ما بين التزمُّت والتمدن

ما بين التزمُّت والتمدن

ثَمَّ غرام صميمي للماضي، تعتصره نفوس أبناء مجتمعاتنا العربية، ومن دون الخوض في أسبابه، فإنه يتملص من مصفاة العقل ومبضع الشك. ولعل هذا العشق المتوهم هو ما يحض على تبني أيديولوجيات ومعتقدات عابرة للأزمان والأوطان، على الرغم من أن مجتمعاتنا لم يكتمل تكوينها الجيولوجي حضارياً وسياسياً، ولم تكف عن الهرولة إلى الوراء. ومع الشكوى والتذمر اللذين غالباً ما يصاحبان أوضاعاً كهذه، وتشويش تنزله بالإنسان لوعة النوستالجيا إلى زمن الينابيع الصافية، فإن الادعاء الأخطر الذي تلوكه ألسنة عشاق الماضي هو أن زمننا الحالي يشهد تفسخاً أخلاقياً وعوزاً في الممارسات السلوكية القويمة.

وهو ادعاء يفتقد  الدقة، وربما انطوى في داخله على استسلام لإغواء تأطير العلاقات الإنسانية، أو رغبة بفيضان جديد من التزمت،فالمتزمتون هم من يسعون إلى فرض آرائهم وسلوكهم في الحياة على الآخرين، ويذهبون في ذلك إلى النهايات القصوى، إذ يتوسَّلون في تحقيق أهدافهم القسر والإكراه بطرائق متنوعة تبدأ بالضغط الاجتماعي وتنتهي بالضبط القانوني.
ولكن الماضي لم يكن بمقاييس أخلاقية أو معنوية أرقى وأفضل حالاً من زمننا، وبرهان ذلك مطروح في كتب التاريخ والتراث، إذ إن الأزمة التي تعانيها مجتمعاتنا هي ضرب من العطب الشامل الذي  أصاب الآليات الاجتماعية، فجعلها تكف عن القيام بوظائفها، فنتج عن ذلك انسحاب التسامح والاحترام المتبادل في مجتمع كبير ومعقد بصنع حيز واسع للأفراد، يعيشون فيه حياتهم الخاصة بسلام  ومن دون عدوانية أو سطوة.
القضية هنا تتعلق بالتمدن، وتحديداً مجموعة العادات والطقوس غير الرسمية المتعارف عليها التي تيسر تفاعل الأفراد في ما بينهم، ومن ثم فإنها تتضمن طرائق معينة حينما يستعينون بها يحسنون معاملة بعضهم. والأهم من ذلك أن التمدن يصنع فضاء اجتماعياً وسيكولوجياً يتيح للبشر إمكانية أن يعيشوا داخله حياتهم الذاتية، ويقوموا  باختياراتهم الخاصة. وفي ارتباطه بالأخلاق، لا يجب النظر إلى التمدن وتعريفه انطلاقاً من القشور الاجتماعية، فالتحرش والمشاجرات وإطلاق الكلمات البذيئة في المجال العام ليست سوى مظهر سطحي لانسحاب التمدن من المجتمع، ولكن للدقة والوضوح، فإن اضمحلال التمدن يعكس صورته العميقة فساد السياسيين واستخدامهم نفوذهم في اغتصاب مكاسب رخيصة، وتصفية رهط منهم لخصومهم بسلاح الفضائح والافتراءات. ولعل المرايا الصافية التي نبصر من خلالها انحلال التمدن في مجتمع ما، تتمثّل في الحروب الأخلاقية المتبادلة بين الخصوم السياسيين والأدباء والفنانين.
