أجمل مسرحيات توفيق الحكيم

أجمل مسرحيات توفيق الحكيم

ليس لدى العرب سوفوكليس أو  شكسبير أو موليير، حيث إن ماضيهم المسرحي قصير العمر نسبياً لأسباب مختلفة، بعضها اجتماعي، والآخر ثقافي، والثالث ديني، والرابع ديموغرافي. ويعود أول عرض مسرحي – وفق النقاد والدارسين – إلى مارون النقاش، حين قدم اقتباساً معرباً عن «البخيل» لموليير في داره ببيروت عام 1848،  ثم يذكر تاريخ المسرح جهود الشيخ «أبو خليل» القباني من دمشق، ويعقوب صنُّوع في القاهرة الذي لقب باسم «موليير مصر»، قبل أن يهاجر القباني مع المؤلف إسكندر فرح إلى مصر ليسهما إسهاماً بارزاً في تأسيس المسرح العربي مع صنُّوع وسواه في القاهرة والإسكندرية، ويصلا في جولاتهما في ذلك الزمان إلى شيكاغو في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث مهَّد أولئك الرواد جميعاً لظهور المرحلة التالية عبر إسهامات يوسف وهبي، وجورج أبيض، نجيب الريحاني، وسلامة حجازي، وعلي الكسار، وفاطمة رشدي وعزيز عيد، وعبدالوهاب أبوالسعود، وناديا العريس، وعبداللطيف فتحي وسواهم.  

البداية الكبرى للتأليف المسرحي الفني الجاد تعود، بلا شك، إلى ريادة توفيق الحكيم وعلي أحمد باكثير. كانت أولى مسرحيات توفيق الحكيم هي «الزمار» (1930)، ثم تبعتها مسرحيته «أهل الكهف» (1933) المستوحاة من القرآن الكريم، تلتهما «شهرزاد» (1934) المستلهمة من «ألف ليلة وليلة».  بعدها اتجه الحكيم إلى الاقتباس عن روائع المسرح الغربي.  لكن الغريب أن الحكيم لم يقبل على شكسبير، بل راح أبعد من ذلك لينهل صراحةً من تراث الإغريق من دون مواربة أو تمويه. أعزو السبب أولاً إلى تلقي الحكيم دراسته القانونية في فرنسا، وليس في بريطانيا، واطلاعه على أمهات المسرح الكلاسيكي الإغريقي عند إسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس وأريستوفانيس، والكلاسيكي الجديد الفرنسي عند راسين وكورني. في ظل هذا التأثر، ظهرت «براكساجورا – مشكلة الحكم» (1939)، «بجماليون» (1942)، و«الملك أوديب» (1949). لكن الحكيم ما لبث أن عاد إلى مصادره البيئية الأصلية في مسرحياته الاجتماعية العديدة، الطويلة منها والقصيرة، الواقعية أو «الملهاوية»، والتي كتب عديداً منها بالعامية أو باللغة الوسطى – كما أسماها – ليجعلها صالحة للقراءة الذهنية من جهة، وللتمثيل على خشبات المسارح من جهة ثانية. كان الحكيم كاتباً شديد التنوع، لا يثبت على طراز أو تيار.  لكنه، حتى في مرحلته الاجتماعية لم تخلُ أعماله من تأثر ملموس باتجاه الواقعية لدى بعض المسرحيين الأوربيين، وفي مقدمتهم جورج برنارد شو.  وما لبث توفيق الحكيم في أواخر مراحله أن لجأ إلى مثاقفة من نوع آخر، مجاراة منه للذوق الأوربي الجديد والمجدد في فرنسا تحديداً، فكتب بعض المسرحيات من طراز «مسرح اللامعقول»، وبالأخص «يا طالع الشجرة» (1962) و«مصير صرصار» (1966). 
