هل قرأ جاكبسون كتب الجاحظ؟ الحُبْسة الكلامية

هل قرأ جاكبسون كتب الجاحظ؟ الحُبْسة الكلامية

يبدو لي أن الجاحظ (ت 868م)، في هزله وأسلوبه الساخر، قد مهّد لمناهج جادّة مقصودة، تبناها العالم الروسي رومان جاكبسون (ت 1982م)، فلا ندري أطّلع الأخير على ما قدمّه الأول، أم أن القضية إنسانية عامّة تشدّ الناقد اللغويّ إليها؟ وهل نستطيع الحكم على أن زوبعة اللسانيات والفونولوجيا انطلقت من البصرة، وتحديداً من كتاب «البيان والتبيين» ومن عمق الحضارة العربية؟ ما يدفعنا إلى التساؤل: هل بذور اللسانيات عربية المنشأ؟ وكيف نجح استمرار البحث في تطوير علوم اللغة وعيوبها؟ وما مدى التقدّم بعد ألف ومائة عام تفصلهما تقريباً على رصد ظاهرة الحبسة الكلامية؟ فهل تتوصل الدراسات، كذلك، إلى فكّ لغز قضيّة الكلام عند الإنسان؟

كلاهما انطلق من جغرافية اللغة في نطاقها الاجتماعي، بيد أن الجاحظ كان مرتاحاً إلى مفهوم علم اللسانيات الذي نادى به الغرب حديثاً، من حيث نظرته الاجتماعية الثاقبة بعد شكّ وعيان وملاحظة وتجربة فتعميم، ثم إن أسلوبه الساخر وحسن تهكّمه جعلا ميزان النقد عنده صائباً يجمع الجدّ إلى الهزل، فلا يكاد قارئ يميز بينهما، غير أنه ترك لنا تراثاً ثرّاً نعتبره من أهم أساسيات علم الألسنية، من دون أن يذكر لنا منهجه العلمي المتّبع. 
غير أن الجاحظ كتب بالعربية وجاكبسون كتب بالروسية والإنجليزية وترجمت مقالاته إلى الفرنسية والعربية، وعندما تسنّى للمكتبة العربية الاطلاع على أفكاره من خلال كتاب النظرية الألسنية للكاتبة فاطمة الطبال بركة، أجادت الترجمة لبعض نصوصه وأحسنت استخدام مصطلح Aphasie غير معرّب «أفازيا» أو «أفازي» كما عرّبه كثيرون، بل استعانت بلفظه العربي الصائب «الحبسة»، ما جعلنا نوجّه أصابع الاتهام إلى أن جاكبسون قد قرأ بعمق فكر الجاحظ، ونقله نقلاً أميناً إلى لغته، بل أضاف إليه من دراسته الجادّة، فقد حصد قصب السبق في هذا العلم على الأقل في الغرب موضع شهرته، حيث تلقّفه باحثون عرب لم تسمح لهم أوقاتهم بأنْ يطّلعوا على تراثهم العربي. وحسبنا أن نوجّه الدارسين العرب إلى تقصي المسألة، لا إلى توجيه أصابع الاتهام إلى جاكبسون وغيره من علماء الفونولوجية واللسانيات الغربية، بقدر ما يعنينا رصد التأثر والتأثير، ومتابعة المسير في علوم اللغة، وبالتالي انفراد كلّ لغة بخصوصيتها الصوتية على أقلّ تعديل، ولفت أنظار المترجمين العرب إلى مراقبة مصطلحاتهم التي يستعملونها بوصلها بمترادفاتها وبما يقابلها في المعجم التراثي الاصطلاحي العربي. 
فالعربية لغة انسيابية، قوامها السجيّة في النطق والفطرة والملكة المؤدية إلى طريق السليقة التي قد تعتورها، إذاً، مُعوّقات تُقْعدها عن إصدار الكلام والألفاظ المناسبة لها - غير النسيان- حوادث قد تطرأ فتخلّ ببعض أعضاء النطق وآلاته، فصَّلها الجاحظ مُسهباً، كما شغلت اللسانيين في مدارسهم المختلفة، كالقُلة، والعُقدة، واللُكنة، والحُكلة، واللحن، غير الخطأ وهو أصعب تلك العيوب،  وأصبح الندّ القويّ لملكة القاعدة النحوية في استخدام الفصحى. فالخطأ زلّة آنية، واللحن انحراف طريق الإعراب واللفظ والمعنى، وبينهما (الخطأ واللحن) الحُبسة التي توسّعت مفاهيمها بين التراث والدراسات المعاصرة، وهي متعلّقة بشخص المتكلّم لا بما يكتسبه بالعادة، وهذا ما يميّزها من المصطلحات التي سبقت، والتي تأتي بالاكتساب والعادة،  وغير ذلك، بفضل تراخٍ قد طرأ من خطر الأخلاط وغير ذلك.
 ومن أجل أن يصل القارئ إلى معرفة الحُبسة الكلامية، لابدّ من أن نأخذ بيده إلى مجموعة مصطلحات أوردها الجاحظ ذات صلة، وهي مُمَهّدَةٌ تبرز دقة تأثيله للمفاهيم الاصطلاحية وتأصيله لمراحل النّطق  غير السليم باللفظ عبر أدوات النطق المحسّة (مجازاً): اللسان والأسنان والشفتان والحلق, وغير المحسّة: الذهن وتأثيرات العاطفة والانفعال بالوعي واللاوعي, وفي ما سيأتي تفصيل مفاهيم بعضها:

