إلى أن نلتقي

  إلى أن نلتقي

لا... لكل هذه البشاعة

  • كيف نسمح للعالم أن يكون بهذه البشاعة؟

تساءلت الفتاة الأمريكية الشابة «راتشيل كوري» في واحدة من رسائلها لأمها من فلسطين حيث جاءت إليها في بداية عام 2003 مع وفد التضامن العالمي لمساندة الشعب ضد الاحتلال. رأت «راتشيل» وعرفت الكثير عن الألم والحصار وحين قررت أن تحول سؤالها إلى فعل ووقفت بجسدها في وجه جرافة إسرائيلية كانت متوجهة لهدم منزل فلسطيني في رفح.. لم يأبه سائق الجرافة لندائها ولا لملابسها البرتقالية شارة الوفد العالمي، بل وسخر أيضا من يقينها بأنها الأمريكية البيضاء التي لن يستطيع أحد أن يؤذيها، ودهسها سائق الجرافة بقلب بارد وبعينين مفتوحتين ولعله قهقه أيضا كشيطان رجيم، ودفعت الشاعرة الرسامة المرهفة والمفعمة بالعواطف الإنسانية حياتها ثمناً لموقفها الرافض للظلم أيًا كان مصدره وأينما كان.

سقطت راتشيل قتيلة تحت الجرافة لكن أصداء سؤالها عن البشاعة مازالت تتردد قادمة من أعماق الهمجية الإسرائيلية في لبنان التي دمرت بنيته التحتية وقتلت ألفاً وجرحت ثلاثة آلاف وهجّرت مليونًا من أبنائه هم ربع سكانه لتعيده إلى القرون الوسطى كما هو أحد الأهداف المعلنة للحملة العسكرية الإسرائيلية إن في لبنان أو فلسطين.

يذكرنا سؤال البشاعة هذا بما سبق أن قاله كاتبنا نجيب محفوظ إن الإنسان جديد والوحش قديم فرغم أن النمو التاريخي للإنسان من الوحش قد استغرق آلاف السنين حتى يستوي الإنسان إنساناً فقد أخذ الوحش يطل برأسه مجدداً منتصراً على الإنسان في لحظة ظلام عالمي، وساد منطق القوة بديلاً عن الحق، والمنفعة العارية بديلاً عن القيم الإنسانية، وانتعشت في ظل هذا المناخ الرديء كل الحركات العنصرية مثل الصهيونية والتفرقة العنصرية والاستغلال الكثيف، وهي حركات معادية بطبيعتها لإنسانية الإنسان توقظ الوحش في داخله حين يغريه الضعف الذي أصاب دعاة الحق والإنسانية. وأن المرء ليقف مذهولاً أمام قدرة الجيش الإسرائيلي ـ الذي يسمونه جيش الدفاع ـ على التوحش في حربه المخططة بعناية ضد المدنيين والتي تتنافى مع كل الاتفاقيات والمواثيق الدولية وحتى مع قوانين الحرب نفسها حتى أن أحد المعلقين وصف هذا الجيش قائلا إنه نسي القتال فتخصص جنرالاته في أعمال القتل والخراب وقصف البيوت على رءوس أصحابها.

هكذا يطل الوحش برأسه ومخالبه لكن الإنسان يظل على ضعفه وقلة حيلته ـ يقاوم، وهنا تبرز قوة الضعفاء الذين يستدعون تضامن بعضهم بعضًا، وعلى الصعيد المحلي في البلدان المنكوبة بالاستعمار تنهض المقاومة، يطل الإنسان برأسه على الدمار الذي أحدثه الوحش وهو يبتسم حزيناً لكل ما جرى عاتباً على اللامبالين الذين يقول لسان حالهم «أنا مالي» و«أنا ومن بعدي الطوفان» وهم في هذا الموقف يصبحون، (اللامبالون)، أقرب إلى الوحش منهم إلى الإنسان حين يرون أن ما يجري هو شيء طبيعي.

وبما أنه لا شيء عظيمًا حقًا يمكن أن يتحقق في الحياة من دون ألم فسوف يتألم البشر من أجل التغيير إلى الأفضل، سوف يتألم لبنان وتتألم فلسطين والعراق ويتألم كل المبالين في هذا العالم لأن الإنسان في داخلهم خرج نهائياً من الوحش فقدموا ردهم الضمني على سؤال «راتشيل كوري» قائلين: لا لن نسكت على هذه البشاعة، وأخذوا يحتجون، يفعلون ما تمليه ضمائرهم، يتظاهرون ويجمعون المعونات ويطلقون الشعارات التي تمرغ إسرائيل ورعاتها في الوحل.. ولم لا؟.. ألا تعود إسرائيل بعدوانها الهمجي إلى سيرة الوحش؟.. إلى ما قبل القرون الوسطى؟!.

 

فريدة النقاش