يبدو أن ثمة وجهاً غير معروف لتوفيق الحكيم، كان الناقد المسرحي اللامع علي الراعي أول من كشف عنه النقاب بذكاء وتمحيص في كتابه «توفيق الحكيم... فنان الفرجة وفنان الفكر»، ألا وهو ذلك التناقض الخفي الذي عاشه الحكيم بين نزوع إلى المسرح الشعبي وخشية من ازدراء طبقته العليا له. من جهة ثانية، يشير الناقد فؤاد دوارة إلى شغف الحكيم - الأديب الذي اشتهر بالمسرح الذهني - بالكوميديا الشعبية الخفيفة، محدداً بداية ذلك التوجه في مسرحيته «المرأة الجديدة»، وفي أوبريت «علي بابا» (التي حجبها عن النشر).  يحكى أن توفيق الحكيم روى في رسائله إلى صديقه أندريه في فرنسا، التي جمعها في كتابه «زهرة العمر»، اضطراب مشاعره وهو يماشي الفنان الشعبي كامل الخلعي عبر شارع محمد علي في القاهرة، وهو شارع تجد فيه الفرق الموسيقية الرخيصة
للأفراح والمناسبات الاجتماعية. ويعترف الحكيم في كتاب سيرة ذاتية آخر بعنوان «سجن العمر» قائلاً: «موهبتي سجينة طبعي... ولكني أقاوم». 
ويضيف قائلاً لصديقه الفرنسي: «طبيعتي تميل إلى عدم الأخذ بما يأخذ به الناس جميعاً من أوضاع، هرباً من الابتذال، وشغفاً بالإغراب». ويمضي في البوح: «إني في حالة قلق دائم طوال حياتي. حتى عندما لا أجد مبرراً لأي قلق، سرعان ما ينبع فجأة من تلقاء نفسه. هذا القلق الروحي والفكري لا ينتهي عندي أبداً، ولا يهدأ. إني سجينه سجن الأبد... إني إذ أرفع بصري إلى الحياة الخارجية، وأنسى نفسي الداخلية، يعود إليَّ الصفاء، ويشرق وجهي بروح الفكاهة والمرح. إني أستطيع أن أكون أكثر الناس مرحاً ودعابة وضحكاً. فأنا أملك هذه الروح الفكاهية أحياناً، غير أني لا أجــرؤ على الابتسام طويلاً».

ابن طبقة راقية
لماذا لم يجرؤ الحكيم على الابتسام طويلاً؟ لعل الجواب هو أنه ابن طبقة راقية كانت تجد في الهزل الشعبي على طريقة يعقوب صنّوع، وعلي الكسار ونجيب الريحاني، عاراً تنفر وتشمئز منه. لـذلك، ارتبط اسم الحكيم بصفة «المعتزل»، كما وصف هو نفسه بعض مسرحه بصفة «الذهني» الصالح للقراءة فقط، وليس للعرض.  لكن من يقرأ مسرحيات الحكيم القصيرة المتعددة، التي جمعها في مجلدين ضخمين، «مسرح المجتمع» و«المسرح المنوَّع»، يكتشف كم امتلك المسرحي الرائد من خفة ظل ونكتة ذكية لماحة وتهكم لا يوفر جانباً من المجتمع والسياسة من سهام نقده اللاذع.  لم يتوانَ الحكيم في تسديد سهام سخريته إلى المرأة أحياناً، وإلى الفساد السياسي أحياناً أخرى، متناقضاً مع نفسه في ترفله برضا السلطة إبان عهد جمال عبدالناصر، الذي كان معجباً بروايته «عودة الروح» بصورة خاصة، ثم شنه هجوماً لاذعاً ضد نظام ناصر في كتابه «عودة الوعي» الصادر في عهد أنور السادات.  ويبدو أن الحكيم لم يكن فناناً مجرباً ومتقلباً بين شتى صنوف المدارس والاتجاهات، بل كان إنساناً متقلباً أيضاً في السياسة، لا يستقر على رأي.
