الذكورة والأنوثة في أقدار غادة السمان القصصية

الذكورة والأنوثة في أقدار غادة السمان القصصية

مازالت العلاقة القائمة بين الذكورة والأنوثة عند الكائنات الحية عموماً والإنسانية منها خصوصاً، تحتل المكانة الكبرى في سائر الأنشطة الإبداعية على اختلاف أنواعها وتوجهاتها... فثمة سلطات تتحكم في مناحي هذه العلاقة وفي مساراتها، مما جعل الهوّة كبيرة بين صورتها الماثلة على أرض الواقع المعيش، وصورتها الأخرى التي ما برحت تنشدها نصوص العقائد وقصائد الحب، علاوة على ما تقدمت به في هذا الصدد العلوم الأنثروبيولوجية والفلسفية.

تختار غادة السمان في سياقها القصصي بطلتها لتنسب إليها هذا الاعتراف، قائلة بلسانها:
«بعد خروجها من العمل تحس بحاجة مجنونة إلى أن تركض وراء ذلك الرجل، وتجد قدرهما أن يرتبطا معاً... هي في الطريق ورائحة عماد في كل شيء... عندما تراه ستقول له عيناك قدري...» من خلال ذلك تتجاوز الكاتبة سكونية المرأة وحياديتها المنتظرة للرجل الطالب القرب بعدما ألغت الكوابح المتوارثة من حولها لتتقدم إلى ساحة الحركة والفعل، وتتحول في ميدانها إلى المرأة المبادرة الطالبة للقرب، وهي ذاتها عبَّرت عن ذلك صراحة في كتابها «البحر يحاكم سمكة» حيث تقول فيه:
«حين تشارك المرأة في إعلان الحب يعني أنها أصبحت الفاعل والشريك في ابتداع تمثال الحب ونحته بمطرقتها لا بإزميل الرجل وحده...»، ويبدو وفق هذا التوجه أن القاصة غادة السمان اختارت أن تكون  في الجهة المضادة للموروث الاجتماعي، تاركة لشخصياتها القيام بالنيابة عنها بإعادة صياغة مرتكزاته على نحو غير منحاز، يكفل تحقيق شرط الحرية للرجل والمرأة ليبلغا معاً حيز التحرر الحقيقي الذي شكل هاجساً لها في سائر مساحتها النصّية وفي محاور السرد لديها على اختلاف أنواعها... ففي قصتها التي حازت مسمى مجموعتها الأولى تبدأ بطلة القصة وصف حالها بالقول: «أنا سعيدة لا شيء ينقصني، أملك حريتي كأي رجل... أنا حرة سعيدة...»، وما يلفت الانتباه في هذا التوصيف للحال هو عدم اكتفائه بإبراز امتلاك المرأة للحرية، بل مضى إلى إقرانه بصفة التماثل والتعادل مع الرجل، وذلك لأن صاحبة الشأن التي أرادت الإفصاح عن تحررها سليلة مجتمع ذكوري يده ملطخة بوأد بنات جنسها اللواتي بقين رازحات في الذاكرة كطرف أدنى طوال أحقاب لا يبدو أنها انتهت، الأمر الذي انطلقت منه الكاتبة لتقرن مكانتهن بالرجل كطرف أعلى، ودفعت براويتها في القصة السابقة عينها لتنوب عنها بفعل ذلك، ولتقول في مدح بطلتها الوفية لأهلها: «لقد نجحت بأن تكون رجل الدار، معللة تشبيهها لها برجل الدار بأن أباها تمناها أن تكون صبياً يسميه طلعت بعد أربع بنات، وبعد ولادتها سماها طلعت رغم أنها بنت، وتنبس بمرارة: ما أروع وما أسوأ أن تكون امرأة!...» عبر فحوى ما يرد في السياق القصصي كسلسلة اعترافات، تدوّن غادة السمان آثار «الأنا» الذكورية الجمعية على «الأنا» الذكورية الفردية، مستخدمة لعبة النكوص والتعويض عند الأب الغارق والمهزوم بخلفة البنات الذي استنجد بالاسم المذكر كتعويذة تقيه، قدر المستطاع، شر الهزيمة الداخلية التي مُني بها والتي أبقت المرأة على هيئتين متناقضتين كسابق عهدها... فهي الحبيبة الساحرة الآسرة في قصائد عكاظنا الشعري وفي أغنياتنا العصرية، وهي اللدودة والموءودة في متن حياتنا الجاهلية وفي هوامش واقعنا المعاصر... إنها الكائن المشتهى وغير المشتهى الذي اجتمع فيه الأجمل والأسوأ وفق تعبير غادة السمان القصصي الذي استهدفت من خلاله تصويب المواقف الاجتماعية غير العادلة ومطالبتها بالتخلص من تناقضاتها إزاء الرجل والمرأة على حد سواء، ليبلغا معاً أطر الشراكة الحقيقية داخل المعادلة الإنسانية التي لا يمكن أن تبلغ فيها عناصر الذكورة والأنوثة مبلغ التفاعل المأمول إذا بقيت العلاقة في ما بينها لا تقوم على مبدأ التكافؤ والتكامل، مما يجعل سمة التفاضل والاختلال من الحقائق المستولية على مفاصل هذه العلاقة التي أنفقت غادة السمان مجمل نتاجها لبيان ما أصابها من تصدعات انعكست على مواقف كلا الجنسين من بعضهما، ففي قصة «ما وراء الحب» لا يرسم هيثم حبيبته كما هي، بل يرسمها كما يحب هو، فيلقى منها الرفض... وفي قصة «القطة» تفسخ بطلة القصة خطوبتها من مديرها الذي تخلى عنها وهي تردد: «سأعري بقسوتي الرجال جميعاً من زيفهم... سأرفض كل شيء»، ولا تبدو بطلة قصة «أفعى جريح» أحسن حالاً من سابقتها بعد أن وجدت زوجها يراقص امرأة سواها، فتصرخ وهي على فوهة بركانها الداخلي: «ضمها إليك أكثر... أنا خرساء لكنني اليوم امرأة أشعر أنني جميلة بثورتي وتمردي»... وهو ما همست به بصورة مشابهة بطلة قصة «الطفلة محروقة الخدين» في قولها لحبيبها الذي يتهمها بالبرود: «أريد أن أعرف كل شيء على حقيقته، سئمت ظلمة الهوى... لو قلت لي بعينين هادئتين كبحيرة الأصيل أحبك لذاب صقيعي... لسانك يقول أهواكِ وأنا أعرف أنك تقول هذه العبارة لأي امرأة في مكاني... أخشى أن تكون كالقطيع تحبني إذا امتلكتني»!

صوت الآخر
إن غادة السمان في هذه الشواهد ومثيلاتها التي أجرتها على لسان عديد من بطلاتها في القصص الأخرى تبرز على نحو جلي فقدان ثقة المرأة بالرجل... وإذا كان مزج لغة الحقيقة يتطلب استحضار الآخر وقول ما يريد بلغته، كما يرى باختين، فإن غادة السمان قدمت صوت هذا الآخر المذكر في أكثر من مجموعة قصصية لها، مبينة من خلالها عدم امتلاكه نبراته جراء مصادرتها من قبل الذكورة الجمعية منذ سنوات نطقه الأول، فأصبح سلوكه صدى لتوجهاتها التربوية وباتت كلماته تجري بلسان أعرافها وتقاليدها التي أغرته بعلوّ كعبه أمام الأنوثة وشجعته ليهمس في نجوى حبيبته: «أين عيناك يا سوسن؟ أين انضمامك الحاسم إلى كياني، تأكلين حينما أجوع، تئنين ألماً حين أمسك بحبات الأسبرو وأتهيأ لابتلاعها وتهمسين: رأسك يؤلمني يا حسان...».
