حضارة الشركس

حضارة الشركس

أجمع المؤرخون على أن الشركس من الشعوب العريقة، وتاريخهم غائر في القدم، الذين سكنوا  بلاد القوقاز الواقعة بالقرب من بحر قزوين وشمالي البحر الأسود، ويرى ابن خلدون في تاريخه ويشاطره الرأي القلقشندي في كتابه «صبح الأعشى» أنهم جنس من الأتراك يسكنون صحارى القفجاق، وهم أهل حل وترحال على عادة البدو، ويعتبرهم المقريزي في كتابه «المواعظ والاعتبار» من اللاص والروس في المملكة التتارية المعروفة باسم القبيلة الذهبية، وقاعدتهم على «نهر الفولجا»، وقد أغار الخوارزميون إبان حركتهم التوسعية على بلاد القفجاق الجنوبية، حيث مساكن الشركس، فأخذوا أعداداً كبيرة من رجالهم أسرى، وسبوا نساءهم وأولادهم وجلبتهم التجارة رقيقاً إلى الأقطار العربية.

مما يثبت قِدَم هذا الشعب، أن المؤرخين والكتّاب اليونان والرومان قد ذكروهم في مؤلفاتهم، وصرّحوا بأن الشركس امتلكوا جنوبي القفقاس، وظلوا فيه قروناً طويلة، وخلفوا فيه آثاراً تشهد على رقي حضارتهم، وأبرز من كتب عنهم هيرودوت «أبو التاريخ اليوناني» في كتابه «تاريخ شعوب القفقاس في القرن الخامس ق.م»، وابن جنسه العالم الجغرافي «سترابون» في مؤلفه «بلاد القفقاس في القرن الأول ق.م». كما ذكرهم الكاتب الروماني «بلين» حاكم ولاية بيثينيا بجوار البحر الأسود في القرن الثاني الميلادي، بشهادة المؤلف يوسف جوناتوقة في كتابه «تاريخ القوقاز»، إذ قال إن ذكر القفقاس وشعوبها يرد في نقوش الفراعنة بمصر والآشوريين في بلاد ما بين النهرين.
وبعد أن استقر هذا الشعب في بلاده وأسس مدنه وحواضره، بدأت المؤامرات تحاك ضد كيانه، وتوالت الحروب عليه لاستبعاده عن أرضه وامتلاك بلاده طمعاً في خيراتها، فكانت أشرس تلك الحروب حملات المغول والتتار في القرن الثالث عشر الميلادي.
 وفي القرن الثامن عشر بدأت الحروب الروسية الشركسية التي نتج عنها تهجير الشركس من بلادهم، فتوجهت مجموعاتهم تحمل الذل والهوان إلى بلاد الغربة، فقصدوا بلدان الدولة العثمانية والبلاد العربية، فنزلوا في سورية والأردن وفلسطين ولبنان والعراق ومصر، وخلال استيطانهم في تلك البلاد تصادموا مع شعوبها في أول الأمر، ثم جرت مصالحات في ما بينهم واندمجوا في مجتمعهم، وساهموا في تطوير بعض المناطق القاحلة التي سكنوها، فأحيوا الأرض الموات، وأسسوا قراهم الخاصة بهم، ومارسوا ثقافتهم وحافظوا على تراثهم، فعززوا عاداتهم وتقاليدهم خشية عليها من الضياع وسط بحر من الثقافات الغريبة.
وبالعودة إلى حضارة الشركس، التي نجدها متمثلة في ميادين عدة، أبرزها: لغتهم، والأزياء المتميزة، التي لم يتخلوا عنها مهما أغرتهم الأزياء العصرية، والفنون التي حملوها من بلادهم كالموسيقى والغناء والرقص، إلى جانب عاداتهم وتقاليدهم التي ورثوها عن الأجداد، في مسألة الزواج، والتربية الأسرية، واحترام شخص المرأة وغيرها.
ولا ريب في أن الأجيال المتعاقبة من الشركس قامت بدور كبير للحفاظ على عادات الأجيال القديمة وتقاليدهم، باعتبارها الموروث الأهم الذي يحفظ حضارتهم وثقافتهم المتميزة عن بقية حضارات الشعوب الأخرى.