لم يكن كل ما كتبه الحكيم ذهنياً، بمعنى عدم صلاحيته للأداء على منصة المسرح عندما يتناوله مخرج بارع وممثلون موهوبون، كما أن مقاربته لمسرح اللامعقول لم تكن متأصلة أوربياً بقدر ما هي متأصلة تراثياً. ولا يقتصر التقارب بين الحكيم وبرنارد شو على بعض المواقف الاجتماعية المتشابهة، بل امتد إلى السخرية الاجتماعية عبر تضمينه حواراً حاذقاً، كما في «الإنسان والسوبرمان».  كان كلّ من الحكيم وشو معنياً بالأخلاق والقيم، بحيث عمل كلاهما جاهداً لتبديد الأوهام حول القيم التقليدية الزائفة، وسلّط سهام نقده ضد الأخلاق البرجــوازية والنفاق السياسي.
 هنا، لابد من الإشارة إلى أن موهبة كاتبنا العربي الكبير لا تقل عن موهبة الكاتب البريطاني الشهير في تناولهما موضوعات شبه تاريخية أو تراثية، فكتب الحكيم «شمس النهار» و«سليمان الحكيم» و«السلطان الحائر»، بينما كتب شو «جان دارك»، «أندروكليس والأسد» و«تلميذ الشيطان». ولو ترجمت مسرحيات الحكيم إلى الإنجليزية، وترجمت مسرحيات شو إلى «العربية»، لربما اختلط الأمر على المتلقي العادي بين هذا وذاك. ربما كانت أجمل مسرحيات الحكيم هي التي نهل فيها من معين المخيلة العربية الخصب، واستلهم أصول التأليف من المسرح الأوربي.

«شمس النهار»... ترويض مهرة أصيلة
هذه المسرحية التي كتبها الحكيم عام 1965 واحدة من أنضج أعماله. شمس النهار أميرة مدللة ترفض الزواج، وتحكم على من ترفضه من خطَّابها بالجلد إذا ما أخطأ الجواب عن أسئلتها. لكن شاباً مجهولاً يدعى «قمر» يتحداها ويستفزها باحتقاره لمجدها وثرائها، فتلتحق به في رحلة إلى المجهول رغم مخاوف أبيها الملك وتحذيرات الوزير. تضطر شمس النهار خلال الرحلة إلى التنكر بزي جندي، والتأقلم مع شظف العيش مع إنسان لا يأبه لماضيها، بل يطلب منها أن تسعى نحو المستقبل عبر فعل إيجابي إرادي وحر. يحاسب الاثنان سارقين لخزينة إمارة، ويعيدان المال لأميرها حمدان الذي يهيم عن بُعد بالأميرة شمس النهار، قبل أن يدرك أنها الجندي أمرد الوجه الماثل في بلاطه. لكن شمس النهار ترفض عرض الأمير حمدان، وتختار أن تبقى مع الرجل الذي أحبها لذاتها وليس لثروتها، فغيَّرها وأيقظ فيها قيماً ما كانت لتفكر بها وهي في كنف أبيها الملك. بدوره، يرفض قمر تضحية الأميرة بمكانتها، ويحثها على أن تعود إلى قصر أبيها لتقوم بالإصلاح من خلال موقعها كأميرة.  
(يذكر أن للمسرحية خاتمتين، إذ عدّل الحكيم نهايتها لمصلحة «المسرح القومي» في مصر حين قُدمت لأول مرة. في إحداهما يعيد قمر شمس النهار إلى مملكتها لتصلح، وفي الثانية يعيدان الأمير حمدان إلى إمارته كي يقوم بالإصلاح). 
ورغم بعض الاستفاضة في الحوارات، والإسهاب في النقاش الذهني أحياناً، تتمتع مسرحية «شمس النهار» برومانسية محببة وفكاهة من طراز راقٍ. كما يمزج فيها الحكيم بين صوفية أفكاره القائمة على زهد إزاء مباهج الحياة الدنيا، وبين نقد سياسي لاذع لفساد السلطة في كل زمان ومكان. تذكّر «شمس النهار» بمسرحية «ترويض الشرسة» لوليم شكسبير، لكن شمس النهار ليست كاترين تماماً، ولا تنتهي الأمور بإذلالها وترويضها لتسلك سلوك الزوجة المطيعة. حمل الحكيم رسالة سياسية وعظية أبعد من ذلك، هدفها الحقيقي هو مجتمعه المعاصر، وتلك هي ميزة الإبداع وليس الاتباع.

