متحف نادر لأدوات «طب الأسنان»
يعد «طب الأسنان» من أقدم العلوم الطبية في تاريخ البشرية، حيث عمل الإنسان جاهداً منذ مئات بل آلاف السنين على ابتكار الطرق والأدوات لمعالجة الأسنان والأضراس وخلعها وتخفيف آلام مرضى الأسنان ومعاناتهم. وفي العصر الحديث افتتحت الأكاديميات العلمية في الجامعات لتدريس هذا النوع من العلوم الطبية، وتعمقت تخصصاته وزاد عدد العاملين به في العالم، كما تطورت التقنيات والأدوات التي يستخدمها الطبيب المعالج، وتحول في قسم منه إلى طب تجميلي.
وقد ظهرت في السنوات الماضية الابتكارات والتحديثات في عالم تجميل الأسنان وزرعها وتحويلها إلى اللون الأبيض، بعد أن يكون الزمن قد فعل فعله فيها من تراكم الطعام وتدخين السجائر ومياه الشرب المضاف إليها الفلور في بعض المناطق، والتي تحول الأسنان إلى اللون الأصفر الغامق المشوه لها, فبات الشخص - وخاصة النساء - يخجل من فتح فمه بسبب لون أسنانه الأصفر. ومع التطور الكبير في علوم طب الأسنان صار هناك ما يسمى «يوم الابتسامة» وهو يوم عالمي لحث الناس على أن تكون الابتسامة دائمة على وجوههم، واستثمر أطباء الأسنان هذا اليوم العالمي اللطيف للتذكير بأهمية المحافظة على الأسنان سليمة بيضاء ناصعة تجعل الابتسامة جميلة وغير محرجة للشخص, حيث تقام جوانب النشاط العلمي والمحاضرات والمعارض في هذا اليوم العالمي الذي يصادف أول يوم جمعة من شهر أكتوبر من كل عام.
وكانت أول انطلاقة له عام 1999، ووفق المصادر فإن هذا اليوم كان بمبادرة من إحدى شركات التأمين الأمريكية، والحكاية تقول إن ممثلي شركة التأمين « State Mutual Life Assurance Company of America» عام 1963 خاطبوا الفنان هارفي بيلا، طالبين منه ابتكار رمز مشرق يسهل تذكره على بطاقة الشركة. وعرض هارفي على العملاء «الابتسامة» وهي عبارة عن وجه أصفر مبتسم. وبالفعل فقد فاق نجاح هذا الرمز جميع التوقعات. وبدأ هذا الوجه لاحقاً بالظهور على القمصان والقبعات والمغلفات والبطاقات البريدية وعلب الكبريت، حتى أن مكتب البريد الأمريكي أصدر طابعاً يحمل هذا الرمز.. وتم في ما بعد اعتماده شعاراً ليوم الابتسامة العالمي.
طبيب الأسنان السوري المخضرم محمد منير أبوشعر، ومع عمله العلمي الطبي المستمر منذ عام 1966، وهو تاريخ تخرجه في كلية طب الأسنان بجامعة دمشق السورية، أي منذ نصف قرن تقريباً وهو يعمل على جمع وتوثيق تاريخ طب الأسنان في العالم من خلال رحلات كثيرة قام بها وأبحاث عديدة نشرها، وكانت النتيجة أنه قام قبل سنوات عدة بتحويل قسم من عيادته الكائنة في منطقة «المجتهد» وسط العاصمة السورية دمشق إلى متحف لعلوم طب الأسنان.
متحف شخص نادر
وضم المتحف مقتنيات نادرة لمفردات هذا العلم الطبي وفتح متحفه مجاناً أمام الزوار وأطباء الأسنان ليطلعوا على المراحل التي مرّ بها تخصصهم العلمي, ويعتبر هذا المتحف الشخصي الوحيد في العالم من نوعه.
إن المتحف من الهوايات النادرة والمدهشة والفريدة في وقت واحد, فما صنعه الطبيب أبوشعر في عيادته يتعدى هواية جمع الأشياء القديمة, إلى تأسيس متحف صغير, يحتوي على أدوات طبية, وأشياء أخرى من عصور مختلفة. ويردد دائماً الطبيب أبوشعر قائلاً: لا يمكن أن أتحرر من صدقيتي... لذلك موّلت المتحف من مالي الخاص.
وفي زيارة للطبيب أبوشعر في عيادته ومتحفه يتحدث بإسهاب واهتمام عن هوايته النادرة كما متحفه قائلاً: إنّ هدفي من متحفي هذا هو إطلاع كل من الزملاء الأطباء ومرضانا الأعزاء على مدى تقدّم مهنة طب الأسنان المذهل والرائع، حيث استطاع طب الأسنان أن يقطف ثمار التقدم العلمي والتقني, وإطلاعهم أيضاً على المعاناة الكبيرة والفعلية التي كان يتحملها كل من الطبيب والمريض عند خلع أو علاج الأسنان، نظراً لقدم وبدائية أجهزة وأدوات طب الأسنان، حيث كانت آلة حفر الأسنان تدار بـ«الرِّجل» في غياب الكهرباء وعلى مبدأ ماكينة الخياطة (مبدأ تحويل الحركة الدورانية من دائرة ذات قطر كبير إلى قطر صغير) لزيادة دوران آلة الحفر، بالإضافة إلى غياب المخدّر والمسكنات وغيرها.
