السلاجقة

السلاجقة

السلاجقــــة عشائـــــر تركية سكنت بالقرب من مجرى نهر سيحون، وتسميتهم بالسلاجقة نسبة إلى كبيرهم سَلجوق بن دُقاق. في عام 345هـ/956م ارتحل سلجوق وعشيرته إلى قرب مدينة جَنْد، وهي مدينة عظيمة من مدن تركستان، وخوارزم أقرب ما يكون إليها من البلدان. وفي الجند دخل سلجوق الإسلام، فصح إسلامه وتحمّس للدين الجديد الذي وجد فيه العدالة والنزاهة والصدق والنقاء.

جاء من بعد سلجوق خلفاً في قيادة العشيرة طغرلبك، وفي عهده ارتحلت العشيرة إلى بُخارى. وفي ظلّ الدويلات الجديدة التي نشأت في العصر العباسي الثاني، بدأ السلاجقة في التوسع ليكونوا دويلة تسيطر على خراسان وخوارزم وطبرستان. وبعد سقوط حكم البويهيين، تقدم السلاجقة إلى العراق، وآلت إليهم الري ومن بعدها أصفهان. هنالك، أصبح السلاجقة ذراع الخلافة العباسية في الشرق، فباسم الخلافة سيطروا على سمرقند ومدن أخرى مثل بُست وهراة وسستان. إنّ صعود نجم السلاجقة في سماء الخلافة العباسية كان تحديداً يوم تدخلهم لإخماد ثورة البساسيري 450هـ/1058م، التي كانت بمنزلة إعلان انقلاب على الخلافة العباسية لمصلحة الدولة الفاطمية، وتسمية المستنصر بالله الفاطمي خليفة وأميراً للمؤمنين، بدلاً من الخليفة القائم بأمر الله العباسي، حيث أُعلنت الخطبة في بغداد باسم الخليفة المستنصر بالله. وفي غضون عام تقريباً، أطاح السلاجقة بالثورة، وفر البساسيري ومَن معه إلى مصر، تاركين بغداد العاصمة لقوى جديدة انتزعت منهم السلطة. لم يكتفِ السلاجقة بذلك، بل أعادوا هيبة العباسيين، بأن أعادوا ذِكر الخليفة العباسي في الخطبة والدعاء له في مكة والمدينة، وأطلق الخليفة العباسي على كبيرهم لقب «سلطان»، فامتدت سلطتهم من الصين إلى الشام. وخلف ألب أرسلان عمه طغرلبك، الذي امتدت فترة سلطانه عشر سنوات، من 455هـ/1063م إلى 465هـ/1072م. قضى طغرلبك فترة سلطانه في حرب الروم، ذوداً عن الخلافة والإسلام، كما اهتم ببناء الدولة ومرافقها، فشق الطرق وأمَّنها، وشيَّد المباني وبنى المساجد، ونشر الأمن، وشجَّع العلم والعلماء. وبعد وفاة ألب أرسلان، آلت السلطنة إلى ابنه ملكشاه (465-485هـ/1072-1092م)، الذي استعان بوزير والده ليدير شؤون السلطنة. كان الوزير السلجوقي نظام المُلْك، الحسين بن علي بن إسحق بن عباس الطوسي (ت. 485هـ/1092م)، من الوزراء الأفذاذ في التاريخ، فإلى جانب ما تمتع به من الحزم والسياسة والعلم والثقافة والفهم في إدارة شؤون الدولة، كان يجمع بين التدين والورع والتواضع. ولعل قراءة سريعة لكتابه «سياست نامه»، أي كتاب السياسة، توضح للقارئ قدرة هذا الوزير في فهم وتحليل الآراء والنظريات السياسية والإدارية، وطرق معالجة المشكلات والأزمات في الدولة، سواء في شكل التنظيم أو في تفعيل العمل المهني والعسكري في الدولة، أو في تجييش الجيوش