«السلطان الحائر»... صراع بين الحب والواجب
«السلطان الحائر» (1960) واحدة من أنضج مسرحيات توفيق الحكيم على الإطلاق، فهي تجمع بين العمق والطرافة.  تبدأ المسرحية بمشهد ثانوي طويل عن رجل حكم عليه وزير البلاد بالإعدام مع أذان الفجر، لأنه تجرأ وقال إن السلطان لم يعتق من الرق. وبحيلة من غانية لعوب، ينجو الرجل من الإعدام، ويكتشف السلطان نفسه أن في قول الرجل حقيقة. كيلا يتجاوز السلطان القانون، يقبل أن يعرض نفسه في المزاد للبيع، على أن يعتقه المشتري على الفور. تدخل الغانية المزاد وتشتري السلطان، لكنها ترفض أن تعتقه. هكذا، يجد السلطان نفسه في موقف غريب ضيفاً على دار للطرب واللهو، بينما يتجمع الناس والوجهاء مترصدين وضع السلطان المريب ضيفاً لامرأة سيئة السمعة. يكتشف السلطان أن الغانية في نظر المجتمع ليست سوى أرملة شريفة لاك الناس سمعتها لمجرد تحررها، فيهفو إليها قلبه.  لكن الواجب يملي عليه وعليها أن يعود ليتبوأ مركزه سلطاناً للبلاد، فتعتقه بعد أن دفعت كل ما تملك من مال كي يمضي ليلة ضيفاً في دارها. هنا، يقرر السلطان أن يهديها أثمن جوهرة يملكها، وهي تعادل أضعاف ما أنفقته لتحظى به ضيفاً. مسرحية بارعة الحبكة، ممتعة وسلسة، لولا طول بعض حواراتها من دون مبرر سوى غرام مؤلفها بالبلاغة وجميل الكلام. يذكر أن «السلطان الحائر» نشرت بالإيطالية (1964)، وبالإنجليزية (1973)، كما قدمها مسرح معروف في موسكو في أوائل السبعينيات بإخراج قام به السوري توفيق المؤذن. وأخرج المسرحية أيضاً المخرج الرائد رفيق الصبان لمصلحة «مسرح التلفزيون» في سورية في أوائل الستينيات.

«سليمان الحكيم»... الحب القاتل والمقتول
استفاد توفيق الحكيم من شخصية سليمان الحكيم، مخضع الجن، ومنطق الهدهد، فجعله يهوى بلقيس ملكة سبأ، التي جعلها تهوى بدورها أسيراً لا يحبها، بل يعشق جارية لها، والجارية معشوقة من قبل الصياد الذي عثر على قُمقم العفريت.  هكذا، عبر دائرة الحب هذه التي تذكرنا بمسرحية المؤلف النمساوي آرثر شنتيسلر «الدائرة»، يعالج الحكيم في مسرحيته المبكرة «سليمان الحكيم» (1943) فكرة الفيلسوف جان بول سارتر «الجحيم هو الآخرون». يكمن جوهر المأساة في هذه المسرحية في أن الإنسان يحب من لا تحبه، ولا يحب من تحبه. ينسج المؤلف العربي من عناصر مستقاة من الأساطير القديمة في «ألف ليلة وليلة» وغيرها مسرحية تأملية ذكية ومعاصرة. لكن مشكلة هذه المسرحية، بالمقارنة مع سواها، أنها «مسرحية ذهنية» بالفعل، تصلح للمطالعة أكثر من التجسيد على خشبات المسارح، إذ إن إنتاجها يتطلب إمكانات محترفة على مستوى عال جداً من الأداء الشامل والتقنيات.

