ترقيص الأطفال عند العرب

ترقيص الأطفال عند العرب

لا أظن أن وليداً يولد في الدنيا إلا ويجد من والديه رعاية، منها هدهدته ليمرح أو يتوقف عن البكاء، أو لينام، هذا التصرف الحاني الذي يسمى «الهدهدة» و«الترقيص» و«التنـويمة» و«أغاني المهد» و«البأبأة» و«الدِّْلُّول» و«التَّنْزِية» و«التزفين»، غالباً ما ترافقه حركة من الهزهزة أو الأرجحة للطفل، ليتكامل الصوت مع الحركة في التأثير المطلوب. وقد نقلت كتب التراث العربي كثيراً من هذا الإرث الخاص بالطفل، مما عرف بشعر ترقيص الأطفال.

من الطريف أن المصادر التراثية تذكر ترقيصة تقول:
حُزُقَّةٌ... حزقهْ
تَرَقّ عينَ بَقَّهْ
وهــــي تعنــــي: أيهــــا الصغــــير الصغيـــــر اصعد عين البقة، وهـــــي كما نلاحظ ترقيــــصة غنية بالطفولة والخيال والإيقاع الراقص والمرح.
وما وصلنا من شعر الترقيــــص يذهــــب بعيداً إلى العصر الجاهلي، إذ نقع على عديد من النماذج، لعل أجملها وأسهلها صياغة، وأشدها عذوبة قول أعرابية:
يا حبـــــــذا ريـــــــح الولـــــــدْ
ريـــــح الخُزامـــــى فـــي البلـدْ
أهــــــكــــذا كــــــــــــــــــــلُّ ولـــــــــــدْ
أم لـــــم يلــــد مثلــــــي أحــدْ؟

هنا نحن مع عاطفة صافية موجهة إلى الابن الطفل، مزينة بصورة زاهية جميلة بريح الخزامى، وتساؤل ساذج، وجماله في سذاجته المحببة، هل أنا متفرِّدة في هذا الإحساس، أم إنه شعور كلِّ أم؟
ونقع على نموذج مشابه لهذا الذي سقناه في المعنى والموسيقى يقول:
يا حســـــــــرتا  علــى ولــــــــدْ
أشـــــــبهَ شــــــــيء بالأســـــــدْ
إذا  الرجـــال فــــــــي كـَـبـــَــــدْ
تغالــبــــــــــوا عــــــلـــــى نـَكــــدْ
كــــان لــــــه  حـظ الأســـــــدْ

والملاحظ أن هذا اللون الشـــعري الشعبي ليس مقولاً للطفل كي يفهمه، بل هــــو محاولة صوتية ترافق الحركات للتأثيـــر في الطــــفل، أما المعاني فقد كانت تتـــــراوح بيـــن ما هو عذب جميل من اللفظ والمعــنى، وبين ما هو غريب من الألفاظ والدلالات بالنســــبة إلى الطفل، إذ كثيراً ما نجد الترقيصات قد احتوت على شتائـــــم وقسوة في التعابير يـــتــــبادلها الأبوان، وخاصة الأم، فهــــذه امـــرأة ترقِّص ابنها بقولها:
وُهِبْتُــه مـن مُرعِش مـن الكِــبـَرْ
شَرَنْفَـــــحٍ وريـــدُه مثــــل الوترْ
بئس الفتى في أهله وفي الحَضَرْ
فيرقِّص الزوج ابنها قائلاً:
وهبتــه من ذاتِ ضِغْـن خِـبَّهْ
قصيرة الأعضاء مثل الضبَّهْ
تَعْيـــا كلامَ البَعْــــل، إلا سَبَّهْ
وتنقل المدوَّنات الماضية مقطوعات بلغ فيها الأمر حـد الفحـــــش في السباب، أو المديح لذكورة الوليد، وهـــي مسجلــــة وموجــــودة في الكتـــب التي حفظت بعض ذلك، كالمعاجم و«الأمـــالي» للقالي و«البيان والتبيـــين» للجاحظ و«عيون الأخبار» لابن قتيــــبة و«أنباء نــــجباء الأبناء» للصقلي و«الدراري في الذراري» لابــــن العديم على سبيل المثال، إلى جانــــب شعــر الرجز والنساء بعامة، وقد جمع أربعة من المؤلفين المعاصرين هذه النصوص جمعاً جيداً، وأصدروها محتوية على شعر الترقيص عند العرب، وهم وفق الأسبقية: «الغناء للأطفال عند العرب» د.أحمد عيسى (1934)، و«أشعار الترقيص عند العرب» سعــيد الديوه جي (1968)، و«أغاني ترقيص الأطفال عند العرب» د. أحمد أبوسعد (1974)، و«الترقيص والغناء للأطفال عند العرب» أحمد عبد التواب عوض (1996). 
تمييز بين الجنسين
  إن شعر الترقيص فيه جوانب إنسانية مؤثرة، تصور جانباً من الظلم الذي لحق بالمرأة، في مجتمع مبني على أعراف فاسدة من التفريق بين الجنسين، تحمِّل المرأة مسؤوليات ليست من حصتها، فقد روى الجاحظ أن أبا حمزة الضبي  هجر خيمته لأن امرأته ولدت لـه بنتاً جديدة، وكانت لا تلد إلا البنات، فقالت وهي ترقص ابتنها: 
ما لأبي حمزةَ لا يأتينـــــا
يظلُّ في البيت الذي يــلينا
غضبانَ ألَّا نلدَ الـــــــبنينا
تاللهِ مـا ذلك في أيدينــــــا
وإنما نـــــــأخذ ما أُعْطِينا
ونـحن كــــالأرض لزارعينا
نُنْبِتُ مـــا قد زرعوه فينـا

