وسائل التواصل والتكنولوجيا والتحول الثقافي
يُقدِّم هذا الكتاب رؤية مختلفة لدراسة التكنولوجيا ووسائل التواصل؛ فبدلاً من النظرة التقليدية الشائعـة إلى التكنولـوجيا بوصفها مجالاً قائماً بذاته ينمو وفقاً للتطورات العلمية، يؤكد المؤلف أنه تنبغي دراسة التكنولوجيا باعتبارها جزءاً من منظومة متكاملة تشمل الثقافة والممارسات الاجتماعية والتجربة الإنسانية الحية. ومن ثمَّ، لا ينبغي عرض تاريخ التطورات التكنولوجية عرضاً تاريخياً خطياً منزوعاً من السياقات والخلفيات الثقافية والاجتماعية، بل تجب دراسة تأثير الثقافة والمجتمع في تطور وسائل التواصل والتكنولوجيا، وكذلك التأثير الهائل لهذه التطورات على الثقافة والمجتمع وعلاقة الإنسان بالآخرين من حوله وبالعالم بشكل عام.
يقع كتاب وسائل التواصل والتكنولوجيا والتحول الثقافي في 256 صفحة من القطع الكبير، ويحتوي على ثمانية فصول. مؤلِّف الكتاب هو البروفيسور غاري كروغ؛ يعمل حالياً أستاذاً لتكنولوجيــا التواصل ورئيسا لقسم دراسات التواصل في جامعة واشنطن الشرقية، وتتركّز اهتماماته حول التواصل الدولي، وتأثيرات وسائل الإعلام ونتائجها على المجتمع، والثقافة الشعبية، والتواصل السياسي.
في البداية، يوضح المؤلف أنه لا يُقدم دراسة تاريخية خطية لهذا الصنف أو ذاك من التكنولوجيا، وإنما بالأحرى يستكشف العلاقات المتبادلة بين أنساق ومجالات متباينة يحيا الإنسان بها وداخلها ولا يشيع الربط بينها؛ مثل اللغة، التكنولوجيا، الصورة، المؤسسات الاجتماعية، المعتقدات والأفكار... إلخ. وهنا تأتي أهمية إدخال الأبعاد والخلفيات الثقافية والفلسفية والتاريخية عند دراسة العلاقات المتبادلة بين هذه المجالات، حيث تظهر مجموعة من القضايا والتساؤلات المختلفة غير التقليدية، مثل: كيف تؤثر التكنولوجيا فينا وفي نظرتنا إلى العالم والآخرين؟ كيف ينبغي أن نحيا؟ ما الطرق البديلة المتاحة للتفكير في أنفسنا وفي العالم؟ كيف يمكن تناول القضايا الأخلاقية المستجدة مثل الأخلاقيات الصحفية والسياسية والبيئية؟
التكنولوجيا واللغة والصورة
بعد استعراض تاريخي للتحول من عصر الشفاهية إلى عصر القراءة والكتابة، يفحص كروغ العلاقة المتبادلة بين نسق التكنولوجيا من ناحية، ونسق اللغة في صورتيها المكتوبة والمنطوقة من ناحية أخرى. وعبر استكشاف ظاهرة اللغة، تظهر الاختلافات والتطورات التاريخية المتعلقة باللغة، وهي الاختلافات التي تصل إلى حد الانقسام بين عالمين؛ عالم اللغة المصنوعة الرسمية الجاهزة، وعالم اللغة الدارجة المباشِرة المحلية المنبثقة عن التواصل المباشر والتجربة الحية، فاللغة التي تُعبِّر عن خبرتنا بالعالم اليوم لا تنشأ عن خبرات إنسانية حية منبثقة عن حوار مع أناس آخرين، ولا تعكس الحاجات الإنسانية المباشرة، وإنما أصبحت لغة مُعلّبة تعكس قيم رأس المال والآلة والتكنولوجيا والعالم الافتراضي الذي يتوسط بيننا وبين العالم الحي، أو يحلّ محلَّه أحياناً. وتحت تأثير التطورات التكنولوجية، أصبحنا نعيش في عالم رقمي يسيطر عليه الكمبيوتر ووسائل الإعلام وتكنولوجيا المعلومات، يُطلق الفيلسوف الفرنسي جيل ديلوز على هذا العالم تعبير «الواقع الفائق»، إنه عالم بديل للعالم الواقعي وليس مجرد محاكاة له.