«شهرزاد»... معارضة لليالي العربية
ربما كانت «شهرزاد» توفيق الحكيم أكثر المقاربات المسرحية العربية غرابة لشخصية راوية «ألف ليلة وليلة». وسبق أن قارب علي أحمد باكثير «الليالي العربية» في «سر شهرزاد»، من دون هذا الجموح الغريب، الذي اعترف بغرابته وشاعريته مثقف فرنسي كبير هو جورج ليكونت (عضو الأكاديمية الفرنسية)، وفنان كبير آخر أيضاً هو لونييه بو (مؤسس مسرح الـ «أوفر» في باريس). إن رؤية الحكيم لشهريار رؤية تطهر من الانتقام، بل حتى من الرغبة، في نزوع إلى صوفية شرقية روحانية الطابع. إن شهرزاد نفسها تصفه قائلة:
العبد: أليس هو الذي ذبح في الفراش زوجه الأولى وعشيقها الأسود؟
شهرزاد: ذاك شهريار الأول. أما شهريار الآن، فإنسان آخر... رجل قضى حياة طويلة في قصر  من اللحم والدم!  تقدم له في كل ليلة عذراء، وتذبح له في كل صباح زوجة. آدمي استنفد كل ما في كلمة «جسد»، وكل ما في كلمة «مادة» من معنى، قد استحال الآن إلى إنسان يريد الهرب من كل ما هو مادة وجسد.
العبد: يريد الهرب إلى أين؟
شهرزاد: لا يعرف إلى أين. وهذا سر عذاب هذا المسكين!
العبد: وأين هو الآن؟
شهرزاد: هجر الأرض، ولم يبلغ السماء. فهو معلق بين الأرض والسماء.
ربما كان شهريار كناية عن توفيق الحكيم نفسه، ففي كلام شهريار عن المرأة ذلك الإعجاب المشوب بالخوف، وكأنه يجسد ذلك التناقض الأبدي بين الرغبة في الأنثى، والقلق من سحرها الفتان.
شهريار: قد لا تكون امرأة. من تكون؟ إني أسألك من تكون؟ هي السجينة في خدرها طول حياتها تعلم بكل ما في الأرض، كأنها الأرض! هي التي ما غادرت خميلتها قط، تعرف مصر والهند والصين! هي البكر، تعرف الرجال كامرأة عاشت ألف عام بين الرجال، وتدرك طبائع الإنسان من سامية وسافلة. هي الصغيرة، لم يكفها علم الأرض، فصعدت إلى السماء، تحدث عن تدبيرها وغيبها كأنها ربيبة الملائكة، وهبطت إلى أعماق الأرض تحكي عن مردتها وشياطينها وممالكهم السفلى العجيبة كأنها بنت الجن. من تكون تلك التي لم تبلغ العشرين، قضتها كأترابها في حجرة مسدلة السجف؟! ما سرها؟ أعمرها عشرون عاماً، أم ليس لها عمر؟ أكانت محبوسة في مكان، أم وجدت في كل مكان؟ إن عقلي ليغلي في وعائه يريد أن يعرف... أهي امرأة تلك التي تعلم ما في الطبيعة، كأنها الطبيعة؟
تبدو «شهرزاد» الحكيم كأنها قصيدة معارضة لشهرزاد في «ألف ليلة وليلة»، بحيث تمتلك خصوصيتها وحريتها، لكنها تنأى عن الأصل من أجل التعبير عن فكرة فلسفية خاصة بمبدعها الحكيم.  لكنها ليست المرة الوحيدة التي قارب فيها الحكيم شخصيات تاريخية وأسطورية معروفة بشكل ورؤية جديدين.  

