هل يفضي تقدم الحضارة إلى تراجع الشعر؟

هل يفضي تقدم الحضارة إلى تراجع الشعر؟

يمكن النظر إلى حياة الإنسان برمتها على أنها مجرد قصيدة. الحياة  القصيدة هذه لها بداية هي الميلاد، ولها نهاية معلومة هي الموت. وبين الميلاد والموت هناك كثير من الأحداث التي تبقى، في نهاية الأمر، مجرد تفاصيل. تفاصيل قد تكون كثيرة، وقد تكون قليلة، قد تكون سعيدة، وقد تكون شقية. يقول إيليا أبوماضي:
إن الحياةَ قصيدةٌ، أعمارنا
أبياتها، والموت فيها قافية

مثل كل الآخرين، للشاعر أيضاً حرفته. «حرفة» الشاعر هي أنه «يبني» بيتاً وراء بيت. كل بيت مستقل، وفي الآن نفسه، متصل بما يسبقه وما يلحق به. أبيات الشاعر تسكنه قبل أن يسكنها. تعيش فيه قبل أن يعيش فيها، وبها أحياناً. لكل بيت من تلك الأبيات مطلع وقافية. بيت من دون مطلع غير موجود. وبيت من دون قافية هو بيت غير مكتمل. بيت من دون سقف لا يكاد يصلح لشيء. لا يحمي لا من البرد ولا من الحر. 
 ولأن الكرم من شيمه الأصيلة، لا يحتفظ الشاعر بأبياته لنفسه، يتمتع بها وفيها وحده، وإنما يهبها للناس، لكل الناس، قبل أن يمدوا له أيديهم. ولا يأمل من وراء ذلك غير أن يجد فيها هؤلاء مستقراً ومأوى لهم، ووطناً يحميهم من كل شيء. 
 إننا ننظر إلى الشعر، عادة، نظرة مثالية، إذ نعتبره من الأشياء الحسنة، التي تجعلنا نرى الحياة جميلة. والواقع ليس كذلك بالضبط. فالأصمعي، مثلاً، يؤكد أن الشعر ناكر للجميل، وأن ميدانه المفضل هو الشر، وأنه عندما يضع نفسه في خدمة الخير يضعف.
إن هذه البداية التي أعتبرها متعثرة، ناجمة، في الواقع، عن كوني شخصاً يخشى الشعر. أخشى كتابته، مثلما أخشى الكتابة عنه. كيف لي ألا أخشاه وهو «ديوان العرب»، وجامع لغتهم وعلومهم وحكمتهم ومعارفهم؟!  وهناك كثير من القصص والأقوال والأشعار، التي تبيِّن المكانة السامية، التي كان الشعر يتمتع بها عند العرب قديماً. ومنها أنه يحكى أن «عضد الدولة» كان يقول في شاعر اسمه «السلامي»: «إذا رأيت السلامي في مجلسي  ظننت أن عطارد نزل من الفلك إليَّ، ووقف بين يدي». وكان مصطفى صادق الرافعي يقول عن الشعراء إنهم «أنبياء الجمال».
تجرأت ذات مرة، قبل سنوات طويلة، وكتبت ما اعتقدته «شعراً». عرضت ما كتبت على أستاذ يحب الشعر، ويستشهد به كثيراً، فقال لي حرفياً: «أنت مشروع شاعر». ربما كان الأمر كله مجرد مجاملة. لذلك لم أنشر قصيدة واحدة إلى حدود اليوم، ولا أعتقد أنني سأملك الجرأة، ذات يوم، للقيام بذلك.
لماذا أنا متردد هكذا؟... فلأقلها بشكل واضح ومباشر.
حسن إذن... أعتقد أن عصر الشعر قد ولى.

عصر «الما بعد»
 إننا نعيش في عصر «الما بعد»... ما بعد الصناعة، ما بعد الحداثة، ما بعد الإنسان... وأبيح لنفسي أن أضيف «ما بعد الشعر». 
في الواقع هناك مجموعة من المتغيرات التي تدل على أننا دخلنا عصر ما بعد الشعر فعلا. متغيرات تسم بميسمها عالم اليوم بمختلف مكوناته. متغيرات متسارعة يكاد تتبُّعها يكون مستحيلاً، واستيعابها أكثر استحالة. ربما قرب ذلك العصر الذي سيعترف فيه الإنسان لنفسه بأن حلمه المتمثل في التحكم بمصيره ومصير الكون من حوله، والذي ظل يراوده منذ عصر النهضة، كان مجرد وهم و«يوتوبيا». 