جولة في متحف الطب
نقوم اليوم بجولة في متحف قديم لطب الأسنان... ننتقل بين مقتنيات وعوالم الطبيب محمد أبوشعر. هذا المتحف يُعيد إحياء تاريخ طب الأسنان وتراثه، ويمثل حلقة وصل بين الماضي والحاضر وبين التراث والحداثة.
وتتكدس في المتحف ذكريات المهنة وأدواتها وأسرارها وحكاياتها ومسيرتها. هنا يعيش الطبيب محمد منير أبوشعر بين مقتنياته ولا يفكر نهائياً في الربح، بل في زيادة الرصيد التاريخي للمتحف، لأن ذلك يبعث في نفسه الرضا والسعادة، وهنا يقضي الطبيب أبوشعر معظم وقته وكأن المقتنيات التي تعب وجهد في جمعها أصبحت بالنسبة إليه كائنات حية يحدثها ويشم رائحتها ويسمع نبضها، فهو متعبد في تراث طب الأسنان.
ذكريات السنوات الأولى والخطوات نحو الهدف
بعد نيلي الشهادة الثانوية العامة - يقول أبوشعر - في أوائل ستينيات القرن الماضي, كان حلمي أن أدخل كلية الفنون الجميلة، لكن والدي - رحمه الله - ورغم حبه للفن والتراث عارض ذلك بقوة، لأن دخولي هذا المجال سيجبرني على بيع حتى معطفي؟! لأن الفنون لا تطعم في وقتها خبزاً!... عند ذلك دخلت كلية طب الأسنان بجامعة دمشق عن حب ورغبة وعن سابق إصرار وتصميم، لأن مهنة طب الأسنان علم وفن أيضاً وبامتياز، وفي ذلك يقول أحد الفلاسفة: إن طبيب الأسنان الذي يعمل بيديه هو عامل، والذي يعمل بيديه وفكره هو حرفي، والذي يعمل بيديه وفكره وقلبه هو فنان.
ويتابع: وبعد تخرجي في كلية طب الأسنان عام 1967, أبحرت في ممارسة مهنتي بل هوايتي الجميلة والحبيبة إلى اليوم. ولعلّ ذلك كله كان الحافز والدافع لجمع المقتنيات وتأسيس هذا المتحف، وبمرور الأيام والسنين تحوّلت عيادتي إلى متحف قديم طب الأسنان، انطلاقاً من حبي واحترامي للتراث. وفي أهمية ذلك يقول الشاعر العالمي الكبير رسول حمزاتوف: «إذا أطلقت رصاص مسدسك على الماضي أطلق المستقبل عليك مدافعه».
وسعادتي أن أجد أو أحصل على أداة طبية قديمة أسهمت في علاج وتسكين الألم تبوح بماضي الزمان ومكنوناته. إن كل إنسان يكتب ذكرياته وآماله وأمنياته بطريقته الخاصة، فالبعض يكتبها شعراً أو نثراً أو عبر رسم لوحة فنية، أما أنا فنسجتها عبر متحفي «قديم طب الأسنان»... في المتحف يستوي معدن الذهب الثمين مع معدن الحديد الرخيص، كلاهما له القيمة ذاتها، كلاهما تخلى عن هويته الفيزيائية والكيميائية ليكتسب هوية جديدة أثرية وتراثية.
وفي المتحف تعايش سلمي بين مختلف الأدوات والمقتنيات. هذا المتحف مبادرة فردية قد تكون الأولى من نوعها محلياً وعربياً وعالمياً، وأغلى أمنية هي أن أستكمل المتحف وأقدمه إلى كلية طب الأسنان بجامعة دمشق، وأهم أحلامي أن أحافظ على تلك الثروة التاريخية للأجيال القادمة وابني الدكتور محمد صلاح هو ذراعي اليمنى في دعم هوايتي... لذلك لا أخشى على هذا المتحف من بعدي. وأحب أن أشير هنا إلى أن الزوار والمراجعين والمرضى يذهلون أمام التضارب الواضح والتناقض الجلي بين عيادة طبية حديثة تتسم بالجدّة والحداثة, وبين المتحف الذي يمثل الماضي. وأنا لم أفكر في اقتناء أي تحفة على أنها الثروة المؤجلة، فالموضوع بالنسبة إلي هواية، وأعتبر هذه الهواية بمنزلة الطبيب النفسي الذي يخرجني من حالة التعب والتوتر والاكتئاب. ولم يعد التراث يخشى الاندثار ولا الذاكرة تكترث بالزمن، وبات لمحبي التاريخ وأسراره مكان يطلعون فيه على أروع ما خلدته الحضارات في مكان واحد... وما كان ذلك ليتحقق من دون المتاحف التي غدت مرآة الماضي.