«إيزيس»... أسطورة فرعونية
في قالب إنساني معاصر، يعيد الحكيم في مسرحيته «إيزيس» رواية الأسطورة الفرعونية القديمة عن إيزيس وأوزوريس، وكيف تآمر شقيق الملك (طيفون) على أخيه مرة تلو الأخرى، إلى أن مزق جسده ووزع أشلاءه في النيل. لكن مقاربة الحكيم أنسنت الأسطورة، ورسمت شخصياتها من لحم ودم، بل بالغت في ذلك بأن نزعت عنها هيبة التراجيديا، فجعلتها واقعية عادية بدل أن تحتفظ لها بثقلها الذي يتجاوز البشر. في المقابل، نلحظ عند الحكيم المؤثرات الثقافية نفسها، خُفية إن لم تكن علناً. إن إيزيس تشبه بنيلوبِ في ملحمة هوميروس «الأوديسة». وها هو ذا الحكيم يعلن بقلمه أن بطلته المصرية تتفوق على نظيرتها الإغريقية في أنها لم تكتف بانتظار عودة زوجها وحياكة ثوبها المشهور، بل هبت تبحث وتناضل من أجل هدفها. لذلك، يرى الحكيم أن «الوفاء عند بنيلوبِ هو وفاء سلبي، أما الوفاء عند إيزيس فهو وفاء إيجابي».  لكن «إيزيس»، (التي أخرجها المخرج المصري الراحل كرم مطاوع قبيل وفاته في عرض ضخم وباهر،) لا يعتبرها النقاد بين مسرحيات الحكيم الأجمل. لذلك، لقي العرض هجوماً عنيفاً من النقاد، لم يكن كرم مطاوع يتحمل تبعته في حقيقة الأمر. 
كذلك، نجد «أهل الكهف»، فالذهنية التي يزعمها الحكيم كمذهب واتجاه فني هي في الواقع عذر عن عدم جودة بعض نصوصه درامياً، لأن تلك الذهنية ليست موجودة في بعض أعماله الجميلة والناجحة. إن الذهنية في تلك الأعمال لا تخرج عن وجود قدر من الإسهاب في الحوار الأدبي، الذي يمكن لأي مخرج بارع أن يحذفه بما لا يؤثر في نمو الفعل وسير الأحداث وتطور الشخصيات.

«يا طالع الشجرة»... عبث مقلّد أم أصيل؟
مسرحية «يا طالع الشجرة» هي أكثر مسرحيات توفيق الحكيم غرابة وإثارة للجدل.  تنتمي المسرحية إلى طراز العبث أو اللامعقول. ولكن هل لعبث الحكيم خصوصيته؟  وهل هو حقاً - كما زعم - نابع من مصادر شرقية للحكاية الخرافية والفلكلور الشعبي؟ تتردد أغنية الأطفال في الخلفية بضع مرات، وهي أغنية بلا معنى منطقي:
يا طالع الشجرة
هات لي معك بقرة
تحلب وتسقيني
بالمعلقة الصيني 
لكن «يا طالع الشجرة» سرعان ما تتخذ الشكل البوليسي، وقد تبدو للوهلة الأولى كأنها مسرحية لباتريك هاميلتون أو أجاثا كريستي، وفي أعمق احتمال مثل مسرحية جايلز كوبر «كل شيء في الحديقة».  إن المغزى الرمزي المحض، وليس المجازي، مغزى معقد ومركب بحيث يتجاوز الغموض إلى الإبهام، حتى تبارى النقاد في تفسيرها. تلك لعبة شكلية من الحكيم تفترق عن معظم أقرانه من أقطاب اللامعقول، وخاصة صموئيل بيكيت ويوجين أونيسكو.  