أولاً: التشديق والتقعير والتقعيب
المراد بالتقعير أن ينطق المتكلم بأقصى قعر فمه، ومثله التقعيب (البيان والتبيين)، وعلى ما يبدو أنهما مصطلح واحد داوَلت السليقة لفظيهما بالسماع والتناقل، على سبيل الترادف في الجناس غير التام المضارع.

ثانياً: الحُكلة 
الحكلة في اللغة: أورد صاحب «لسان العرب» أن: «الحكلة كالعجمة لا يبين صاحبُها الكلام، والحكلة والحكيلة اللثغة. وكلام الحكل: كلام  لا يفهم، حكاه ثعلب».
الحُكلة في الاصطلاح: هي غياب المنطق في أداء الكلام، بهدف إبلاغ الشحنة التواصلية المقْنعة، «إذا قالوا في لسانه حكلة فإنما يذهبون إلى نقصان آلة المنطق، وعجز أداة اللفظ حتى لا تعرف معانيه بالاستدلال» (البيان والتبيين). فهي عيب من عيوب السليقة الهادفة إلى إبانة المعنى.

ثالثاً: الرتة 
  كما يبدو من لفظها هي حركة تظهر في اللسان أثناء الكلام، فيظهر اللفظ ناقصاً أو سريعاً، يحتاج إلى انتباه وبداهة. فهي كما عرفها الجاحظ «عجلة في الكلام وقلّة أناة». وهي عيب آخر ينضم إلى عيوب السليقة.

رابعاً: العُقلة 
العقلة في اللغة: ذكر ابن منظور  أن العقل بمعنى الربط «عقل بمعنى ربط، وعقل الناقة أي أحكم ربط رسنها».
العقلة في الاصطلاح: هي نوع من أنواع الحبسة الخَلْقية، مرتبطة باللسان. يقال في لسانه عقلة إذا تعقل عليه الكلام (البيان والتبيين)، أي إذا تعقّل الكلامُ بعد التمام، أي هو انقطاعٌ وتوقّف بسبب عقل  في اللسان، ويبدو أنه توقّف طارئ، أو غير معتاد.