دور اللغة في حضارة الشركس
في ميدان اللغة الشركسية التي تعد المعيار الأساس في حفظ الهوية الشركسية، نجدهم يؤكدون أنهم إذا أضاعوا لسانهم أضاعوا تاريخهم وحضارتهم، واللغة في نظرهم هي وعاء الموروث الثقافي والهوية القومية، فهي تحمل في ثناياها تجارب المجتمع الثقافية والحضارية، وهي ذاكرة الأمة ومخزن تراثها ومفاهيمها وقيمها.
ومن هذا المنطلق يرى محيي الدين توق في «رسالة الحفاظ على التراث الشركسي أن للشركس لغة خاصة بهم منذ القدم، فهي لغة ذات أصول وقواعد كتابة ومحادثة، وقد تطوّر مفهوم اللغة عندهم، وزاد الإقبال عليها حتى أصبحت تدرس اللغة والأدب في البلاد الأم في مستوى الجامعات، وتمنح فيها الدرجات العلمية العليا كالماجستير والدكتوراه.

الأزياء الشركسية والحضارة
في مجال أزياء الشركس ودورها في حفظ التراث، تشير عدة مصادر إلى أن اللباس الشركسي هو من أقدم الألبسة المدنية التي عرفها العالم، حيث لم يطرأ عليه أي تبديل أو تعديل أو تغيير، إلا بعض الشيء القليل جداً بشهادة مصطفى الشركسي في «التربية الشركسية»، فالزي الشركسي إذاً موروث تاريخي قديم للشركس قِدَم تاريخهم العريق، وقد وجد هذا الزي مرسوماً على الجدران الصخرية في عاصمة الحثيين الواقعة في تركيا، كما يؤكد عدنان قبرطاي في حديثه عن «الأزياء الشركسية»، ويرى أيضاً أنه يمكن أن نميز نوعين من الألبسة في الأزياء الشركسية، هما لباس الرجل ولباس المرأة، ولكل منهما الصفة الخاصة به التي تميّزه.
فالألبسة الرجالية تمتاز بطابعها القومي، وهي مناسبة للخيالة وللرجال المقاتلين، فكانت مشهورة بخيوطها الذهبية والفضية الموشاة الكثيرة، كما يذكر نقولا بنوت، وهذا اللباس يتألف بصورة عامة من الرداء الخارجي والقميص والسروال، وقبعة الرأس، والزنار مع الخنجر، والحذاء الجلدي ذي الرقبة الطويلة أو القصيرة، إضافة إلى غطاء الرأس الذي كان يرتديه كبار السن، أما عن اللباس الشركسي في زمن الدولة العثمانية، فكانوا  يتقلدون الأسلحة، ويشكون «الفشك» في صدورهم، ويلبسون طرابيش من الصوف الأسود على رؤوسهم المعروفة بالقلابق، ويلبسون بنطلونات من الصوف وسُتر وجوارب في أرجلهم، وفق ما صرّح به قبرطاي في الأزياء.
أما لباس المرأة الشركسية، فقد تم تصميمه بشكل مكمّل للباس الرجل، ليكون مبرزاً لجمال الإناث، وبخاصة الفتيات منهن اللواتي يصبحن فيه رشيقات أنيقات، وإذا صقل هذا الجمال بالأدب والعادات الشركسية وبراعة الرقص الشركسي، أصبحت الفتاة كاملة الأوصاف، هو عبارة عن رداء خارجي تحته قميص شتوي أو صيفي، ثم الثوب والتنورة فالقبعة، وغطاء الرأس، والزنار والحذاء، واللافت أن العائلات الشركسية، منذ القدم، كانت تصنع أكثر لوازمها البيتية بأيديها، وخاصة في ما يتعلق بزيّهم القومي، من غطاء الرأس حتى الحذاء، فكانوا يتفاخرون في إتقانها وجودتها وجمالها، وذلك بشهادة صاحب «الأزياء الشركسية».
ومن الملاحظ في زمن الدولة العثمانية، أن النساء الشركسيات كن يلبسن الفساتين والأزر، ويتحلين بالحلي الذهبية والفضية ونحوها، ولهن عوائد خاصة بهن، فالبنات منهم معرضات لنظر من يراهن، فلا يستحين من أحد، ولكن متى تزوجن يحتجبن حتى عن أقرب الناس إليهن، ويضعن على صدورهن صوانات من خشب، وهو المشد الجلدي الذي تلبسه الفتيات الشركسيات منذ طفولتهن كي لا يظهر بروز الصدر، لأن ذلك من العيوب عندهن، ويؤكد قبرطاي أن هذه العادة غير الصحية قد تركت منذ حوالي قرن من الزمن. ويضيف محمد ماشروق في «الزواج عند الشركس» أن الفتاة الشركسية لا تخلع هذا المشد إلا يوم زواجها، حيث يقوم العريس في خلوتهما الأولى بقطع خيوط المشد بخنجره، دون أن يجرح عروسه، ولا يسمح للعريس بأن يفك الخيوط بيده، ومنه تعرف عروسه مدى دقته في استعمال سلاحه الفردي.