عبر هذه المناجاة يتضح مدى التضخم الذي تسببت فيه وخلّفته الأنا الاجتماعية بالأنا الذكورية الفردية التي ما عادت تحس بذاتها إلا مركزاً تدور الذات الأنثوية وفق احتياجاته ورغباته، وهو ما اعتبرته غادة السمان خلاصة مريضة لها انعكاساتها السلبية على الجنسين معاً، وشرعت إلى تلمس هذه الانعكاسات وآثارها تبعاً لمستوى الوعي الذي بدا متواضعاً عند بطلتها في مجموعة «عيناك قدري»، فظهرت بادئ ذي بدء في قصة «رجل في الزقاق» مراهقة سطحية متصارعة الرغبات، لكنها تتراجع عن موقفها وتقرر إكمال تعليمها ودخول الجامعة، بعد أن تكتشف أن الرجل الذي كانت تريده ان يخطبها متزوج من امرأتين، وهو ما شكّل إرهاصات لوعي أعمق لدى الشخصيات الأنثوية والذكورية عند غادة السمان بدأت معالمه تتضح في مجموعاتها القصصية الأخرى على نحو متدرج جاءت مقدماته عبر صيغ ردات فعل المرأة على التعالي الذكوري الذي غرسه الموروث الاجتماعي في عقلية الرجل كحق طبيعي ومشروع يمتاز به عليها، وهو ما أشاع بينهما أجواء من التوتر والعداوة تجاوزا من خلالها حدود التشاحن إلى منحدر القطيعة والانفصال عن الحياة المشتركة القائمة أساساً على الاختلال وعدم التوازن الذي رصدته الكاتبة في مجموعتها «زمن الحب الآخر» تاركة فيها بطلة قصة «الديك» تمضي في رفض علوّ كعب الزوج على حسابها وسوق الاتهامات والمسؤولية عليه حول خراب علاقتهما الزوجية، مبررة ذلك في قولها:
«كنت أراه يحاول العودة كما كان من قبل أن يعرفني الديك الأوحد.. لكن الديك ينقلب إلى ديكين.. رأيت رأس الديك الأول يتحول إلى رأس رجل هو بهاء، ورأس الديك الثاني يتحول إلى امرأة هي أنا، وبدأت مرحلة القتال المرير.. سأتعلم ذات يوم كيف أقطع الخيط الذي لا ينقطع... لن أستسلم... لن لن... وحين يسعون إلى إبعاد شبح الخوف عنها وطمأنتها بحماية الرجال لها تصرخ: «لست بحاجة إلى حماية رجل!». 

تعميق الوعي
بهذا التصلب وبهذه الندية تكلل غادة السمان مرحلة الوعي الأولى للمرأة التي تمخض عنها رفض الرجل النرجسي المتضخمة أناه ومجابهة ما زرعته قيم الذكورة الجمعية في سلوكه وفكره بدل اللهاث خلفه، وبما أنها تعتبره من ضحايا هذه الذكورة الجمعية مثل غريمته المرأة، فقد شرعت في تخفيف منسوب حدة هذه المواقف الرافضة له، معتمدة في تحقيق ذلك على مرحلة أخرى من تعميق الوعي لدى الجنسين، مما سمح بإقامة آفاق جديدة لعلاقتهما الإنسانية اكتسبت عبرها منحى تطورياً إيجابياً عززت الكاتبة في فضائه مواقف أكثر تسامحاً ووداداً، برزت فيها المرأة مدركة على نحو أعمق ما تسببت به الجذور الاجتماعية  من خللٍ حَرَفَ علاقتها بالرجل وأخذها من مشتهاها، مما دفعها إلى محاولة التبصر في حقيقة ملامحه والعودة إلى نشدان التقرب إليه، مخاطبة نفسها بذلك من دون مواربة في قصة «الطفلة محروقة الخدين» قائلة بما يشبه الاعتراف:
«إنكِ لا تستطيعين الحياة بلا خمرة حنان... لكنني أحبه هذه المرة... أريد أن أعرفه على حقيقته سئمت ظلمة الهوى الكاذب...» وتهمس له في آخر قصة غير بيضاء: «لم يكن ذنبك أننا لم نتفاهم ولا ذنبي... لم تكن تخدعني ولا كنت أخدعك... كل ما في الأمر أن كلينا يعني بكلماته قيم الأشياء كما يفهمها هو في عالمه...».