مقتنيات عفا عليها الزمن ومشهد خارج عن المألوف
لقد قمت - يشرح الطبيب أبوشعر - بجمع وتوثيق الأشياء المنقرضة التي لفظتها التكنولوجيا والتي عفا عليها الزمن وأحالها إلى التقاعد. يضم المتحف ماضي طب الأسنان وتراثه من أجهزة وأدوات ومواد وأدوية وكتب ومطبوعات ومعاجم وصور وملصقات ونشرات ومجلات وشهادات منذ بداية القرن العشرين. كما يضم أجهزة حفر أسنان تُدَارْ بالرجل في غياب الكهرباء، ويضم أيضاً جهازاً كهربائياً نادراً لحفر الأسنان، صنعته إحدى الشركات اليابانية قبل أكثر من مائة عام.
وأنا اليوم أبحث أينما اتجهت وأينما حللت وفي أي مدينة أزورها عن تحفة نادرة لها علاقة بالطب بشكل عام ومهنة طب الأسنان بشكل خاص، وكم أنفقت من وقتي ومالي من أجل أن أقتني قطعة أثرية لتزين وتثري متحفي، وأشعر بسعادة بالغة عندما أضيف المزيد إليه. وأنا أتحقق دائماً من نسب وتاريخ الأدوات التي أقتنيها.
وهناك في المتحف جناح خاص لوثائق وصور تؤرخ لطب الأسنان في سورية والمراحل العلمية والأكاديمية التي مرَّ بها. ووفق الطبيب أبوشعر فإن رحلة طب الأسنان في سورية بدأت من التكية السليمانية بدمشق قبل سنوات من انهيار الدولة العثمانية، حيث تم وضع أجهزة ميكانيكية عدة لحفر الأسنان (غير كهربائية)، وبدأ العمل الفعلي بعدد من الأطباء، وقد استمر العمل في تلك العيادة حتى سقوط الدولة العثمانية وقيام الحكومة العربية الأولى بدمشق في عهد الملك فيصل، وصولاً إلى مرحلة الانتداب الفرنسي, وألحقت تلك العيادة في ما بعد بالمعهد العلمي العربي الذي كان نواة للجامعة السورية (أي جامعة دمشق كما نعرفها اليوم)، وتم استخدام غرف عدة من التكية السليمانية لتدريس طب الأسنان منذ عام 1934، ومن المعروف أن كلية طب الأسنان بجامعة دمشق أسست بشكل منفصل ومستقل عن كلية الطب في عام 1958.
بدايات طب الأسنان في العالم
وماذا عن بدايات طب الأسنان في العالم؟... يبدو أن أول زيارة قام بها الإنسان إلى عيادة طبيب الأسنان كانت قبل تسعة آلاف عام, هذا ما خلصت إليه نتائج وأبحاث مجموعة من الباحثين بقيادة العالم روبرتو ماكشياريلي من جامعة بواتييه في فرنسا، فأثناء قيامهم بعمليات تنقيب في باكستان عثر ماكشياريلي وفريقه من الباحثين على مقبرة تعود إلى العصر الحجري، ومن خلال فحص بقايا تسعة أشخاص بين ثلاثمائة شخص مدفونين بالمقبرة، تبين وجود آثار حفر مدروس ومنتظم في أضراسهم، ما يعني أنه تم استئصال التسوس منها على يد خبير مختص في ذلك الوقت، ووفق الدراسات الأركيولوجية تبين أن المقبرة تعود لما قبل 7500 إلى 9000 سنة.
ولقد استخدم الإنسان الحجري رأساً دقيقاً من الصوان للحفر واستئصال التسوس، وعندما زرت القاهرة اطلعت في أحد المتاحف على آلة حفر أسنان كان الطبيب يحفر بها أسنان مريضه وهي تعود إلى 2150 قبل الميلاد لشعب المايا.
طقم أسنان ليوم الابتسام العالمي
وفي معلومة طريفة يقدّمها الطبيب أبوشعر أنه، وبمناسبة اليوم العالمي للابتسامات، تم في بريطانيا عرض طقم أسنان عمره أكثر من مائتي سنة يعود إلى القرن الثامن عشر، حيث ارتداه قس ناربون الذي توفي عام 1806، وقد تم العثور عليه في خضم عملية تنقيب عن الآثار في لندن، وعثر الخبراء على الطقم المصنوع من البورسلين مزروعاً في فم القس آرثر ريتشارد ديلون، وقرروا انتزاعه من فمه وعرضه في المتحف البريطاني.