الفنون الجميلة والثقافة الشركسية
تجلّت ثقافة الشركس في الفنون الجميلة كالموسيقى والغناء والرقص، فـ«الموسيقى الشركسية» لها مكانة مرموقة في نفوس أبناء الشعب الشركسي، إذ تشكّل عصباً حيوياً فاعلاً في حياتهم الاجتماعية، كما يقول فيصل جلاجح في «لمحات من الموسيقى الشركسية»، فهي مليئة بالألحان التي يرافقها الغناء الراقص، وغنية بآلاتها الموسيقية العريقة التي اخترعوها بأنفسهم، والموسيقى قديمة جداً في المجتمع الشركسي لما لها من صلة بابتهالات العبادة، ونشر التعاليم الدينية والأعراف والقوانين التربوية من خلال الأغاني التاريخية والاجتماعية، كما توجد لديهم أغان للحرب، وللحب، على حد قول إيمان البقاعي في «الوطن في أدب الشركس».
 والموسيقى الشركسية منها الرقيق المنعش للقلوب، ومنها المحزن المؤثر، ومن الآلات الموسيقية عندهم «الدفة الخشبية» (الطبل) وهي على هيئة طاولة يضرب عليها بالعصى لتعطي إيقاعات مختلفة تواكب الغناء والرقص، كما استعملوا الناي، وخاصة من قبل رعاة الخيل والمواشي، واستخدموا آلة الأكورديون لأنها أكثر ملاءمة لتفجير طاقات الراقصين، فهي رمز السعادة في الحفلات والأعراس الشركسية.
أما «الغناء الشركسي» فهو متعدد الاتجاهات، وفق ما ذكر، فهناك الأغاني التي توصف فيها الحياة اليومية والوقائع الحربية، والحب والجمال، والنكت والنوادر المسلية المضحكة، كما تحتوي على تفاصيل الوقائع الحربية التي خاضها الأجداد، أما الأغاني الشعبية الشركسية، فهي ذات محتوى غني متعدد الجوانب، فهي بطولية طقوسية، وتاريخية غرامية، وجنائزية محزنة، كما توجد أغان للحصّادين والرعاة والصيادين، وأغان للزواج والأفراح، وغير ذلك، وكلها كانت تؤدى في الاحتفالات العائلية والعامة، وتكون بمرافقة الآلات الموسيقية المختلفة.

