تعلَّم الحياة... سأروي لك تاريخ الفلسفة

تعلَّم الحياة... سأروي لك تاريخ الفلسفة

مع أن المكتبة الفرنسية تزخر بكتب عديدة في تاريخ الفلسفة، إلا أن الفيلسوف الفرنسي المعاصر لوك فيري Luc Ferry، أبى إلا أن يخصص كتاباً آخر يروي فيه بطريقة مبسَّطة وواضحة تصوُّره للفلسفة وتاريخها. يتكون الكتاب من ستة فصول مع تمهيد وخاتمة وقائمة بأهم المصادر والمراجع. عرض في الفصل الأول مفهومه للفلسفة، وفي الفصل الثاني والثالث والرابع والخامس مراحل من تاريخ الفلسفة الغربية. بدأها بالمدرسة الرواقية ممثلة للفلسفة اليونانية، ثم قدم عرضاً موجزاً  للفلسفة المسيحية في العصور الوسطى، وخصص الفصل الرابع للفلسفة الحديثة، والخامس للفلسفة المعاصرة، حيث توقف مطولاً عند نيتشه، وذلك باسم: «ما بعد الحداثة.. نموذج نيتشه».

في الفصل الخامس أجرى فيري عملية الربط بين تصوره للفلسفة وما استخلصه في عرضه لتاريخ الفلسفة، حيث أقر بوجود طريقتين ممكنتين لحضور الفلسفة في عصرنا، طريقة تعليمية تصبح فيها الفلسفة مجرد مادة تقنية، مثلها مثل بقية المواد التعليمية، وطريقة فكرية تمكن الفلسفة من أن تتولى مهمة التفكير في الإنسانية الجديدة، أو ما سماه  بالإنسانية في مرحلة «ما بعد التفكيك»، نسبة لفيلسوف التفكيك، الفرنسي جاك دريدا. 
فما معنى الفلسفة؟ وما الذي يميز مراحلها التاريخية عند لوك فيري الذي اهتم منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي إلى يومنا هذا بعدد من قضايا الفلسفة ومجالاتها، ومنها مجال الفلسفة السياسية الذي عرض تاريخه في ثلاثة مجلدات بالاشتراك مع الفيلسوف الان رينو، وفلسفة الأخلاق التي خصّها بكتابين، هما: الإنسان - الإله أو في معنى الحياة، وحكمة المحدثين، وفلسفة الجمال في كتابيه: الإنسان الجمالي، واكتشاف الذوق في العصر الديمقراطي، وفلسفة البيئة في كتابه: النظام البيئي الجديد، وتاريخ الفلسفة الذي خصه بثلاثة كتب، هي:  «التفلسف في سن الثامنة عشرة»، وأجمل قصة في تاريخ الفلسفة» بالاشتراك مع كلود كبلياي، و«تعلم الحياة... سأروي لك تاريخ الفلسفة»، وفيه عرض أهم آرائه في الفلسفة وتاريخها، ومنها:
1 - الهدف الأساسي من الكتاب هو جعل الفلسفة جزءاً من الثقافة العامة في المجتمع الفرنسي، مثلها مثل الأدب والتاريخ والسياسة. ومعلوم أن الثقافة الفرنسية  تهتم بالفلسفة، ومع ذلك فإن الكاتب أراد أن يعزز هذه المكانة من خلال تقديم تاريخ الفلسفة بأسلوب مبسط، وفي شكل حوار غير مباشر يجري بين الفيلسوف لوك فيري وتلميذ أو قارئ مفترض يخاطبه ويسأله ويجيبه عبر صفحات الكتاب. وفي تقديري، فإن قوله إن المكتبة الفرنسية تفتقر إلى كتاب مبسط لتاريخ الفلسفة، قول تنقصه الدقة، ليس فقط بحكم العدد الكبير من الكتب التي تتناول هذا الموضوع، ولكن لأن الفيلسوف نفسه، وكما أشرنا، قد كتب كتابين في الموضوع، لذا فإن السؤال حول الهدف من هذه الكتب يبقى مطروحاً، وخاصة إذا علمنا أن ثمة كتاباً قد عرف شهرة واسعة حول تاريخ الفلسفة، وهو كتاب النرويجي جوستاين غاردر، الذي ترجم إلى العربية تحت عنوان: «عالم صوفي... رواية حول تاريخ الفلسفة». 