حينما يغيب التمدن عن مجتمع ما، تغيب عنه  المشاعر الاجتماعية وتحل مكانها الريبة والتوجس والحرص الشديد على الكتمان وعدم الكشف. فتشرع الجماعات في التحلق حول هوياتها الصغرى وحفر خنادقها المجتمعية، فالهاجس في مثل هذه الأوضاع يكون حماية النفس من خلال أساليب دفاعية وبناء حواجز تدرأ الآخرين. هنا يتشظى المجتمع إلى وحوش صغيرة ينشغل أعضاؤها بتحصين أنفسهم مما يتوهمونه أنانية وتغولاً من الآخرين، وتلك هي البيئة المثالية التي يترعرع فيها  التزمت ويزدهر، ومن أوضاع كهذه تصدح حناجر المتزمتين بحتمية العودة إلى قيم الماضي القديم، لأنها، حسب ما يدعون، البلسم الشافي لعلاج أمراض ما يرونه مجتمعاً متفسخاً!
هؤلاء المتزمتون يتكررون عبر الزمن، فكل منهم كان يرى عصره في أزمة ومنحدر نحو الهاوية، والمهووسون منهم يذهبون إلى  أبعد من ذلك بالقول إن  ثمّة فوضى عملاقة تضرب أطنابها في العالم، وإنها آية على أن زمنهم سيشهد نهاية العالم، وما ذلك سوى محض وهم وهذيان بارانويائي (عظامي)، لأنه ينطلق من فرضية خلاصتها أنه في مكان ما وزمن ما هناك شيء مفقود، وقد كان موجوداً في زمن صافٍ ونقي لم تلوِّثه المشكلات والأخطار، وذلك تناقض ينبذه العقل ويمجه، ونمط تفكير كهذا سيفتقر تلقائياً إلى الحساسية والتسامح والعطف والخيال والتفاهم والرحمة، كما أنه سيصطبغ بالغطرسة مادام من يتبنونه يؤمنون بأنه الوحيد المقبول في الحياة، وذلك ما يقدم الذرائع لأفعالهم وسلوكهم، فهم يعتقدون أنهم يحملون على عاتقهم واجباً مقدساً في دفع الضرر عن الآخرين، فلا يتوقفون بذلك عن احتكار الحكم الأخلاقي، بل يستولون على حقوق الآخرين في تقرير ما في مصلحتهم.
المتزمتون تنفتح شهيتهم على السيطرة على كل مظاهر الحياة، وفي الحيزين الخاص والعام، وكل ما يحتويانه من تفصيلات، فإشعاع عيونهم مسلط على المرأة وجسدها، يرهقهم تحرُّر هذا الجسد ولو في أضيق الحدود، كما لو أن صراعاً دامياً مع الغريزة يمور في دواخل نفوسهم، ويسعون قدر الإمكان إلى انتزاع حق صاحبة الجسد في تقرير مصير جسدها، والمتزمتون يرغبون في احتلال الحيز العام بتصوراتهم وتعليماتهم، فيرسمون مخططاً تفصيلياً يغطي أوجه حياة الفرد اليومية وعلاقاته وصداقاته وعمله، يخضعه للمراقبة والمعاقبة ويسيطر على ذهنه وجسده، فالمجتمع المثالي في نظر هؤلاء يمسخ أفراده إلى جماجم فارغة وأجساد طيعة على النحو الذي تنبَّأ به ألدوس هكسلي في «عالم جديد شجاع».
عالم كهذا لن يحيا فيه سوى الجبناء والانتهازيين ممن يبرعون في عدم قول الحقيقة، ويتفننون في المداورة ويمقتون ضوء الشمس والوضوح. ولكن التمدن على النقيض من ذلك، يطلب الشجاعة ويعدها صفة ملازمة له، والشجاعة في اقترانها بالتمدن ليست ذلك الصنف الذي يجري تعريفه بالقدرات الجسدية أو السلوك في ساحات الوغى، بل هي الشجاعة بمعناها الروحي العميق، في أن يكون الإنسان قادراً على مواجهة الجديد وقبول المختلف، وأن يصون إنسانيته حينما يتقلب بين حلو الحياة ومرِّها، ويواجه المجهول وما يحمله الأفق البعيد بصبر ورباطة جأش.