ازدواجية الخطاب الذكوري
إن الخطاب القصصي عند غادة السمان يجعل- عبر هذه السياقات السردية - تأجُجَ  عاطفة الحب أداة كاشفة لشخصياته المطروحة، يضيء بواسطتها ما تنطوي عليه دواخلها جراء ما خلفه الإرث الذكوري الجمعي فيها... وإذا كانت المرأة قد تخطته بتبدل مواقفها والعودة إلى الوئام مع شريكها الرجل بدل معاداته والانشقاق عنه، كما بدا في القصص السابقة، فإن الرجل كما صورته غادة السمان ظل متأرجحاً في المنطقة الوسطى الفاصلة بين فروض إرثه الجمعي الثقيل، ومتطلبات أناه الفردية الناهضة بوعيها العصري، وكان مؤدى ذلك وقوعه في التناقض لعدم بلوغه حيز الحسم بينهما والانحياز إلى ما تصبو إليه ذاته، ويقر هو نفسه بذلك ويهمس معترفاً لفتاته التي أحب في قصة «يا دمشق»:  
«إنني أحببتكِ بصدق، ولكنني أخشاكِ... إنني أشعر بأنك قادرة على امتصاصي بطريقة ما تدمر السيادة التي يمارسها أبي على أمي! خبرتكِ التي أحبها أخاف منها.. لقد كانت سوزان على حق، إنني متناقض!». وفي قصة «قطع رأس القط» تُظهر الكاتبة على نحو أوضح تأرجح بطل قصتها بين أناه الجمعية المتمثلة بصوت الخاطبة، وأناه الفردية المتعلقة بصوت الفتاة اللبنانية التي أحبها حين التقاها في باريس. وفي الوقت الذي كان يغريه فيه صوت الخاطبة المنبعث من الماضي بعروس فاتنة بسحرها ومغرية بطاعتها المطلقة لأوامره، يحضر إليه صوت فتاته اللبنانية التي أسرته بقوامها الفارع وبياضها النقي وشدَّته بقوة شخصيتها وبجرأتها، وهي تقول له: «أنا لست نسخة عن أمي، أما أنت فيناسبك أن تكون نسخة عن والدك حرصاً على مكاسبك»... ويردد بداخله: «إنني أخاف الزواج منها وأتمناه في آن»... ويبقى على امتداد السياق القصصي أسير الصوتين معاً، في حين أن الراوي يُظهر انحيازاً بائناً للصوت القادم من حبيبته الشابة والذي أودعته غادة السمان في حنجرتها باعتباره يتوافق مع أفكارها ورؤيتها القائمة على إدانة الإرث الجمعي الذكوري التي أعلنت عنها بصيغة صريحة في كثير من مقالاتها وحواراتها المنشورة في عديد من كتبها... بهذا المعنى نستطيع القول إن غادة السمان تكتب  قصة الفكرة المسبقة وتختار لها الشخصية المناسبة لمقاساتها المضمرة التي لا تخرج عن طاعة تجسيد طروحاتها وأفكارها، الأمر الذي يفسر ضآلة المسافة بينها وبين شخصياتها، إذ يمكن لها أن تتقلص لتبلغ حد التماهي معها، كما يفسر اعتمادها شبه الكلي على تيار الوعي وأسلوب الترجمة الذاتية في غالب مساحات السرد، وهو ما يعتبر محاولة لإيهام القارئ بأن الأحداث الجارية في السياق القصصي حقيقية وليست خيالاً على حد توصيف ميشال بوتور، ومهما يكن من أمر، فإنه- في هذا الصدد - لا يضير غادة السمان أو سواها الاستفادة من مكابداتها ومن إعادة إنتاج معاناتها المعلنة وغير المعلنة، فهي في المحصلة النهائية امرأة تعيش مواجع النساء في المجتمعات العربية، وهذه المواجع لا تنمحي بالتقادم، لأن اللحظات الماضية لا تموت بل تبقى منتظرة لحظة استرجاعها في الذاكرة الواعية كما يقول مارسيل بروست، ويبدو أن غادة السمان قد استقت كثيراً من هذه الذاكرة الواعية في مساحتها القصصية، لاسيما أن الشخصيات التي تعتمد عليها في تجسيد الحدث غير عادية وغير بعيدة عن الوسط التعليمي والثقافي، بل إن عديداً منها يمكن اعتباره في عداد النخبة المثقفة (الإنتلجنسيا).