في هذا العالم يتغير مفهوم الواقع، حيث نجد أشياء افتراضية أو لا تمس حياة الإنسان مباشرة، ولكنها تأخذ مساحة كبيرة من وعيه وعالمه المعيش. وينعكس هذا بدوره على اللغة والوعي، فيمكن للإنسان اليوم أن يذكر عشرة أسماء للعلامات التجارية الشهيرة، ولا يستطيع أن يذكر عشرة أسماء للكواكب أو لأنواع مختلفة من الأشجار أو المجموعات النجمية مثلاً، ويمكنه رسم خريطة العالم ولا يعرف جغرافيا المكان الذي يعيش فيه وطبيعته.
كذلك نلحظ التأثير الواضح لتكنولوجيا التواصل على المجتمع والأفكار من خلال دراسة الصورة وكيفية توظيفها والدور البارز الذي تؤديه في المجتمع المعاصر. وليست القضية تتبع التطور التاريخي لتقنيات التصوير أو الأساليب المختلفة لتوظيف الصورة، وإنما مغزى الصورة ودلالتها في حياة الإنسان وكيفية توثيقها للأنماط المختلفة لوعي الإنسان بالآخرين وبالعالم من حوله. ومن بين رواد التصوير، يُركِّز المؤلف على فئتين أساسيتين، هما العلماء والفنانون، حيث يبرز التقابل بين رؤيتين مختلفتين لمغزى الصورة ودلالتها، الرؤية العلمية العقلانية، والرؤية الفنية العاطفية الوجدانية. ومع تزايد ارتباط فن التصوير بالتطور التكنولوجي ووسائل التواصل، باتت الصورة تحتل مساحة هائلة في الوعي الشخصي الفردي والوعي الجمعي على حد سواء، إنها موجودة في كل مكان، لا سبيل إلى الهروب منها، وأصبحت أمراً أساسياً رغم أنها متغيرة وسريعة الزوال.
وخلال فترة وجيزة، أخذت الصورة تحل محل الكلمة المكتوبة تدريجياً، نظراً لتأثير الصورة المباشر وما تحمله من معانٍ ورسائل أكثر تنوعاً من الكلمة المكتوبة. وتتجلَّى العلاقة الجدلية بين التطور التكنولوجي لوسائل التواصل واللغة والصورة في الإعلانات، حيث تحوَّلت الكلمات المكتوبة ذاتها إلى صور تغزو كل جانب من الحياة تقريباً؛ في الشارع والبيت والمواقع الإلكترونية، وكل شيء حولنا تقريباً.
الثقافة الجماهيرية... من اختراع الطباعة إلى تكنولوجيا المعلومات
قبل الطباعة، كان هناك اعتقاد بأنه يوجد عدد محدد من الكتب، ومن ثم بإمكان المرء، ولو من الناحية الافتراضية، أن يقرأ كل ما يستحق القراءة. لكن اختراع الطباعة كان حدثاً تاريخياً فارقاً، حيث بدأ وعي جديد يظهر إلى حيز الوجود، وعي يرى عالمه وقيمه وتجاربه وأفكاره مجسّدة في كلمات وصور يجري تداولها على نطاق واسع خلال وقت قصير. ومع الانتشار السريع للطباعة ونموها، أصبح الكتاب المطبوع مصدراً للأفكار ودليلاً ملموساً على وجودها وذيوعها، ورمزاً في حد ذاته.