لقد عرفت الحضارة الإنسانية تقدماً كبيراً، على مستويات متعددة ومختلفة. ومن نتائج هذا التقدم ابتعاد الإنسان عن طبيعته الأصلية. وهكذا فقد الإنسان عفويته وتلقائيته، وصار كائناً متصنعاً وزائفاً ومشوّهاً. هذا هو الدرس الذي يعلمنا إياه جان جاك روسو Jean Jacques Rousseau، الذي يرد فساد الإنسان إلى الحضارة. وهو يقف موقفاً سلبياً من الفنون، لأنها ببساطة باكورة هذه الحضارة. إن تقدم الحضارة كان على حساب إنسانية الإنسان، كان على حساب أصالته وطيبته وسعادته. 
وكلما تقدمت الحضارة تراجع الشعر. لم يعد الشعر حاجة كما كان في عصور سابقة. كان الشعر قديماً يعتبر حاجة. كان الإنسان يحتاج إلى الشعر، ويستخدمه في مجموعة من نواحي حياته. كان من الأشياء التي لا غنى عنها أبداً في العرافة والسحر وأثناء القيام بالطقوس الدينية، وعند التأريخ للذاكرة الجماعية... إلخ. علماً بأن الشعر كان شفاهياً، يعتمد أساساً على الذاكرة.
 لم يعد الشعر في الوقت الراهن يستخدم في هذه الأشياء. لقد تمت محاربة الشعوذة والسحر، لأنهما يعتبران من الأشياء البدائية التي يجب القضاء عليها، والنظر إلى الممارسين لها باعتبارهم من الجهال، الذين يكذبون على الناس ويحتالون عليهم من دون حق. وهكذا تم تجريم السحر والشعوذة وتحديد فصول في القانون تحدد عقوبة من يثبت عليه ممارستهما. كما أن الطقوس الدينية أضحت تمارس وفق نصوص دينية  معروفة، وفي أماكن معروفة، وما دون ذلك يدرج في إطار الهرطقة. ولحفظ ذاكرة مجتمع ما يتم اللجوء إلى تقنيات أكثر دقة وفاعلية وكفاءة، من الشعر، كالتصوير مثلاً. 
وطبعاً إن كل شيء قلَّت حاجتنا إليه ستتراجع مكانته عندنا، وستبدأ معالم اختفائه تظهر في حياتنا شيئاً فشيئاً، إلى أن تبدو للعيان جلية. كم يملك المواطن العربي، في الوقت الراهن، من دواوين شعرية في بيته؟ وكم عدد الجوائز المخصصة للشعر في كل دولة من دول العالم؟ وكم عددها في العالم بأسره؟ وكم نسبة الشعراء الذين نالوا جائزة «نوبل» للآداب من مجموع الأدباء الذين نالوها؟ 
ثم إن هناك كثيراً من الكتَّاب والنقاد، الذين يؤكدون أن العصر الحالي لم يعد عصر الشعر، وإنما هو «عصر الرواية» بامتياز، ومن هؤلاء حنا مينة. وهنا نعيد بدورنا طرح السؤال التالي: أليس من الغريب حقاً أن توجد أمة اشتهرت منذ القدم بنظم الشعر وتفوز بجائزة «نوبل» للآداب في الرواية؟ ونقصد هنا طبعاً جائزة «نوبل» التي نالها الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ سنة 1988.

مستقبل الشعر
إن المستقبل للرواية. الرواية تتماشى مع ذوق الإنسان المعاصر، خصوصاً مع قابلية الروايات لأن تحول إلى أفلام سينمائية. وهناك طبعاً أمثلة كثيرة لروايات بعضها قديم والبعض الآخر حديث ومعاصر، تحولت إلى أفلام سينمائية شاهدها ملايين من الناس عبر العالم، خاصة عندما تشتغل عليها سينما متطورة كالسينما الأمريكية التي تتوفَّر على كل المقومات لإنتاج أفلام ضخمة.
وفي هذا السياق أقول إنه إذا كانت الرواية قد وجدت طريقها إلى التربع على عرش الأدب العالمي من خلال توافر إمكان تحولها إلى فيلم سينمائي، وكثيرة هي الروايات التي ما إن تحولت إلى أفلام حتى سارع الناس الخطى إلى قراءتها، كرواية «حياة بي»  The life of Pi  لصاحبها يان مارتيل Yann Martel، التي تحولت إلى فيلم سينمائي أخرجه أنج لي Ang Lee  عام 2012، ونال به جوائز عالمية كثيرة، فإن الشعر بدوره مطالب، إذاً أراد أن يعود له وهجه القديم، أن يجد لنفسه طريقاً ما إلى «عصر الصورة»، الذي نعيش فيه. 