خامساً: العُقدة  
هي مرض يصيب آلة النطق، وتحديداً اللسان، إما التواء أو تشويها.
ذكر صاحب «لسان العرب»: «عقد اللسان ما غَلُظ منه، وفي لسانه عقدةٌ وعقَدٌ أي التواء. وفي لسانه عقدة أو رتج».

سادساً: اللثغة
اللثغة كما جاءت في «لسان العرب»: «أنْ تعدل الحرف إلى حرف غيره. والألثغ: الذي لا يستطيع أن يتكلم بالراء، وقيل هو الذي يجعل الراء غيناً أو لاماً أو يجعل الراء في طرف لسانه أو يجعل الصاد فاء، وقيل هو الذي يتحول لسانه عن السين إلى الثاء، وقيل هو الذي لا يتم رفع لسانه في الكلام وفيه ثقل، وقيل هو الذي لا يبين الكلام، وقيل هو الذي قصر لسانه عن موضع الحرف، ولحق موضع أقرب الحروف من الحرف الذي يعثر لسانه عنه».

سابعاً: اللحن
جاء في «لسان العرب»: اللحن ترك الصواب في القراءة والنشيد، ورجل لاحن ولحانة ولحنة: يخطئ، وفي المحكم: كثير اللحن، والتلحين التخطئة. ولحن الرجل تكلم بلغته. ولحن له يلحن: قال له قولاً يفهمه عنه ويخفى على غيره، لأنه يميله بالتورية عن الواضح المفهوم. وألحن في  كلامه أي أخطأ. ولحن في كلامه  هو الخطأ في الإعراب.
يعتبر اللحن الدافع الأبرز إلى الاستشعار بخطر المرحلة، وغياب السليقة الكلامية والخوف عليها، فهو الخطر الداهم الذي فرض شيوعُه وضعَ القاعدة وهو «الباعث الأول على تدوين اللغة وجمعها، واستنباط قواعد النحو» كما أورده سعيد الأفغاني في «أصول النحو».
ما يعني أن مصطلح اللحن اتخذ مفهوم الخطأ عندما ذكر ابن فارس في مقاييسه: «تنبُّهُ العرب، بعد اختلاطهم بالأعاجم، إلى فرق ما بين التعبير الصحيح والتعبير الملحون»، وما جاء صراحة بهذا المعنى: «فأما اللحن بسكون الحاء فإمالة الكلام عن جهته الصحيحة في العربية، يقال لحن لحناً، وهذا عندنا من الكلام المولد، لأن اللحن محدث، لم يكن في العرب العاربة، الذين تكلموا بطباعهم السليمة» (المقاييس)، ما يمكننا من الإشارة إلى أن ابن فارس أول من استعمل هذا المصطلح الفني كمصطلح مناقض لمسيرة السليقة.
ثامناً: الحُبْسة (Aphasie)
هي موضع اهتمامنا المشترك مع اهتمامات الغربيين والروس، وهي نقيض السليقة الكلامية التي تعني استدرار الكلام وانسيابيته لدى المتكلم في انسجام مع الذهن والذاكرة وأعضاء النطق مصدر الكلام، فما هي؟
الحبسة في اللغة: وردت لفظة الحبسة في لسان العرب (مادة ح ب س) «للدلالة على التوقّف، وتحبّس في الكلام توقف. قال المبرّد الحُبسة تعذُّر الكلامِ عند إرادته، والعُقلة التواء اللسان عند إرادة الكلام».