نجد الحكيم أقرب إلى ألفريد جاري - وخاصة في «أوبو ملكاً» – وربما إلى آداموف وآرابال في ما بعد. في الواقع، إن مسرح اللامعقول معقول جداً، فقد ظهر أول ما ظهر كثورة على المسرح السائد، سواءً التقليدي أو الجماهيري. لكن مراهنة الحكيم على العنصر الشرقي في المسرحية تقتصر على شخصية «الدرويش»، أما الباقي فغربي في مجمله. حتى البناء لا علاقة له بشكل السلسلة بدل الهرم كبديل للشكل الغربي المألوف. إن المسرحية تبدأ مرتبكة، حيث إن «مشهديتها» المفترضة ربما تبدو عند تجسيدها عملياً عبئاً ثقيلاً على كاهل المخرج، فالممثلون لا يأتون بإكسسوارهم فحسب، بل بقطع ديكورهم. إن تداخل المشاهد له منطق الحلم، إن لم نقل الكابوس. لكن «يا طالع الشجرة» سرعان ما تفرض إيقاعها، وتهيمن بسحرها، وتوحي برموزها. هنا، يؤكد الحكيم لنقاده أنه رجل مسرح، فنان قادر على الموازنة بين الفكر العميق والفرجة الممتعة. إن اختفاء الزوجة المريب، وتحقيق المحقق في احتمال ارتكاب الزوج جريمة قتلها وإخفاء جثتها تحت شجرة البرتقال التي يحبها، يوحيان بحبكة بوليسية.  لكن العلاقة الاجتماعية والبوليسية سرعان ما تتفكك، ويكشف الحكيم تدريجياً - برفق - النقاب عن ألغازها.  المرأة والسحلية الخضراء سيان في ظهورهما واختفائهما، والشجرة رمز الخصب. إن الصراع الأزلي قائم بين الذكر والأنثى: هو يبحث عن المطلق في رحلة الحياة التي أشبه ما تكون برحلة القطار الذي يعمل عليه مفتشاً، وهي تبحث عن الآني الزائل. أما الدرويش، ذلك الشاهد الموجود في كل زمان ومكان، فكأنما يستحضر بقوة الخيال فحسب الجانب الروحاني القادر على استجلاء المستقبل ومعرفة ما يخبئه القدر. إن الصراع الخفي بين الأنثى والذكر، والذي لا يستشعره أيهما كخلاف متفاقم، يولد جريمة القتل، رغم نفي تهمة القتل عن الزوج، فلا يعود المحقق يصدق أنه أقدم بالفعل على قتلها.  لكن قتله الرمزي لها أرجعه إلى طريقه المرسوم وقدره المحتوم الذي تنبأ به الدرويش، إذ لبى نداء روحه في جعل جسد الزوجة سماداً للشجرة.  بالتالي، ففي موتها حياة وتجدد وخصوبة.  لكن رمز السحلية في المسرحية يبقى غامضاً، ولا يؤكد الحكيم أو ينفي أنه إشارة إلى أن الأنثى تغيِّر جلدها! 
إن توفيق الحكيم في دفاعه عن «المسرح الذهني»، أو المسرح الصالح للقراءة فقط، يوقع نفسه في مطب، فالمسرح الذهني أسطورة أطلقها مبرراً خيبة أمله من واقع المسرح العملي. كانت الذهنية هي التبرير الذي غطى به الحكيم حيرته بين الرواية والدراما والمقال، كما في بداياته المسرحية: «أهل الكهف» و«شهرزاد».  لكنه لم يكن إطلاقاً في حاجة إلى ذريعة الذهنية عندما كتب عن أصالة، وليس عن مثاقفة، بعضاً من أفضل مسرحياته.  صحيح أن بعض ملامح مسرحه مبني على الاقتباس والتأثر بمدارس غربية شائعة في عصور متباينة، لكن الحكيم كان من ناحية أخرى كاتباً شعبياً وليس نخبوياً في بعض الأعمال الأخرى، كما كان في أعمال نادرة ومتميزة مؤلفاً استطاع الموازنة ببراعة بين الفكر والفرجة، خاصة في مسرحيتيه «شمس النهار» و«السلطان الحائر». لا شك في أن فكر الحكيم لم يتطور بقدر فنه، فهو فنان هوسه الرئيس هو التجريب في الشكل عبر اطلاعه الواسع منذ إقامته في فرنسا مستفيداً من ذلك للتوليف بين الأصالة والمثاقفة، ولوضع حجر الأساس لكثير من محاولات استلهام الكلاسيك وتحديثه، ولاستيحاء عديد من مدارس المسرح المتباينة، وإحيائها في الأرض العربية بشكل ممتع لرواد المسرح قبل قرائه.