الاستشراق الروسي... على ضفاف النيل

الاستشراق الروسي... على ضفاف النيل

نظمت دار الكتب المصرية بالتعاون مع المؤسسة المصرية - الروسية للثقافة والعلوم المؤتمر الدولي الثاني في النصف الأول من شهر أكتوبر الماضي الذي جاء تحت عنوان «المستشرقون الروس والثقافة العربية»، وقد افتتحه وزير الثقافة المصري حلمي النمنم، الذي أشار إلى أن الاستشراق الروسي يخلو من الأهداف الاستعمارية كما هي الحال بالنسبة إلى الاستشراق الغربي. ولابد هنا من التركيز على أن هناك صفوة من المستشرقين الروس قاموا بجهود ملموسة وعظيمة في مجال الدراسات العربية والإسلامية على مر العصور، ويعد ما تركوه من مؤلفات وتحقيقات مرجعاً مهماً للباحثين والدارسين يساعدهم في الاطلاع على منجزات الحضارة العربية والإسلامية في شتى أنحاء العالم.

أما أستاذة اللغة الروسية بكلية الألسن د. مكارم الغمري، فتحدثت عن جهود شيخ المستعربين الروس إغناطيوس كراتشكوفسكي (1883 - 1951) في مجال الثقافة العربية، حيث وضع منهجاً لدراسة تاريخ العرب وآدابهم، وكان أول من ترجم معاني القرآن الكريم إلى اللغة الروسية من اللغة العربية مباشرة ترجمة علمية دقيقة. كما ترك 450 بحثاً ومقالة نشرت في مؤلفاته الكاملة، ودرس أشعار المتنبي وأبي العتاهية والبحتري وصنف أعمالهم في الغزل والهجاء والحماسة. كما درس الرواية التاريخية العربية، ونشرت تحت إشرافه الطبعة الأكاديمية لحكايات ألف ليلة وليلة. ونشر كراتشكوفسكي دراساته في تحقيق عديد من المخطوطات العربية المحفوظة في خزائن أكاديمية العلوم الروسية في سانت بطرسبورج، كما ترأس الجمعية الجغرافية الروسية ومعهد الاستشراق في موسكو.
وتحدثت المستشرقة الروسية يافعة يوسفنا، أستاذة اللغة العربية وآدابها بجامعة سانت بطرسبورج، عن نشأة الاستشراق الروسي الذي بدأ في التبلور بشكل واضح في القرن التاسع عشر، عبر مجموعة كبيرة من الباحثين والمؤرخين والشعراء وكتَّاب الرحلات إلى الأراضي المقدسة. يضاف إلى ذلك أن تجارة روسيا مع مصر وبلاد الشام وأرجاء واسعة من السلطنة العثمانية كانت مزدهرة، خاصة مع القدس ودمشق وحلب وأزمير والأستانة وغيرها. وكانت رحلات الشعراء الأوربيين وكتاباتهم الرومانسية عن سحر الشرق، خاصة الفرنسيين منهم، وفي طليعتهم الشاعر الفرنسي الكبير لامرتين، تلقى صدى إيجابياً محبباً في نفوس شعراء روسيا وكتَّابها الذين أقبلوا على دراسة اللغة العربية وآدابها وتاريخها وتراثها. وبدأ اهتمام الروس بالتراث العربي والإسلامي يتزايد بشكل ملحوظ بعد ترجمة عدد من المصادر الأساسية في هذا المجال إلى اللغة الروسية، وما لبث الاهتمام الثقافي الفردي أن تحول إلى علم استشراق متميز يسعى الباحثون فيه إلى معرفة أحوال الشرق العربي، والقيام بزيارات إليه لتدوين مظاهر الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والفنية هناك.
وتحدثت المستشرقة ناتاليا شوسكايا، أستاذة اللغة العربية وآدابها بجامعة موسكو، عن وضع اللغة العربية في روسيا، حيث أكدت الإقبال المتزايد من قبل الشباب الروس على تعلم اللغة العربية، باعتبارها لغة أجنبية ثالثة، حيث تأتي في الاهتمام بعد «الروسية» و«الصينية»، ويتم تكوين خمس أو ست مجموعات لغوية من الطلاب الراغبين في تعلُّم «العربية». ويجرى في كل عام بجامعـة موسكو أولمبياد للغة العربية يتسابق فيه الطلاب والباحثون في مجالات الترجمة والمناقشات الشفاهية والاستماع إلى الكلام العربي عبر شاشة التلفاز وفهمه والاطلاع على الآداب العربية، ولم تنقطع الندوات والأمسيات الخاصة باللغة العربية في جامعاتنا منذ مائة عام، ولم ينقطع هذا التقليد حتى في سنوات الحرب التي خاضتها روسيا، حيث يلقي الطلاب قصائد عربية ويغنون أغاني عربية ويرقصون رقصاً شرقياً.
