جولة السيد «د» في القاهرة

جولة السيد «د» في القاهرة

لم تقتصر نشرة بيت الكويت بالقاهرة، التي صدر أول عدد منها في ديسمبر 1946 تحت اسم «البعثة»، على نشر أخبار بعثة طلاب الكويت في القاهرة والأخبار التي تتعلق بدراستهم فقط، بل إنها فتحت الباب على مصراعيه لأقلام الطلبة الكويتيين لكي تدوِّن خواطرهم الأدبية والعلمية، وكان من تلك الخواطر، مساهمة السيد «د»، كما ورد توقيعه، لسرد إحدى جولاته الليلية بشوارع القاهرة، والتي حاول خلالها إبراز الجانب الأدبي المتواضع في شخصيته، وعلى الرغم من أن أسلوبه في السرد يبتعد كثيراً عن أصول الكتابة الأدبية، فإنه قدَّم لنا في خاطرته نظرة إعجاب وتعجب بليل القاهرة في أعين طالب علم كويتي.

 صدرت نشرة «البعثة» عن بيت الكويت بالقاهرة عام 1946، وكانت تصدر شهرياً تحت عنوان «البعثة: نشرة ثقافية تصدر عن بيت الكويت بمصر».. وهدفت النشرة إلى تكوين همزة وصل بين طلاب الكويت المغتربين في مصر وأهلهم بالكويت. ولقد زارها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر مع رئيس المعارف الكويتي الشيخ عبدالله الجابر عام 1954 وتوالت زيارات قيادات مجلس الثورة المصرية آنذاك للتواصل المثمر مع أهل الكويت الشقيق.. وقد اتسع مجال «البعثة» ونشرت لأقلام عربية من الكتاب والمفكرين من شتى أنحاء العالم العربي، مما أعطاها انطباعاً ثقافياً مهماً، وأسهمت من خلال المنشور على صفحاتها في نشر الثقافة والعلوم المختلفة وتعريف العرب بتقاليد وتراث أمتنا العربية بشكل عام والكويت على وجه الخصوص.
على أية حال، لن ندع الحديث الشائق عن نشرة «البعثة» الكويتية بالقاهرة يصرفنا عن مرافقة السيد «د» في جولته القاهرية الليلية، التي كتبها في العدد الثامن، أكتوبر 1950... وجاءت على النحو التالي: 
«الساعة الثالثة صباحا، الوقت قبيل الفجر بنصف ساعة، ترى أنامت القاهرة، أستمع إن هناك أنغاما تنبعث من بعيد، إقترب.. إقترب.. السكون يخيم على المدينة الكبيرة والقمر يبعث أشعته الفضية، فتنعكس على سطح النيل العظيم، ونسيم الصباح البارد قد داعب الأشجار، فتمايلت بلطف وحنان لتوقظ الطيور النائمة على الأفنان.. إقترب.. اقترب هذه الأنوار منبعثة من فيلا بالزمالك، وهذه أخرى بجاردن سيتي، وتلك بشارع الهرم. إن صوت الموسيقى يزداد قوة.. انظر إنهم يرقصون..
لقد أتعبتهم الرسبا والسانبا والرونبا.. وجاء دور التانجو. التانجو الجميل الهادئ. إن أنغام الموسيقى تنساب ببطئ، ومالت الرؤوس الجميلة على الصدور ببطئ أيضا. إن القوم لا يشعرون بمن حولهم فلنتكرهم في حلمهم الجميل، ولنذهب للشارع مرة أخرى.. انظر إن هناك أنوار منبعثة.. ولكن أين الموسيقى؟ أليس هناك رقص؟ بلى.. هناك رقص ولكنه من نوع آخر. إنه رقص الأحرف والكلمات أمام أعين الطلبة المساكين في مثل هذه الساعة.. فابتعد ودعهم بين كتبهم.. 
استمع ... إني أسمع نغما ولكنه نشازا.. إنه صوت حوافر بمصاحبة البرشوم، إنها عربات الكارو، وقد أقبلت من الأرياف لتمد القاهرة بالخضرة والفواكه... إن حوافر الحمار قد أزعجت العصافير على أغصانها فتمطت وهفهفت بأجنحتها.. ومدن أعناقها فشربت من خمر الندى، فطربت وغردت وأبدعت، فصفق لها النيل بشاطئيه وابتسمت لها الشمس... وبدات عربات الترام وعربات الأتوبيس تقل العمال إلى أماكن عملهم، وتلاهم الطلبة والموظفون...
أما وقد أوصلنا الموظف إلى عمله والطالب إلى كليته، فتعال نتسكع بشارع فؤاد.. إن الوقت مبكر وهاهي ذي فتيات المحل داخل الفترينات الكبيرة يضعون المعروضات بفن وذوق يسحر المارة. وتمر امرأة وزوجها وتقف الزوجة فيصفر وجه الزوج.. وتنظر إليه، فيزوي ما بين عينيه وتسحبه من يديه إلى داخل المحل فيطيع لاعنا شاتما في حقد ونمق..
الشمس في كبد السماء، فلنقض وقت الظهيرة في جزيرة الشاي في حديقة الحيوان، حيث النسيم العليل والبط والأوز يشق سطح البحيرة الراكد والأغصان تتمايل طربا والناس حول الموائد في هذا الجو الساحر الجميل..
والآن وقبيل الغروب تعالى معي لنرى مناظر أخرى.. تعالى معي إلى الجزيرة بالقرب من جسر قصر النيل، وأمام سميراميس، انظر هاهي ذي بنت البلد وقد ربطت منديلها الوردي على جبينها، وهاهو ذا ابن البلد يسير بجانبها.. ويمر بائع الحب والترمس فيأخذان، وتأكل بنت البلد من يد ابن البلد.. وتبدأ الشمس في الغروب وراء أشجار الصفصاف الكبيرة.. وتبدأ شموس سميراميس في الشروق فتبدأ معه المسارع والسينمات، وتنقلب القاهرة إلى لهو ومرح حتى الساعة الثانية عشرة.
ولكن سميراميس مازال ساهرا يبعث بأنغامه من فوق حديقة السطح فتهوى القلوب وتطرب النفوس ويسارع الرجال والنساء إلى حلقات الرقص.. وتبدأ الراسبا تليها السانبا وبعدها الرومبا وبعد التعب يأتي دور .. التانجو .. وهكذا تدور القاهرة ولا تنام 
أبداً»... «د».