فضح السلطة
 وإذا كانت في بواكيرها القصصية  قد عمدت إلى مقاربة آلامها الاجتماعية وما أصابها من سلطة أعرافها وتقاليدها، فإنها مضت في ما بعد لتقارب ممارسات النظام السياسي عليها وعلى بنات جنسها أيضاً... وإذا كانت قد استخدمت عاطفة الحب في فضح السلطة الاجتماعية، فإنها استخدمت الحرب العسكرية العربية وهزائمها في تعرية مزدوجة للسلطتين السياسية والاجتماعية، كشفت من خلالها ضعفهما معاً باعتبار أن الأمة المستعمرة والمحتلة أرضها تشعر بالدونية كما يعبر جورج طرابيشي، وهي أرادت أن تضع هذه الدونية بموازاة الدونية التي توشم بها المرأة العربية، وكرد عليها في آن واحد، ويبدو أن أبرز ما قدمته في هذا المجال يأتي في مجموعتها «رحيل المرافئ القديمة»، وذلك من خلال عودتها في قصة «الدانوب الرمادي» مأساة حرب الخامس من يونيو عام 1967، حيث إن بطلتها العاملة في حقل الإعلام أذاعت بيانات انتصار في المعارك، كما قُدِّمت لها من رؤساء عملها من دون أن تعلم أنها كانت تبث بصوتها عبر الأثير كذبة كبرى أطاحت برأس أخيها ومجموعته الفدائية، وذلك بعد مواصلته الزحف إثر سماعه هذا النبأ، فوقع مع رفاقه في فخ قوات الاحتلال على تلال القدس المر، ما أصابها بالصدمة بعدما بلغها الخبر وبعدما كتب مديرها في الصحافة أن ما جرى نكسة وليس هزيمة، وحين سألته: لماذا خدعنا الناس ببيانات كاذبة... لماذا نموه الهزيمة؟! اتهمها بالعمالة... ولمّا أنّبها على سوء قراءتها نشرة الأخبار ... أجابته: أقرأ أشياء لم أعد قانعة بها... فصرخ بها: اذهبي إلى هناك وانتظريني! فتضحك وهي تتذكر ما يقال عنها في بيروت التي تقيم فيها وتهمس في سرها: إذاً بيروت تتحدث عن فضائحي... شرف البنت عندهم قبل شرف الأرض... وهزيمة الوطن... الفضيحة الكبرى يتخدرون عنها باختراع فضائح صغيرة... من خلال هذه الخلاصات المبنية على التهكم الساخر وعلى مفارقاته المرة تستثمر غادة السمان الخسارات العسكرية العربية لتهاجم ذكورتها الجمعية في عقرها الاجتماعي والسياسي، ولتدين معها أيضاً حاضنها الثقافي ورؤيته الضيقة وغير الموضوعية للأنوثة التي لم تتعدَ فيها الجسد.
وهي في فحوى هذا الخطاب تقدم شروط التشكيل على شروط الواقع، وهو ما اعتبره وارين ورفاقه من ضرورات الفن الروائي لإكساب بنية السرد بُعداً تخييلياً تجاوزت غادة السمان بعوالمه أطر الواقعية التسجيلية التي اتسمت بها بعض قصصها في مجموعة «عيناك قدري»، منتقلة إلى آفاق الواقعية النقدية في عديد من قصص مجموعاتها «ليل الغرباء ورحيل المرافئ القديمة وزمن الحب الآخر» وبلغت حدود الفانتازيا والغرائبية في مجموعتها «القمر المربع».