كما تمثل أعمال المسرحيين العرب أمثال: عبدالرحمن الشرقاوي ونعمان عاشور وصلاح عبدالصبور على المسرح الجامعي جنباً إلى جنب مع أعمال بوشكين وشكسبير وموللر. ويتخرج في قسم لغات الشرقين الأوسط والأدنى بجامعة العلاقات الدولية سنوياً ما يقرب من عشرين مستعرباً من المستعربين الدوليين.
أما المستشرق فلاديمير بولندين، أستاذ الأدب العربي بجامعة سانت بطرسبورج، فيؤكد أن الاستشراق الروسي ينظر إلى الثقافة العربية نظرة موضوعية من منطلق المعرفة الإنسانية، ولم يمارس الوصاية عليها كالاستشراق الغربي. ولم يقتصر دور الاستشراق الروسي على الانفتاح بوعي على الحضارات الشرقية وفي مقدمتها الحضارة العربية الإسلامية، وإنما تعدى الأمر ذلك إلى الدفاع عن هذه الحضارة ضد محاولات تشويهها واستشهد بمقولة المستشرق الروسي ف. ف. بارتولد: «إن الحضارة العربية الإسلامية ظاهرة تاريخية، وليست من البساطة بمكان بحيث يمكن تناولها في بحث أو مقالة».
وأكد أن الأدب العربي الحديث يعبِّر عن هموم البسطاء والمهمشين وآلامهم وأحلامهم وتوقهم إلى الحرية والديمقراطية في ظل تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية كبيرة تمر بها البلدن العربية. وقد استحوذت الرواية العربية على اهتمام القراء الروس، خاصة أعمال الروائي العربي الشهير نجيب محفوظ الفائز بجائزة نوبل عام 1988م.
وتحدث مدير المركز الثقافي الروسي - العربي في سانت بطرسبورج د. مسلم شعيتو عن دور المركز في إثراء الحوار الثقافي بين روسيا والعالم العربي، بعيداً عن الصراعات السياسية ونقل صورة موضوعية للروس عن الثقافة العربية التي شوهتها الآلة الإعلامية الغربية باعتبارها موطناً للإرهاب والتخلف، ولا تستطيع إدارة ثرواتها الموجودة على أراضيها ويجب ألا تترك لهم، ونشر ثقافة التسامح التي يمتلك الشرق تراثاً ضخماً منها، فالإرث الثقافي هو إرث إنساني كوني وليس حكراً على أحد.
أما رئيس المؤسسة المصرية - الروسية للثقافة والعلوم د. حسين الشافعي، فقد ألقى الضوء على دور الشيخ الأزهري عياد الطنطاوي في نشر اللغة العربية والثقافة الإسلامية في مدينة سانت بطرسبورج خلال الفترة (1813 - 1847م) وأتقن الروسية وشغل كرسي اللغة العربية بجامعة بطرسبورج، وتخرج على يديه مئات الطلاب من روسيا والشمال الأوربي.
وأعلن الشافعي عن مشروع ترجمة 100 كتاب من العربية للروسية والعكس، وسوف تنفذه وكالة أنباء روسيا للنشر والترجمة.
وقد أكد أستاذ اللغة الروسية المشارك بجامعة عين شمس د. محمد نصر الجبالي، أن العلاقة بين الحضارتين الروسية والعربية علاقة تكامل واحترام وثقة، وأشار إلى أن الحاجة إلى الترجمات ملحة، وللدول والمؤسسات الثقافية دور في تشجيع الترجمة التي تساعد على التقاء الثقافات والحضارات والتفاعل بينها.وطالب الجبالي بتوثيق الصلة بين الجامعات ومراكز الأبحاث العربية والروسية، وتنظيم معارض سنوية للفنون الروسية في العالم العربي، وللفنون العربية في روسيا.