وهكذا، يتتبَّع المؤلف تطور تكنولوجيا الطباعة والنشر وأنظمة التوزيع وما ترتَّب على ذلك من تغيير في عادات القراءة وزيادة النصوص المتاحة للقــــراءة وتزايــــد عدد القُرَّاء والمتعلميـــــن، ومن ثم بزوغ أوضاع اجتماعية وثقافيــــة جديدة وظهور قضايا حقوق الملكية وتسليع الثقافة والأفكار من أجل رأس المال... إلخ. ويوضح كروغ أنه حدث خلال القرون الثلاثة الأخيرة ما يمكن أن نطلق عليه «ثورة القراءة»، التي نشأت عن التوسع في إنتاج الكتاب وتزايد الصحف وانتشارها وانخفاض أسعار بيع الكتب وانتشار مجتمعات القراءة وأندية الكتب، وهنا تقع الأشكال المختلفة الاقتصــــادية والمعرفية لجذور الثقافة ووســــائل الإعلام الجماهيريتين.
وفي هذا الإطار أخذت الصحف تؤدي دوراً بارزاً في نشر المعرفة العامة وتشكيل المجتمع وتوجيهه، فلم تقتصر على تقديم الأخبار السياسية والاقتصادية فحسب، بل كانت توفر للفرد معلومات حول كيفية اللحاق بالنظام الاجتماعي الناشئ. ومع حلول القرن التاسع عشر بدأت الصحف ووسائل التواصل والإعلام تكتسب طابعاً أيديولوجياً باعتبارها وسائل للتحكم الاجتماعي، حيث بدأت وسائل الإعلام تُحدِّد ما المعلومات التي تستحق أن يعرفها الناس وكيفية تقديمها إليهم مصحوبة بأفكار ومعتقدات بعينها.
إن تنظيم المعلومات؛ أي عملية غربلــة (فلترة) المعلومات المُقدَّمة عبر الصحـــف ووسائل الإعلام، حوّلَ المعرفة والمعلومــــات والثقافة إلى أدوات للسيطرة الاجتماعية. ومن ثم، يدرس كروغ آليات التحول الثقــــافي إلى ثقافة التكنولوجيا والصناعة، ويستكــــشف كيف باتت المعلومات يُنظر إليها كشيء يمكن من خلاله التحكم في الجماهير وتوجيهها، وكيف اختُزلت الثقافة إلى كمّيات من المعرفة والمعلومات التي يمكن نقلها عبر المذياع أو الأفلام السينمائية أو المدارس. ويلاحظ أنه في ظل التطورات التكنولوجية الهائلة لوسائل التواصل في السنوات الأخيرة، خصوصاً الرقمية منها، ووصولها إلى كل جوانب الحياة تقريباً، تحول الإنسان إلى مجرد متلقٍ سلبي لتلك الكميات من المعلومات، حيث يتم استهلاك المعلومات من التلفاز والإنترنت... إلخ، ومن ثم يتراجع التفاعل الحي المباشر مع الناس وجهاً لوجه أمام هذا الســـيل المتدفـــــق من المعلومات.
أين تقع المشكـلة؟ هل التكنولوجيا في حد ذاتها خطر؟ يؤكد المؤلف أنه ليس الأمر أن التكنولوجيا ذاتها هي التي تفصلنا عن العالم الواقعي وتعزلنا عنه، وإنما بالأحرى علاقتنا نحن بالعالم وتعاملنا معه عبر وسيط ثالث هو التكنولوجيا؛ في صورة آلات وأدوات وأنظمة معقدة.
إن الخطر الأكبر يكمن في الاعتقاد بأن العالم الذي نجده أمامنا ونتعامل معه باعتباره مجرد مصدر للمعلومات هو العالم كله، وأن هذا كل ما في الأمر. وينتهي المؤلف إلى القول إن مهمتنا الأولى من الناحية الأخلاقية والاجتماعية هي إعادة التأكيد على ضرورة أن ندخل في عملية تأمل ذاتي، أن نبدأ حواراً مع أنفسنا ومع الآخرين، أن تكون التكنولوجيا ووسائل التواصل أدوات وليست
بديلاً عن العالم الواقعي الحي أو وسيطاً بيننا وبينه.