الرقص صنو القتال!
و«الرقص الشركسي» لا يقل أهمية عن الموسيقى والغناء، بل هو مكمّل لهما، فبعد أن تسبّبت الحرب في الإطاحة بمدوّنات الشعب الشركسي، وضاعت كتاباته وأفكاره ومعتقداته، فإن الفن الشعبي المتمثل في الغناء والرقص حافظ على التاريخ الشركسي، بل صار هو التاريخ في حد ذاته، لذا يقول المثل الشركسي «من لا يتقن الرقص لا يتقن القتال»، ومن لا يتقن القتال لا يصنع التاريخ، فالرقص هو تعبير عن فلسفة هذا الشعب، وصورة تاريخهم وثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وفق ما جاء في «منتدى التقارير العامة» تحت عنوان «من هم الشركس؟». 
لقد صوّر الرقص الشركسي الحياة الاجتماعية بكل جوانبها، ففي الرقص يتجسّد الجانب الديني، وفيه تبرز الشخصية الحربية للشركسي، كما نجد فيه الجانب الإنساني، فالراقص الشركسي يقتبس الرقص من البحر في تموّجاته، والنسر في تحليقه، والحصان في عدوه، وغير ذلك من مظاهر الطبيعة، إضافة إلى صور من الحياة اليومية من حياة وزراعة وحصاد وغيرها، كما جاء في «قصة الشتات الشركسي».
ويصرح جوناتوقة في «تاريخ القوقاز» بأن الرقص الشركسي يختلف عن رقص الترك والعرب والأكراد وسائر الشعوب الشرقية، ويشبه في الوقت نفسه رقص الأوربيين، وأقرب إلى الرقص الغربي منه إلى الشرقي، إذ تشترك فيه الفتاة والفتى، كما يذكر نقولا نبوت في «رسالته»، كما امتاز الرقص الشركسي عن رقصات الشعوب الأخرى بتناوله كل مظاهر حياة الإنسان الشركسي، فالرقصات تمارس في الأعراس والمناسبات الاجتماعية، وهي تسير وفق التدرّج المنطقي للعاطفة التي تتولد بين الشاب والفتاة، فتبدأ برقصة «القافا» وتتبعها «الإسلامية»، فـ«الزغالات» أو رقصة الحب، وتنتهي برقصة «الودج»، وبعدها يحل الوفاق بين الشاب والفتاة أو الرفض.

الزواج في ثقافة الشركس
يعد الزواج من أسمى العادات الأصيلة في الحياة الاجتماعية الشركسية، فهم ينظرون إليه من الوجهة الأخلاقية والعمرانية، ومن خلاله يتم تكوين العائلات وحفظها، وتعتبر فكرة الزواج والتزويج في ما بين القبائل والعشائر في المجتمع الشركسي أنجح وسيلة لتمتين العلاقات الاجتماعية وتوثيقها ودعمها وفق رأي إيمان تساغة في «الزواج عند الشركس»، ومن عادات الشركس ألا يتزوجوا ببنات أعمامهم وعماتهم، ولا ببنات خالاتهم، لاعتبارهن من أفراد أسرة واحدة، ويعد كل من يخالف هذه القوانين معادياً للمجتمع ولذلك قد يصل الأمر إلى طرده وفق ما ذكره مصطفى الجركسي في «التربية الجركسية».
والزواج في المجتمع الشركسي يتم من خلال أسلوبين، إما الخطف سراً أو خلسة، وهو يكون بالاتفاق مع سبق الإصرار من قبل العريس والعروس، وإما بطلب يد الفتاة من أهلها من قبل وفد مرسل من أهل العريس، ويؤكد محمد وردم في «التحوّلات في المجتمع»، أن أسلوب «الخطيفة» كان جزءاً لا يتجزأ من عادات وتقاليد المجتمع الشركسي، وتعلق صاحبة «الزواج عند الشركس» على كلمة «خطيفة» فتقول: «كلمة كواسا الشركسية ترجمت خطأ إلى كلمة خطيفة، ومعناها الحقيقي «التسلل بالقبول»، ويؤكد هذا الأمر عدنان شكاخوا في «العشائر الشركسية تحافظ على تراثها»، فيذكر أن هذه العادة التي يسمّيها الناس خطأ بزواج الخطيفة، من العادات الشركسية التي كانت متبعة قديماً، وكانت لها طقوس تعبّر عن مبادئ وقيم المجتمع الشركسي المحافظ.
بالإضافة إلى ذلك، تعطي المراجع صورة جميلة عن التقيد بعادات زف العروس الشركسية، ففي الوقت المحدد يستعد شباب القرية ويجهزون خيولهم ويعنون بجمال السروج، ويلبسون الزي القومي، بينما تعنى الفتيات بإبراز زينتهن، ويقوم أهل العريس بإعداد العربات التي تجرّها الخيول المطهمة، كما يعد أهل القرية عرباتهم للمشاركة في فرح جيرانهم، فإن أعلن قائد الركب الاستعداد، وأمر بالانطلاق، هبّ الفرسان بالعربات الذهبية، وانطلقت الفتيات في العربات بالغناء طوال الطريق، فإن وصل الركب إلى مشارف قرية العروس وجد وفداً من أهل القرية ينتظره ليقوده إلى دار العروس، حيث يقام حفل راقص لمدة قصيرة، وحفل غداء للضيوف، ثم تخرج العروس من دار أهلها يمسك بيديها من الجانبين رفيقة العروس، وإحدى قريبات الزوج، وتكون العروس مرتدية أجمل ثيابها وهي مغطاة، والجميع يغني لها أغاني الزواج التقليدية، فإن ركبت العربة وأخذ الفرسان مواقعهم إلى جانبي عربة العروس، انطلق الركب عائداً، في حين تصدح الآلات الموسيقية متناغمة مع الأصوات الجميلة للفتيات، بعد ذلك يتم عقد القران، وتبدأ طقوس الأفراح المتصلة في بيت مستضيف العريس وفي بيت مستضيف العروس، ويتوافد الشبان لإقامة حفلات الرقص والشراب والطعام، وتقام تلك الحفلات ليلاً، وتستمر لأيام وأسابيع، وفق ما جاء في «العادات الاجتماعية» لشروخ، وفي «التحوّلات الاجتماعية» لوردم.