ومن المعروف أن عادة الوأد الذمـيمة للبنات كانت معروفة في الجاهلية عند بعض القبائل العربية، وقد أبطلها الإسلام، ونزل القرآن الكريم بالنهي عن الوأد والتطيُّـر من ولادة الأنثى.
وأكثر شعر الترقيص في الطفل، فما هو راسخ في مجتمعاتنا القديمة هو أن الطفل مفضَّل على الطفلة، لذا لا يتوقف التغني بالذكورة وصفاتها الجسدية والنفسية، وما يؤمل منها من رفعة وذود عن حياض القبيلة، وبذل للضيوف، ومركز في الزعامة والنبوغ، وتصادفنا هذه المقطوعة لشاعرنا المشهور جرير في ترقيص ابنه بلال: 
إن بلالاً لـــم تـُشـِــــــنـْه أمُّهْ
لم يتناســـــــــــب خاله وعمُّهْ
يشفي الصداع ريحه وشــــمُّهْ
ويُذهب الهموم عني ضــــمـُّهْ
كأن ريح المسك مُسْــــتـَحَـمُّـهْ
ما ينبغي للمســــــــــلمين ذمُّهْ
يُمضي الأمورَ وهو سـامٍ همُّهْ
بحرُ بحور واســـــــع ٌ مَجَمُّهْ
يفرِّج الأمــــرَ ولا يُغـِـــــــمُّهْ
فنفـْسه نفسـي وســــُـمِّي سمُّهْ

 أما عقيل بن عُلَّفة فهو يقول بكثير من قسوة لا تصدر عن قلب رقيق كريم، بل يصرح على نحو عنصري مقيت، فها هو يرقِّص ابنته متمنياً لها الموت كأفضل ما يختاره لها: 
إني وإنْ سِيق إليّ المَهرُ
ألفٌ وعبدان وذَوْدٌ عشرُ
أحَبُّ أصهاري إليّ القبرُ
 
لكن هذه القسوة مع البنات ليست عامة، فالغالبية من الآباء كانوا يرأفون ببناتهم، وتغلبهم عاطفة الحب والرعاية، وإن كان يؤلمهم وجود بناتهم في مجتمع ظالم، قد يصيبهن فيه الأذى والذل والعار،  ومن هؤلاء أبو شجرة الأزرقي الذي يقول: 
أصبحتُ بعد اللهو  والتَّـطوافِ
وبعد إسباغ الرداء الضـــــافي
أبا جوارٍ ما لهنّ كــــــــــــافِ
غير بنيات لــــــه ضعـــــــافِ
مثل ريال الأصـــــقع الرجَّافِ
يلقطن مَرْواً بمكـــــــان عافِ
يصبحن يوم العيد والـــــتوافي
غُبْرَ الجلود شُوَّلَ السّـــــــعافِ 
لم ينم حناء على الأطــــــرافِ
ولم ينقـّطن على حـِفــــــــــافِ
قد خفت أن  تشــــملني كالخافي
من حب أن يُترَكــــن في كفافِ
وبغضِ أن يتركــــن عند جافِ
والله يكفيني وفيه كــــــــــــافِ