2 - ليست الفلسفة نوعاً من الترف العقلي، أو فن التسلية، بل هي وسيلة لفهم ذاتنا وعالمنا، بل وأكثر من هذا، إنها وسيلة لكي «نحمي أنفسنا في بعض الأحيان» (ص 17)، من التطرف، والتعصب، والانغلاق، والسذاجة، والخوف من الآخر، ومن المجهول. وفي هذا السياق، فإن تاريخ الفلسفة يتميز عن تاريخ العلوم والتقنية في كونه لا يزال يخاطبنا، ويمكن أن يفيدنا في تعلم «كيفية العيش» رغم اختلاف المراحل التاريخية.
3 - يمكن القول إن «كيفية العيش» أو «كيف نحيا» السبب الحقيقي في قيام هذا الفيلسوف بسرد مبسط وواضح لتاريخ الفلسفة، أو بالأحرى لبعض المعالم في تاريخ الفلسفة، لأنه ركز على الرواقية وفيلسوفها أبيكتات، وعلى القديس أوغسطين في الفلسفة المسيحية، وبعض الفلاسفة المحدثين والمعاصرين، منهم ديكارت وكانط، وخاصة نيتشه. ولم يلتفت إلى أفلاطون أو أرسطو في الفلسفة اليونانية، كما لم يتوقف من قريب ولا من بعيد عند الفلسفة الإسلامية وفلاسفتها رغم أهميتهم في عصرنا، واكتفى بعرض مفصَّل لنيتشه، بغرض نقده ونقد أنصاره في الفلسفة المعاصرة، وخاصة الفلاسفة الفرنسيين الذين تأثروا بنيتشه، وهم على وجه التحديد: دلوز، دريدا، فوكو، وتأسيس تصور فلسفي جديد. لذا، نستطيع القول إن الغرض الأساسي من كتاب لوك فيري ليس غرضاً تربوياً فقط، وإنما هو غرض فلسفي يتمثل في إقناع قارئه بتصوره الفلسفي من خلال عرض لتاريخ الفلسفة الغربية.  ومن هنا أيضاً، نفهم سبب اعتراضه على المفهوم الشائع للفلسفة الذي يحصرها في التساؤل، والمحاججة، والتفكير النقدي والمنطقي، ودعوته إلى أن تهتم الفلسفة بمصير الإنسان الذي هو كما نعلم جميعاً (كائن يموت) أو (كائن له نهاية). وهذا يعني أن الفلسفة لا تطرح الأسئلة فقط، وإنما تقدم الأجوبة أيضاً، فما جواب الفلسفة حول موضوع مصير الإنسان؟
4 - يقدم تاريخ الفلسفة أفكاراً عدة في موضوع المصير، ومنها فكرة «الخلاص». وإذا كان الدين عموماً، والدين المسيحي على وجه التحديد يركز على الخلاص، فإن الفيلسوف لوك فيري يرى أن هذا الجواب يتوجه للمؤمن فقط، أما الذي له شكوك، أو الذي لا يؤمن،  فإنه في حاجة إلى أجوبة أخرى. ولهذا بحث في أجوبة بعض الفلاسفة دون سواهم، أمثال ابكتات، ومونتان، ونيتشه، لأن هؤلاء قدموا منظوراً فلسفياً للخلاص يجيب على ما وصفه الشاعر أدغار الان بو، بقوله: «أبداً لن يعود»، أو «ما لن يعود أبداً»، وسبق أن أشارت إليه قصيدة «عازف القيثار» في الحضارة المصرية القديمة عندما خاطب الشاعر الأهرامات التي تضم رفات الفراعنة بقوله: «لا يأتي أحد من هناك»، وعبر عنه أدب ما بين النهرين بـ«الأرض التي لا عودة منها». وبهذا المعنى، ذهبت الرواقية، وفيلسوفها ابيكتات إلى أن كل التساؤلات الفلسفية مصدرها الخوف من الموت.