ويلاحظ أن هناك إقبالاً كبيراً على كتابة الشعر، إلى درجة أنه لم تعد له تلك الهيبة التي كانت له في ما مضى. لم يعد الشعر خاصاً ببعض الناس، الذين يرجح أنهم مجانين، لأن هناك مايوحي لهم بما ينظمونه.
كان أفلاطون Platon يعتقد أن الشعر إلهام، ولا يتسنى للمرء قول الشعر إلا عندما تزوره ربات الشعر. في السياق نفسه كان بول فاليري Paul Valéry يقول: «إن الآلهة تجود علينا بمطلع القصيدة». 
وكما هو معلوم، لم يعد ينظر إلى شعراء اليوم بالطريقة نفسها التي كان ينظر بها إلى شعراء الأمس. فشعراء اليوم هم أناس «عاديون»، يكتبون قصائدهم نتيجة عوامل نفسية معينة، كما يؤكد ذلك علماء النفس، أو نتيجة عوامل اجتماعية، كما يؤكد ذلك علماء الاجتماع. ما يعني أن الوحي الشعري لم يعد مصدره عالم «فوق-بشري»   Sur-Humain، وإنما «عالم بشري» Humain ، من صنع الإنسان ذاته. 
وشتان بين وحي مصدره ميتافيزيقي ووحي مصدره بشري.
إن أرض الشعر لم تعد حكراً على أشخاص معينين، غرابة الأطوار من صفاتهم الفارقة، وإنما أضحت مباحة للجميع، خصوصاً مع وجود إمكانيات كبيرة للنشر. لقد سهلت شبكة الإنترنت عملية النشر، التي كانت في السابق معقدة جداً، وتتطلب كثيراً من الجهد والمال والوقت. فبات الناس في الوقت الراهن يكتبون وينشرون كتاباتهم الشعرية وغيرها، بكل سرعة وسهولة ويسر.
وممــــا أفــــرزه هذا الوضـــــــع، وهــــو ليس سيئاً بالكامــــــل، شيوع سرقة إبداعات الآخريــــن، قدماء ومحدثين، محلييــــن وأجانب، رغم أنه، كما يقول أحد الشعراء اليابانيــــين: «مــــن الممكن سرقة الكلمات، لكن الشعر تستحيل سرقته». 
لم يعد ينظر إلى الشعر، على ما يبدو، كشيء صعب، وطويل سلّمه، أو كشيء يتطلب كثيراً من المعاناة والعذاب، اللذين يفوقان، بكثير، المعاناة والعذاب الجسديين. والحال أن كتابة الشعر ليست بمسألة سهلة أبداً. إن ترويض الفكرة العنيدة أمر شاق حقاً. يقول بدر شاكر السياب:
أكتب ما في دمي وأشطب
حتى تلين الفكرة العنيدة
ومن الأشياء التي تبدو لي غريبة حقاً وجود كتب تعلِّم الشباب كيفية كتابة الشعر، أو كتابة الرواية، أو غيرهما من الأعمال الأدبية. بعضها من وضع كتَّاب معروفين... أعتقد أنها كتب غير ذات جدوى، بل ومن الممكن أن تأتي بنتائج عكسية. 
إننا لن نستطيع أبداً، مهما حاولنا، ومهما بذلنا من جهد، أن نخلق شاعراً عظيماً. إن تعليم الشعر يجعله شيئاً تقنياً، أشبه بتعلُّم صناعة السيارات مثلاً. والحال أن الشعر غير قابل للتعلم، مثله مثل أشياء أخرى في حياة الإنسان كالحب. من يستطيع أن يعلِّم شخصاً ما كيف يحب؟! 
من الممكن طبعاً أن نعلِّم شخصاً ما اللغة، فيستطيع أن يتقنها في وقت معين. لكن كيف نعلمه أن يبدع؟ إن الشعر ليس مجرد كلمات منتقاة بعناية، إنه أبعد من ذلك بكثير. إن تأثير النصائح والتوجيهات، رغم أهميتهما في صقل الموهبة، يبقى محدوداً، علماً بأن الإبداع في هذه الحالة، حتى وإن تحقق، لا يكون إبداعاً بالمعنى المعروف للكلمة. إن الإبداع في حقيقة أمره، وهذه هي طبيعته، هو تجاوز لما هو متعارف عليه، وابتكار لنموذج جديد. بهذه الطريقة فقط يمكن للمبدع أن يسمى مبدعاً حقاً. فالإبداع والبدعة لهما الجذر اللغوي نفسه، ولا يختلفان تماماً من حيث المعاني.
