدّى وسامى كلَّ نجمٍ وأتْعَبا
وجادَ ثرى الشهباء عطراً كأنه 
على القبر من قلبي أُريقَ وذوّبا
وحيّا فلم يخطئ حماة غمامهُ
وزفّ لحمْصَ العيْشَ ريّانَ طيّبا
ونَضَّر في حوْرانَ سهلاً وشاهقاً
وباكر بالنعمى غنيًّاً ومُتْرِبا
وجلجل في أرض الجزيرة صيّبٌ
يزاحم في السُّقْيا، وفي الحسن صيّبا
سحائب من شرقٍ وغربٍ يلمُّها
من الريحِ راعٍ أَهوْجَ العُنْفِ، مُغْضَبا
له البرقُ سوطٌ لا تندُّ غمامةٌ
لتشردَ إلا حزَّ فيها وألهبا
يؤلفها حيناً، وتطفرُ جُفّلاً
وحاول لم يقنطْ إلى أن تغلّبا
أَنخن على طول السماءِ وعَرْضها
يزاحمُ منها المنكبُ الضخمُ مَنكبا
فلم أدْرِ هل أَمَّ السماءَ قطيعهُ
من الغيْم، أو أمّ الخباءَ المُطنّبا
تبرّجَ للصحراء قبل انسكابه
فلو كان للصحراء ريقٌ تحلّبا
وتعْذِرُ طلَّ الفجر لم يُرْوِ صادياً
ولكنه بلَّ الرمالَ ورطّبا
ويُسكرها أن تشهد الغيْمَ مُقبلاً
وأن تتملاه، وأن تترقّبا
كأنّ طباعَ الغيد فيه، فإن دنا 
قليلا، نأى، حتى لقد عزَّ مَطْلَبا
ويُطعمها، حتى إذا جُنَّ شوقها
إليه، انثنى عن دربها وتجنّبا
تعدُّ ليالي هجرْهِ، وسجيةٌ
بكلّ مشوقٍ أن يُعدَّ ويحْسُبا
ويبْدهُ بالسُّقيا على غير موعدٍ
فما هي إلا لمحةٌ وتصبّبا
كذلك لطفُ الله في كلِّ محنةٍ
وإن حشد الدهرُ القنُوطَ وأَلَّبا
إلى أن جلاها كالكعابِ، تزيّنتْ
لتُحْسدَ من أترابها أو لتُخطبا
في المقـــــطع الأخير مــــن قصيــــدته البــــديــــعة «البلبل الغريب»: بكائيــــة المنفى، وعروس شجونه، وفيض مرارات أيامه، واستشرافه الوطن والأهل والنـــــاس والأمــــاكــــن والذكــــريات، ورؤياه لامتداد العمر في طلّة حفيده وطلعته، وتفاؤله بالغد الذي تنهـــمـــر فيه الـمُزْنُ، وتهطل البشريات، وتحفل الضروع التي ترضع الحملان الجياع ويحلبها البشر، والبلبل الذي تغرّب عن دوحه المخضلّ، حاملاً في فؤاده جـــــرحاً دامياً، ومغنياً على نايه مشجياً ومطرباً - في هذا المقطع الأخير شفاؤه وعلاجُــــــه بالشعر، وعوْد إلى حديث السّمراء - رفيـــــقة الـــعمر وشريكة الحياة - ودعاء بالبركة - للديار والأهل، فما الذي يقوله البلبل الغريب بدوي الجبل: 
ومرّت على سُمْرِ الخيامِ غمامةٌ
تجرُّ على صادٍ من الرمل هيْدَبا
نِطافٌ عذابٌ رشّها الغيم لؤلؤاً
وتبْراً فما أَغْنى وأزهى وأعجبا
حَبتْ كلَّ ذي روحٍ كريمَ عطائها
فلم تنْسَ آراما ولم تنْسَ أذؤبا
وجُنّت مهاةُ الرمل حتى لغازلتْ
وجنَّ حمامُ الأيْك حتى لشبَّبا
وطاف الغمامُ السّمحُ في البيد ناسكاً
إلى الله في سُقْيا الظّماءِ تقرّبا
عواطلُ مرّ المزْنُ فيهنّ صائغاً
ففضّض في تلك السهول وذهّبا
وردّ الرمال السُّمْرَ خُضْراً وحاكها
سماءً، وأغناها، ورشَّ وكوْكبا
وردّ ضروع الشاءِ بالدَّرِّ حُفَّلاً
لتُرضعَ حُملاناً جياعاً، وتُحْلبا
وحرّك في البيد الحياة وسرّها
فما هامد في البيد إلا توثّبا
ولاعب في حالٍ من الرمل ربْربا
وضاحك في غالٍ من الوشي ربْربا
وجمّع ألوان الضياء ورشّها
فأحْمرَ ورديًّا، وأشْقرَ أصْهَبا
وأخْضَر بين الأيْكِ والبحر حائراً
وأبيض بالوهْج السماوي مُشْرَبا
ولوناً من السمراء صيغت فُتونُه
بياضا، نعمْ، لكن بياضاً تعرّبا
أتدري الرُّبى أن السموات سافرتْ
لتشهد دُنيانا فأغفتْ على الرُّبى
أَلُمُّ بكفيَّ النجومَ وأنتقى
مُزرّرها في باقتي والمعُصَّبا
دياري وأهلي بارك الله فيهما
وردّ الرياح الهوج أَحْنى من الصَّبا
وأقسمُ أني ما سألتُ بحبّها
جزاءً، ولا أغليْتُ جاهاً ومنصبا
ولا كان قلبي منزل الحقد والأذى
فإني رأيتُ الحقْدَ خزْيانَ مُتْعبا
تغرّب عن مُخْضلّةِ الدوْحِ بلبلٌ
فشرّق في الدنيا وحيداً وغرّبا
وغمّس في العطر الإلهيّ جانحاً
وزفّ من النور الإلهيّ موكبا
تحمّل جُرحاً دامياً في فؤادهِ
وغنّى على نأيٍ، فأَشْجَى وأَطْربا
(فيينا في 31 أغسطس 1963).