المرأة في ثقافة الشركس
بصفة عامة يعد الأب هو ركن العائلة في الأسرة الشركسية، وهو الحاضر دائماً في كل القرارات والمواقف الأسرية، فهو بالنسبة إلى الأولاد مصدر السلطة والحكمة، يصدر أوامره عن طريق الأم، منتظراً تنفيذها من بعيد، وهو المثل الأعلى الذي يحتذى، وهو يعلق أهمية كبيرة على احترام سلطته، وفي حال حصول تمرّد أو عصيان في البيت، يجب على الأم حل الخلاف، وإذا تعذّر عليها ذلك، فالأب هو المرجع الأخير، وفق ما يذكر إسماعيل في «العادات والتقاليد».
وبالرغم من أن المرأة الشركسية تخضع لزوجها خضوعاً تاماً، فإنها لا تفقد شخصيتها، فهي تنعم بحرية، ولا يتدخل الزوج في أمورها الخاصة، ولا في كل ما يعود لأعمالها المنزلية، وهي المسؤولة عن تربية الأولاد، والزوجة تخضع لزوجها كما تخضع لوالديه، اللذين يعتبرانها ابنتهما، وابنها لا يناديها إلا باسمها، ويحتفظ باسم «ماما» للجدة.
 ومن أسس الثقافة الشركسية احترام المرأة، بل هي على درجة عالية من الاحترام، فهي اجتماعياً امرأة فاضلة كريمة، يجب احترامها وتقديرها في المجالس من الرجال، ولها الصدارة ولا يجلس رجل بحضورها، إلا إذا أذنت له بذلك، فإذا ما طلب مذنب حمايتها، فإنه في مأمن مادام تحت سقفها، وإذا ما التقى أحد الفرسان في الطريق بها، فمن واجبه أن ينزل عن صهوة جواده مترجلاً احتراماً لها ريثما يقطع مسافة بعيدة عنها.
وهذا غيض من فيض من حضارة الشركس، الذين حافظوا على ثقافتهم وتراثهم، على الرغم من المحن التي واجهتهم عبر تاريخهم المرير، من حروب ودمار وتهجير، وأثبتوا أنهم شعب يستحق الاحترام. وتبقى ثقافة الشركس مادة دسمة تجذب إليها الباحثين، لذا اهتم عدد من المؤرخين والكتّاب الشركس وغيرهم بكتابة التاريخ السياسي والحضاري لهذا الشعب، وقد ذكرت جانباً من تلك المؤلفات في سياق هذا البحث، كما اهتمت بعض الجامعات بدراسة تاريخ الشعوب المغلوبة على أمرها، ومن بينها الجامعة اللبنانية، فأوكلت مهمة دراسة تاريخ الشركس وحضارتهم إلى إحدى الطالبات وهي رنا منجد فوفقت في مهمتها، وأعدت أطروحتها بنجاح، ونالت على أثر مناقشتها شهادة الدكتوراه بتقدير مميز، وكان لي الشرف أن أكون ضمن أعضاء لجنة المناقشة، ولما تبين لي أن أخبار الشركس شبه مجهولة لدى معظم الناس، وحتى من قبل بعض المثقفين، وجدت من المناسب أن أعد بحثاً ميسراً بهذا الخصوص، آملاً أن يكون مشجعاً للدارسين والباحثين المهتمين بدراسة حضارة الشعوب المنسية أخبارها.