في وداع «شهرزاد» المغربية الباحثة فاطمة المرنيسي

في وداع «شهرزاد» المغربية الباحثة فاطمة المرنيسي

ولدت فاطمة المرنيسي بمدينة فاس سنة 1940، والتحقت في طفولتها بمدارس الحركة الوطنية. درست العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس، وعندما حصلت على شهادتها الجامعية، عملت على إتمام دراستها العليا بفرنسا، حيث درست علم الاجتماع بجامعة السوربون، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة والتحقت بجامعة براديس كنتاكي الأمريكية لنيل شهادة الدكتوراه  سنة 1973.

أطرت الباحثة المرنيسي بالجامعة المغربية فرق البحث في مجال سوسيولوجيا الأسرة، ثم عملت مستشارة لدى عدد من المؤسسات الدولية، من قبيل منظمتي «اليونسكو» و«العمل الدولية»، والبنك الدولي، وأحرزت عديداً من الجوائز، من أهمها جائزة الأمير أسطورياس، مناصفة مع المفكرة الأمريكية سوزان سونتاغ، وجائزة راسموس الهولندية، واعتبرتها «الغارديان» من النساء المناضلات الأكثر تأثيراً في العالم، كما اختارتها المفوضية الأوربية لعضوية فريق الحكماء للحوار بين الشعوب والثقافات.
اهتمت المرنيسي منذ كتابها «الحريم السياسي» بوضع المرأة العربية والإسلامية، معتمدة على مقاربات تاريخية، تحاول من خلالها تصحيح المواقف الذكورية التي تعمل على تكريس الوضع الدوني للمرأة العربية والمسلمة، ولهذا عملت في كتبها على رد الاعتبار للمرأة عبر مقاربة علمية جريئة، لكنها موضوعية، عبر تفكيك المركزية الذكورية، متوخية تقديم قراءة تنويرية للإسلام، ومعتبرة أن الرؤية للخطاب الديني عند المسلمين يعود مرجعها إلى التطور التاريخي الذي عرفته المجتمعات الإسلامية، ولهذا اعتمدت المرنيسي في مدارستها للوضع النسائي الإسلامي على القراءة الأركيولوجية التي قام بها المفكر المغربي محمد عابد الجابري في نقده بنية العقل العربي والتراث الإسلامي، وتذكيرها بالحقوق العادلة  للمرأة العربية.
 مارست فاطمة المرنيسي في أبحاثها منهجية النقد المزدوج، فهي لم تعمل في نقدها لـ«الحريم» على  جلد الذات وتجريح الهوية التي تنتمي إليها من أجل مراودة النظام الذكوري الغربي. لقد اعتبرت المرنيسي أن طيف «الحريم» لا يحوم فقط على البلاد الإسلامية وحدها، بل إنه تحول إلى «براديغم» أو إلى إبدال كوني بعد هبوب رياح العولمة، ولهذا السبب وسعت الباحثة حقل الحريم الدلالي ليشمل حتى الثقافة الغربية، كما في ندائها الإنكاري «هل أنتم محصنون من الحريم؟» لأن المثقفين الغربيين كانوا يسخرون منها عندما تنعت الثقافة الغربية ورؤيتها  الاستشراقية  للآخر، بأنها رؤية حريمية، عملت المركزية الأوربية على إسقاطها على العالم الإسلامي، عبر كتابات الرحالة والرسامين والمستشرقين، من خلال تقديمهم لنساء العالم الإسلامي كذوات لا يصلحن إلا للذة والشهوة الجنسية، بينما نجد أن التاريخ الإسلامي - كما تقول المرنيسي - يحفل بكثير من النساء المحاربات و«السلطانات المنسيات» اللواتي تقلدن زمام الحكم ببلادهن «كالكاهنة» في شمال إفريقيا، والنفزاوية زوجة الملك يوسف بن تاشفين والملكة الحرة في شمال المغرب. كما أن شهرزاد في «ألف ليلة وليلة»، التي تتماهى معها فاطمة المرنيسي، كانت تمتلك سلطة الحكي وجرأة الذكاء الخلاق اللتين جعلتاها تتخلص من جبروت شهريار، وتقاوم  بحيلة القص تأجيل رغبة شهريار في قتلها.
اهتمت المرنيسي، بالتوازي مع البحث الأكاديمي السوسيولوجي، بالعمل الجمعي الحقوقي وبإطلاق جمعية «نساء، أسر، أطفال» لنشر الوعي النسائي، كما أسست جمعية «قوافل مدنية» لخدمة نساء جبال الأطلس، وأطلقت المبادرات الثقافية الجادة لتشجيع النساء والرجال على أخذ الكلمة والتعبير بالكتابة والإبداع، ويظهر ذلك جلياً، في حفزها للرسامة العصامية (الركراكية) التي كانت تمتلك الموهبة دون أي مستوى تعليمي، حتى صارت مشهورة داخل المغرب وخارجه، كما أنها تواصلت مع معتقلي الرأي في ما يعرف بسنوات الرصاص، وشجعتهم على البوح بالكتابة لتحدي قساوة تجربتهم مع الاعتقال السياسي، كـ«فاطنة البيه» في روايتها «حديث العتمة»، أو أحمد الرايس الذي عاش مرارة السجن وعنفه الرهيب في «تزمامارت»، في سيرته الذاتية «من الصخيرات إلى تازمامارت، تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم»، حيث طالبت مؤلفها بأن يحولها إلى فيلم سينمائي. وفي مجال العمل المدني، ساندت المناضلة النسائية عائشة الشنا صاحبة كتاب «ميزيريا» لتوثيق تجربتها الرائدة التي كانت تعنى بقضايا «الأمهات العازبات». وعلى المستوى الإعلامي شاركت الفقيدة بمقالاتها في مجلة «كلمة» التي تجرأت على مناقشة قضايا النساء التي كانت تعتبر آنذاك في حكم التابوهات المحرمة.
ولقد أعجبت بالشجاعة الأدبية لأحد أعمدة الفكر السلفي ببلادنا، الأستاذ أبوحفص رفيقي، الذي كتب تغريدة صادقة في وداع المرنيسي على شكل نقد ذاتي، مخالفاً النعوت التي كانت  توصف بها الراحلة قيد حياتها من لدن كثير من الإسلاميين المغاربة، قائلاً: «إنني أعلن عن إبداء حزني لوفاة هذه المثقفة المرموقة».
 وأضاف الناشط الإسلامي «إن فاطمة المرنيسي سواء اتفقت أو اختلفت معها في ما كانت تطرحه،  تعد مثقفة لامعة وأديبة بارعة، سخرت حياتها وقلمها ونضالها لخدمة قضية المرأة والدفاع عن  كينونتها وحقوقها الإنسانية»، مؤكداً أن المرنيسي «لم تكن يوماً حاملة العداء للإسلام كما يروج عنها، بل قرأت لها دفاعاً واضحاً عن الإسلام وعن نبي الإسلام، وجرأتها في كتاباتها كانت عن مرجعية إسلامية ولم تكن تمرداً على الدين، لأن الفقيدة دافعت عن الصورة الأصلية للمرأة والإسلام أمام الغرب والآخر.
لقد كتبت الباحثة المرنيسي في لحظة يأس كتاباً بعنوان «شهرزاد ليست مغربية». الآن يمكن أن نقول بعد فراقنا لها: لقد صارت شهرزاد مغربية بفضل عطائها الفكري ونضالها 
الحقوقي.