لمواجهة الأعداء، أو في مكافحة الإرهاب، الذي اتخذ لأول مرة في التاريخ شكل الاغتيالات السياسية، بعد أن ابتدعته ونظمته الإسماعيلية النزارية بقيادة الحسن الصبّاح آنذاك. ولم يدرِ نظام الملك أن نهايته ستكون على يد واحد من فداوية الحسن الصبّاح، الذين عرفهم المسلمون باسم «الباطنية»، ووصمهم التاريخ باسم «الحشاشين». وفي نظام الملك قال الشاعر شبل الدولة مقاتل بن عطية:
كــــان نــــــظام الملـــــك لــــــؤلــــؤةً
يتيمةً صاغها الرحمن من شَرَفِ
عَزَّت فلم تعرف الأيام قيمتها
فردها غيرة منه على الصَّدَف
ِ
وجَّه ملكشاه جهوده إلى الأعمال الحربية وهدم أوكار الإرهاب وقلاعه المنتشرة في العالم الإسلامي آنذاك، إضافة إلى تحصين المدن وإقامة القناطر والجسور وحفر الترع والقنوات، كما شجع العلم ونشر الحضارة، ومن الأمثلة الدالة على تشجيع السلاجقة العلم والعلماء، تشييد صروح العلم كالمساجد والمدارس والمرصد الفلكي في مراغة، إذ استعان السلاجقة بجهابذة الفلكيين لبناء ذلك المرصد، وكان من بينهم عمر الخيام وأبو المظفر الأسفزاري وميمون ابن النجيب الواسطي. ولم يكن عمر الخيام شاعراً فقط، بل كان عالماً بالرياضيات والفلك، وحين كتب كتابه «التقويم الجلالي» جعل المعادلة الفلكية في التقويم السنوي من الدقة بمكان، بحيث يكون النسيء فيها يوماً واحداً كل ثلاثة آلاف سنة، وقيل خمسة آلاف سنة.
ولعل تأثُّر السلاجقة بالفرس علماً وأدباً وثقافة وفنّاً، الذي انعكس على أسلوب البناء، أظهر طرازاً جديداً في مبانيهم، جمع بين الهندسة والفن، يبرز جماله من الصور الجدارية والزخرفة الفنية لوناً وشكلاً. وقد وَضُحَ ذلك في أسلوب بناء القصور والمساجد، كمسجد الجمعة بأصفهان والجامع السلطاني الكبير ببغداد. واعتنوا ببناء القبب والأضرحة على القبور. كما تجلت أيضاً عنايتهم ببناء المدارس التي اعتبروها قصور العلم وحصون الدين. وأفضل مثال على ذلك، سلسلة المدارس التي أسسها نظام الملك، والتي سُمِّيت باسمه «المدارس النظامية». شُيدت مباني تلك المدارس وفق أسلوب معماري جمع بين روح الهندسة وفن البناء في فارس والعراق آنذاك، وكانت تضم داخل أسوارها مسجداً وسكناً للطلاب وسكناً آخر للمعلمين ومكتبة وأروقة وإيوانات تحيط بحديقة ذات نوافير.
 لقد جمع نظام الملك بين السياسة والعلم والأدب، فرصد أموالاً طائلة من ميزانية الدولة لبناء تلك المدارس، حتى قيل إنّ الأموال التي أُنفقت على تلك المدارس كافية لإعداد جيش كبير يعصف بالقسطنطينية عاصمة الروم. لقد كان لنظام الملك الفضل في نشر العلم والثقافة، حين انتدب كبار العلماء في العالم الإسلامي آنذاك للتدريس في تلك المدارس، ومن أشهرهم أبوحامد الغزالي. ولا ندري لمـــــاذا هُدمت تلك المدارس، حتــــى إنـــــنا لا نجد اليوم أطلالاً تدل عليها أو على أماكنها.

مئذنة جام