ولا نستطيع إلا أن نعجب بذلك الأعرابي الذي يرقص ابنته بفيض من المحبة والحنو:
كريــــمــــة يحبـــهــــا أبـــــــــوهـــا
مليحةُ العينيــــن عذبٌ فـــوها
لا تحســــنُ السبَّ وإن سبوها

ولشاعر آخر حَدْب على البنت، ومحبة لها في ترقيصة جزءٌ منها يُعَدُّ شاهداً على لغة إحدى القبائل التي يبقى الاسم فيها بالألف في كل حالاته: 
واهــــــــاً لريَّا ثـــــم واهــاً واهـــــا
فاضت دموع العين من جرَّاها
هــــي المـــــنـــــــى لـــو أننا نلناها
يا ليت عينـــــــــــاها لنا وفاها 
بثمن نُرْضــــي بـــــه أبــــــــاهـــــا
إن أبـــــــاهـــــا وأبـــــــــــا أبــــــاهـــــــا
قد بلغا فـي المجد غايتـــــــاها

وللزبير بن عبدالمطلب في ابنته أم الحكم: 
يا حبــذا أمُّ الحكمْ
كأنـــها ريـمٌ أجمْ
يا بَعْلها ماذا يشمْ
ساهم فيها فسهمْ

ولكن وردت أحياناً ترقيصات تشكو الولد الآبق كقول أعرابي:
إن بَنيَّ ليــــــس فيهم بَرُّ
وأمهـــم مــثــــلـــــهـــم أو شــــــــــرّ
إذا رأوها نبحتني هرُّوا

أو الولد المشكوك في أصله، كقول آخر في أبيات غدت من شواهد النحو أيضاً:
لَتَقـعُدِنَّ مقعدَ القَصـــــيِّ
منِّيَ ذي القاذورة المَقْلِيِّ
أو تحلفـي بربـِّكِ العَلـيِّ
أني أبو ذيـالكَ الصَبــيِّ
قد رابنـي بِبَصر رَخِـيِّ
ومُقْلةٍ كمقــلة الكَـرْكِـيِّ

موضوعات الترقيص
الموضوعات الأساسية التي تتغنى بها الأم أو يرددها الأب في الترقيص، لا تخرج عن الرجولة والكرم والسيادة والبطولة والنجدة والعفاف والغنى والصدق والفصاحة والحكمة للطفل، والجمال والعفاف والنظافة والدلال والغنى والزوج المميَّز للطفلة.
 من ذلك ترقيص هند بنت عتبة لمعاوية بن أبي سفيان في طفولته:
إن بُنــيَّ مُعْرِق كريمْ
محبَّب في أهله حليمْ
ليس بفحَّاش ولا لئيمْ

ومن ترقيص البنات قول أم لابنتها:
سِبَحْلـــــة رِبَحْـلهْ
تنمى نبات النخلهْ

وهذا الزبير بن عبدالمطلب يختصر القيم التي يتمناها لابنته ضُباعة بقوله:
يا حبذا ضُبـــــاعهْ
مكرمة مطــــاعـهْ
لا تسرق البضاعهْ
لا تعرف الخلاعهْ

وقد يقتصر الترقيص على مداعبة الطفل وملاطفته لا أكثر, كقول أبي دهبل الدهيري في ابنته عيوف:
إن عيــــوفَ لَتريد أمرا
تريد خبـزاً وتريــد تمرا
ولبناً يجري عليها هَمْرا

وبظهور الإسلام أضيفت إلى شعر الترقيص معانٍ لم تكن معروفة من قبل، تتعلق بأخلاقيات وتعاليم الدين الجديد، ولعل تباشير ذلك بدأت بترقيصة لمرضعة الرسول [ حليمة السعدية التي رقصته قائلة: 
يا رب إذ أعطيتــــــه فأبقهِ
وأعله إلى العـــــلا ورقـّــهِ
وادحض أباطيل العدا بحقه
كذلك رقصته الشيماء بقولها: 
يا ربَّـنا أَبقِ لنـا محمدا
حتى أراه يافعاً وأمردا
ثم أراه سيِّـداً مســـوَّدا
وأعطه عزاً يـدوم أبدا

