... والوطن يحترق

... والوطن يحترق

بقدرة محكمة من الخالق جلّ وعلا، وُجدنا على هذه الأرض، وبأمر ربّاني نتحرك في جميع الاتجاهات من أجل تعميرها وجعلها صالحة للحياة.
فكان التعارف والتقارب والتزاوج والإنجاب للخلائق في الأرض، يصل الحياة بالحياة حتى تقاربت موجات ظهور البشر وصنعت من ذلك سوراً بشرياً تصلّب بحكم عوامل الزمن والتعرية - ربما - ليقيم حدوداً كي تتحول الأرض إلى مجموعة من البقع، صغيرها وكبيرها، أطلقت على نفسها «أسواراً» وعلى بطنها «أوطاناً»... وهكذا تحوّلت المواقع على أمنا جميعاً - الأرض - إلى أوطان مسوَّرة ومواطنين.
خيال هو؟! - طبعاً - لكنه لا يبعد كثيراً عن الواقع الذي تمزّق بحكم اختلاف الألسن أولاً، ثم الثقافات ملحقة بالحضارات.
اليوم يحاول العالم أن يطوي ثوبه على جسده، حماية له من صروف الزمان.
والوطن العربي - موقع همِّي الأول والأخير - أشهد فيه بحكم عيشي وتعايشي معه، هذه المحاولة... وأدواتي مختلفة، أيسرها اللسان والقلم، وأصعبها الحديد والنار.
أشهد فيه أحياناً وأقول: آه على زمن كنا فيه نبدأ يومنا بهذه المغناة:
بلادُ العربِ أوطاني
من الشامِ لبغدانِ
ومن نجدٍ إلى يمن
إلى مصر فتطوان
ذاك زمن كانت فيه «المواطنة» لباساً يقينا الحرِّ والبرد، وكانت تاجاً يزيّن رؤوسنا نزهو به في كل مكان، وكانت سلاسل من ذهب تربط المواطن بالوطن، فتجعل منه سدّاً منيعاً أمام مَن يضمر له الشر.
اليوم أضحت حلقات متناثرة صنعت من حديد أضافت له الأحداث السياسية أكواماً من الصدأ.
تحلل فيها معنى المواطنة ليصبح هباءً منثوراً، حتى أصبحنا نستنجد بالقاصي والداني ليزيح عن صدورنا بعضاً من همٍّ خيَّم حتى قطع عنّا الأنفاس، وهي حق إلهي.
هنا لا بد من الاعتراف والحديث عن الوطن والمواطن بأننا العرب  قد نكون نجحنا وإلى حدّ ما في تشكيل ما يمكن تسميته «الوطن»، لكننا فشلنا فشلاً ذريعاً في بناء «المواطن»، لأن الوطن قد يكون صناعة لأنه جماد، لكن «المواطن» يحتاج إلى صوغ أدق وأرقى وأصعب من صوغ الذهب. لذلك أدّعي - اعذروني - أنه لابد لنا من الاعتراف بهذا الفشل حتى نستطيع معالجته - ربما - وبطرق علمية، فـ«الطبطبة» على الظهر لا تجعل من «الولد» رجلاً، ولكن ما يجعله رجلاً هو الغرس الطيب النقي النظيف الأصيل من البذرة الأولى في الأرحام، مروراً بالبيئة التربوية الصالحة، ثم التعهد التربوي التعليمي في البيت وفي المدرسة، وصولاً إلى المجتمع الصافي النقي من كل سلبيات الزمن: الكذب والذاتية المفرطة للسباق والتكالب على زينة الحياة الدنيا واستخدام أسوأ الأساليب للوصول إلى مراكز القوة واستخدامها لقهر الآخرين.
والعقد طويل طويل... نعرفه ونشاهده ونتابعه ونهز له رؤوسنا، قائلين «إنا لله وإنا إليه راجعون»، لكننا نحرص على التمسك بموقعنا في صفوف المتفرجين! والوطن يحترق!.