5 - تتشكل الفلسفة في منظور لوك فيري من  مجالين أساسيين: مجال المعرفة الذي يهتم بفهم ما هو قائم، ومجال القيم الذي يبحث في ما يجب أن يكون. ومعلوم أن هذا التصنيف يستبعد مجالاً ثالثاً هو الوجود، والمسوغ لهذا الاستبعاد في نظره، هو أننا نعيش في عصر «ما بعد التفكيك». ويتكون مجال القيم من قيم أساسية هي الحرية والمسؤولية والقدرة على الاكتمال أو التسامي. ولقد توقف مطولاً عند قيمة التسامي، وحللها من خلال منظور الفيلسوف الألماني هوسرل، وانحاز إلى ما سماه  بالتسامي في الملازمة.
6 - يشير التسامي إلى ثلاثة معان كبرى، الأول بينته الرواقية عندما رأت أن نظام العالم ملازم للعالم نفسه، وأنه على الفيلسوف أن يعيش وفقاً لهذا النظام، من هنا اشتهرت هذه المدرسة بمقولتها: «عِشْ على وفاق مع الطبيعة». وهنالك المعنى الديني للتسامي الذي يشير إلى الله، وأخيراً المعنى الذي يربط بين التسامي والملازمة. وهذا يعني أن التسامي يكمن في الشيء نفسه، وليس منفصلاً عنه. وهو ما ينطبق على القيم في نظره، فهي سامية، ولكنها ملازمة للإنسان. وكما قال: «إن سمو القيم يظهر (في داخلي) في فكري وفي إحساسي. وبرغم تموضعها في ذاتي، فإن كل شيء يحدث وكأنها قادمة من مكان آخر»(351).  وهو ما يفيد أن القيم ليست مفروضة علينا باسم سلطة عليا أو خارجية، وإنما هي نابعة من ذاتنا وبها نسمو. وعلى الرغم من انحياز لوك فيري إلى الأخلاق النسبية التي تميز الإنسانية الجديدة فإنه شدد على جملة من القيم، أهمها ضرورة الاعتراف بالآخر واحترامه، أو كما قال: «إننا بحاجة للآخرين لكي نفهم أنفسنا، وبحاجة إلى حريتهم وإلى سعادتهم، إذا أمكن ذلك، لإتمام حياتنا الخاصة»، (ص 371).
7 - إذا كان هذا الكتاب يتوجه إلى القارئ العام، بهدف تبسيط وتوضيح بعض معالم تاريخ الفلسفة، فإن الهدف الأساسي منه في تقديرنا، يتمثل في تقديم منظور فلسفي لا يمكننا فهمه إلا في سياق الفلسفة الفرنسية المعاصرة وتياراتها المختلفة. ويظهر ذلك جلياً في تركيزه على المرحلة المعاصرة، وعلى التيار الذي تأثر بفلسفة نيتشه، ومحاولة  نقده، وتقديم بديل مغاير له، ما يعني أن هذا الكتاب، رغم طابعه التعليمي الظاهر فإنه يتضمن موقفاً ومنظوراً خاصاً، يجب على القارئ العربي أن يدرك غايته وحدوده. ولكن مع ذلك، فإن ترجمته إلى العربية تلبي حاجة تربوية وفكرية في ثقافتنا العربية، وتطرح علينا في الوقت نفسه سؤالاً أساسياً هو: ماذا فعلنا نحن لنقدم الفلسفة إلى الجمهور العربي بأسلوب واضح يحافظ على الدقة ويعزز مكانتها، ويرفع عنها الأحكام السلبية والتصورات المشوهة؟.