ووصلتنا ترقيصة من جده عبدالمطلب يقول فيها: 
الحمد لله الذي أعطـــــــــاني
هذا الغلامَ الطيـــــّب الأردانِ
قد ساد في المهد على الغلمانِ
أعيذه بالبيت ذي الأركــــــانِ
حتى أراه بالغ البنيــــــــــــانِ

وكذلك ترقيصة من  الزبير بن عبدالمطلب: 
محمد بــــن عندم ِ
عشت بعيش أنعمِ
ودولـــــــة ومغنمِ
مكرَّم معـــــــظـَّمِ
ووصلتنا ترقيصة فاطمة الزهراء وهي ترقِّص الحسين: 
إن بُنيْ شبْهُ النبيْ
ليس شبيهاً بعلـيْ
وترقيصتها لابنها الحسن:
وا بأبي شبه النبيْ
ليس شبيهاً بعلـيْ

كما رقَّصت أم البنين العبّاسَ بقولها: 
أعيذه بالـــــــواحدِ
من عين كـل حاسدِ
مسلمِهم والــجـاحدِ
مولودِهم والــــوالدِ

وفي بعض الترقيص شكوى من الفاقة وضيق الزمان كما يبوح بذلك أبوالعباس أحمدبن يحيى:
والله لولا صبية صغارُ
 وجوههم كأنها أقمــارُ
لما رآنـــي ملك جبارُ
ببابه ما ســطع النهارُ

 أما أبو فرعون الساسي فيصوِّر حاله البائسة مع أطفاله: 
وصبيةٍ مثل فراخ الـــــــذرِّ
سودِ الوجوه كســــــــواد الــقِدْرِ
جاء الشتاء وهم بشــــــــرِّ
بغير قُمْــــــص وبغيــــــر أُزْرِ
حتى إذا لاح عمود الفـــجرِ 
وجاءني الصبحُ غدوتُ أَسْـري
وبعضُهم ملتصق بصـدري
وبعضهم مُنْحَجر بحِجْـــــــري
أسبقهم إلى أصول الجُــدْرِ 
هذا جميعُ قصتـــــــي وأمـري
أنا أبو الفقــــــــــــر وأم الفــقـــر

خصائص الترقيص
وشعر الترقيص جُلّه مجهـــــول الـــــقائل، وهذا ملمح من ملامح الأدب الشعبي، ودلالة على كونه مما يقال بشكل عابر، ولا يصدر عن شاعرية تبحث عن التوثيق برواية أو كتابة، بل هي خارج الوظيفة العامة والرسمية للشعر العربي، وحتى لو صدر عن شعراء معروفين فأظن أنهم غير مهتمين بأن ينسب إليهم، لعله عندهم من دعابة أو شكوى أو تسلية أو تعبير عن حنان شخصي في لحظة أسرية خاصة لا أكثر.
فالترقيص إذاً لون شعري شعبي، عرفه العرب عبر تاريخهم، وهو أداء عفوي مرتبط بضرورات التربية، ويحمل عدداً من الخصائص الفنية واللغوية والأسلوبية التي تميزه من غيره، إذ نلاحظ اعتماده على بحر الرجز المعروف برشاقته وسهولته، وما يتفرع عنــــه مـــــن مشطور ومجزوء ومنهوك، ولغة هذا الشعر متحررة أكثر من غيرها، وتتحلَّل أحياناً من النظام اللغوي الشائع، مما يجعلها أقرب إلى الشعبية من خلال مفرداتها وتراكيبها اللغوية الخاصة أحياناً، وشعر الترقيص لا يزيد على أبيات قليلة، ويميل إلى الجمل القصيرة، ويركز على التقفية في كل شطر، وعلى تكرار الكلمات والجمل، وللترقيصة موضوع واحد لا تتعداه إلى موضوعات أخرى، وفيها ألفاظ مكشوفة فاضحة أحياناً.
فالترقيص في النهاية بقدر ما هو تعبير عن عاطفة أبوية، وسلوك طبيعي له وظيفة أساسية هي تنويم الطفل أو تنشيطه وملاعبته، فهو يعكس أيضاً مشاكل وأحاسيس المرأة والرجل بعفوية وصراحة، ويكشف عن نظرة المجتمع إلى الطفل ذكراً كان أو أنثى، وبالتالي هو صورة صادقة تنتمي إلى ما يهم الأدب الشعبي والتربية في عصرنا.