الحياة المفقودة
إن غادة السمان سعت في مجمل سياقها القصصي إلى إنشاء مقاربة بين المرأة وبين حياتها الأخرى المفقودة، تلك الحياة الحقيقية التي في الغالب لا يحياها المرء كما يقول أوسكار وايلد، لكنها ظلت في معظم مساحتها السردية تدفع إلى نشدانها عبر شخصيات بدت أكثر حيوية في القصص التي قدمتها بأسلوب الترجمة الذاتية،  حيث تحررت فيها من هيمنة الراوي العليم ومن تعليقاته التي يمكن للشخصيات ذاتها تأديتها والقيام بها رغم تفاوت الوعي في ما بينها، ما كان يجب على الكاتبة من خلاله إظهار التباين اللغوي أو ما يسميه ميخائيل باختين التعدد اللساني. وتنوع الملفوظات الجارية في أحاديث وحوارات هذه الشخصيات التي بدا على غالب مفرداتها منطوق الكاتبة ذاتها وفي هذا المنحى المتعلق بالسياق اللغوي، عندها لابد من التأكيد على أنها لم تبلغ في بنيته الانقلاب على أنوثتها ولم تتعالَ على النسوية لتتلبس ذكورية القلم وتجعل بمداده كل ما هو مذكر جميلاً وكل ما هو مؤنث شبقاً، كما تستنتج بعض الدراسات في مقارباتها. إن إطلاق هذه الأحكام وتعميمها على هذا النحو الذي يضع نتاج القاصة والروائية غادة السمان في نسق واحد ليس دقيقاً وليس موضوعياً على الإطلاق، فثمة عديد من شخصياتها الأنثوية تفيض بالعداوة لبعضها، كما في «أفعى جريح والقطة والتمساح المعدني...»،  وثمَّ عديد من شخصياتها الذكورية تفيض بالخيانة والقبح، وخصوصاً تلك التي جاءت مذعنة للأنا الاجتماعية والسياسية العليا، ولسلطة حرب الخامس من حزيران ـ يونيو 1967، ولرجالات الحرب الأهلية اللبنانية، كما في قصص «رجل في الزقاق والديك والدانوب الرمادي...»، وفي ما يتعلق بموضوع الجنس وعلاقاته المطروحة عبر الهزائم الاجتماعية والعسكرية الماثلة في هذه القصص، فإنه لم يكن يدور إلا في فلك الاحتجاج على مفهوم الشرف العربي الذي ظل ضيقاً وقابعاً في حضن الأنثى ولم ينسحب على احتلال وطن وكرامة أمة مازالت تخسر الأرض منذ الأندلس وحتى اليوم!
إن غادة السمان في نصها السردي والنثري أيضاً ما برحت تبحث لبنات جنسها عن شراكة حقيقية مع الرجل الذي صوّرته في غير سياق مقهوراً من سلطة الأنا العليا المدججة بذكورتها الجمعية، فقهرَ المرأة بقهره حتى هتفت بمن حولها في قصة «التمساح المعدني»: «لست بحاجة إلى حماية رجل!» وبعد أن تلمّست في قصة «ليلى والذئب» وآخر قصة «غير بيضاء» ما أصابه وما أصابها من أحكام هذه الذكورة الجمعية ومن أعرافها وتقاليدها، وجدت آلامها قد اختلطت بجراحه وتشابكت آهاته بحسراتها وفي ذروة هذا التوحد قالت:
«رغم الظلام يخيل إليّ أنه يبكي على خدي دمعة انحدرت من إحدى عيوننا الأربع!..» إذاً بقيت غادة السمان مخلصة لفحوى خطابها القصصي، لم تبدل شيئاً من أهدافه التي كُرِس من أجلها... فظل في دائرته ومركزه ينشد اكتمال الذكورة، بالأنوثة واكتمال الأنوثة بالذكورة كما ظل في مبتداه ومنتهاه يؤكد قدر العلاقة بين الرجل والمرأة في حياة لا تستقيم إلا بالحب والاحترام والشراكة المتبادلة.