أضف إلى كل ذلك أنه لم يعد الشعر شعراً خالصاً ولا النثر نثراً خالصاً. لم تعد هناك حدود فاصلة بينهما. لقد بات في حكم العادي اليوم الحديث عن كتابة الشعر بلغة النثر (قصيدة النثر)، وعن كتابة النثر بلغة الشعر.  
 عندما تقرأ «شعراً» اليوم، من النادر أن تجد له عمقاً. علماً أن كثيراً من المفاهيم القديمة كمفهومي الجوهر والعمق قد تمت إعادة تعريفها وتقويمها. وهكذا تم تأكيد أنه ليس ثمة ما هو أعمق من السطح. وهو توجه بدأ مع فريدريك نيتشه  .Fréderic Nietzsche.
في السياق نفسه يقول فيكتور هوجو Victor Hugo: «ليس الشكل إلا العمق طافياً». وبهذا تزايد الاهتمام بالشكل، سواء كان هذا الشكل شكل الجسد أو شكل الكتابة. وأضحى الشعر مجرد كلام جميل.
ورغم كل ما قيل لا يمكن الحديث عن موت الشعر، وانتهاء أمره إلى الأبد. إن الإنسان، بخلاف الكائنات الأخرى، يعاني أرقاً أبدياً. وهذا قدره. وفق رينيه شار Renie Char فالشعر يحيا على هذا «الأرق الأبدي». كما أن الإنسان يحمل في صدره قلباً قد يخفق حباً. وعندما يفعل ذلك يبقى من الممكن أن يصير صاحبه شاعراً. يقول سوفوكليس Sophocle في هذا الصدد: «إن الحب يجعل الناس شعراء». 
في عالم اليوم يلاحظ طغيان واضح للقيم المادية، حيث باتت قيمة الإنسان تتحدد بما يملكه من أشياء. ومن الوارد أن يعتبر الشعر في هذا العالم من الأشياء الدالة على التخلف. وقد أجاب نزار قباني ذات مرة رداً على هذا القول: «إذا كان الشعر تخلفاً، فما أجمل تخلفنا».
في اعتقادي أنه يكفي الشعر فخراً أنه مرتبط أشد الارتباط بالحرية، باعتبارها إحدى القيم الأساسية في الوجود الإنساني. إن الحرية هي منطلق الشعر وركيزته الأساس. لا غنى للشعر عن الحرية. إنه ككل الأشكال الإبداعية الأخرى لا يمكن أن يعيش ويزدهر من دون حرية. فهو يتغذى بها وعليها. 
وفي ظل أنظمة تميل إلى التحكم في المجتمع، وإلى ضبط حركاته وسكناته، وتعمل على جعل الإنسان خاضعاً، في نهاية المطاف، لسلطة عليا يمثلها «الأخ الكبير» Big brother، كما جاء في رواية «1984»  لصاحبها جورج أورويل George Orwell ، يمكن للشعر أن يؤدي دوراً مهماً في تحرير الإنسان المعاصر من قيوده التي تبدو أنها في طريقها إلى الزوال، وهي في الحقيقة تزداد التفافاً حوله. 
أؤمن بأن القصيدة المثالية لم تكتب بعد، ولن تكتب، على الأرجح، أبداً.
أؤمن بأن كتابة قصيدة جميلة ممكنة تماما، علماً بأن كل قصيدة، يليق بها هذا الاسم، هي قصيدة جميلة بالضرورة. 
 القصيدة الجميلة، في نظري على الأقل، هي قصيدة متماسكة، حيث اللغة والتعبير والمعنى والموسيقى تشكّل وحدة متناغمة. وتزداد هذه القصيدة جمالاً إذا كان كاتبها يعرف فن إلقاء الشعر. في هذه الحالة تصبح القصيدة سيمفونية. 
القصيدة الجميلة هي التي تجعلني أسافر من دون تخطيط مسبق إلى الآفاق البعيدة. إنها هي التي ترغبني في السفر وتحثني عليه، فأجدني بغتة على الطريق. 
القصيدة الجميلة هي التي تسافر بي، وفيّ، وعَبْري، إلى حيث لا أدري، ولا يمكن أن أدري.
  القصيدة الجميلة هي التي يمكن أن تجعل جميع الأفعال المرتبطة بالسفر، والتي تحيل عليه، من قبيل: سار، ومشى، وزحف، وحلق، وطار، وسبح...أفعالاً يمكن أن أقوم بها فعلاً دون أن أبرح مكاني.
  القصيدة الجميلة، في نهاية المطاف، وباختصار شديد، هي بوابة المطلق.
 ويبقى السؤال: أين يمكن العثور على مثل هذه القصيدة في عالم اليوم؟!.