الحبسة في الاصطلاح: الحُبسة، بضم الحاء، من معوّقات السليقة، وهي خلل يصيب النطق عند الإنسان أثناء الكلام بعد إصابة جهاز النطق أو مركز مؤشّره في الدماغ، وعادة ما يكون جرّاء مرض أو حادث لدى السليقيّ فيقطع الصلة بين حاضر المتكلم وذهنه، بين وعيه ولا وعيه أو التركيز واللاتركيز. اختصر الجاحظ تعريف مفهومها بما  يلي: «يقال: في لسانه حُبسة، إذا كان الكلام يثقُل عليه ولم يبلغ حدّ الفأفاء والتمتام» (البيان والتبيين 1/7) تعوق بيان المعنى. وقد حصر الحُبسة صوتياً لإعاقتها إعرابياً ودلالياً. فهي عند جاكبسون «تعَذُّرٌ في الكلام يتضمّن مجموعة من العيوب تتصل بفقد المقدرة على التعبير،... أو عدم التمكّن من مراعاة القواعد النحوية».
إلا أن جاكبسون ميّز بين نوعين مِنَ الحُبسة حسب النظرية الألسنية (فاطمة الطبال بركة). 
الأول: خلل التماثل أو اضطراب التماثل، يقول: إذا قدمنا إلى مصاب باضطراب التماثل أجزاء كلمات أو جمل فإنه يكمّلها بسهولة كبيرة، فيكون حديثه بالتالي عبارة عن ردّات فعل، فهو يكمل بطلاقة محادثة ما، ولكنه غير قادر على إثارة حوار أو قول جملة لا تكون ردّاً على سؤال أو موقف آلي. 
والنوع الآخر من الحبسة الذي أشار إليه جاكبسون: اضطراب المجاورة، وفيها يفقد المريض كلّ قدرة على تكوين الجملة، لأنّ القواعد السياقيّة التي تنظّم الكلمات في وحدات معنوية أعلى، قد فقدت الروابط النظميّة كحروف العطف وغيرها. 
على ما يبدو، فقد شغلت جاكبسون قضيةُ الحبسة، داعياً في نتائج أبحاثه وتوصياتها إلى أن يقوم الباحثون بأبحاث حولها ويدرسوها بكلّ حذر، ويعتبر أن لها أنواعاً متعددة، لكن الجاحظ قد سبقه إلى ذلك منذ عقود من الزمن بعيدة، إذ فنّد تفاصيل ومصطلحات متفرّعة من السليقة التي كانت هاجسه الأساس، وبالتالي من الملكة اللغوية التي جعلته يراقب فصاحة العربية وبيانها، فكان أن ميّز أنواع الحبسة، بإطلاق تسميات كثيرة من متفرعاتها بمنحييها الخَلقي والذهْني. أبرَزَ فيها خير اهتمام ورعاية، ودقّة مفهومية، بل على العكس ذكر مجموعة مصطلحات تؤدي إلى مجموعة مفاهيم دقيقة كما أسلفت في منهج أبستمولوجي ثاقب.
وعليه، فيمكن أن نميّز بين حبسة مادّية حواسيّة تنجم عن حالة مَرَضية، أو إصابة في أعضاء النطق المرتبط بالذهن، وبين حبسة معنوية ذهنية تنجم عن انشغال الذهن بأمر طارئ يسيطر على لحظات الكلام ومراتبه، بصدمة معنوية تجذب اهتمام المتكلم فتستميله. 
من هنا نجد أن التطور بين مفهومي الحبسة بين القديم والحديث كان ضئيلاً، وسنّة التطوّر لم تعمل فيه فعلتها المتوقّعة، على الرغم من كل تقدّم العلوم التي يشهدها عصرنا. كان أسلوب الجاحظ – الساخر أحياناً - مؤسِّساً لنظريات متقدّمة في علوم اللغة توازي المناهج الألسنية الجادة عند جاكبسون وغيره، ما يدعو إلى توجيه البحوث في علم اللغة المقارن، ليس عند العالمَيْن المذكورين فحسب، بل عند كل الألسنيين المحدثين والمعاصرين، لرصد التراث العربي من داخله ونبشه، وإبراز منهج لساني من الدراسات الدارجة تراعي خصوصية لغتنا العربية، والعودة إلى تاريخهم لمعرفة سيرهم الشخصية في الاطلاع على تراث الحضارة العربية.