مصطفى أمين والظل الوارف للصحافة

مصطفى أمين والظل الوارف للصحافة

أكتب‭ ‬عن‭ ‬مصطفى‭ ‬أمين،‭ ‬بعد‭ ‬عشرين‭ ‬عامًا‭ ‬من‭ ‬غيابه،‭ ‬وأبدأ‭ ‬بذكر‭ ‬معادلتين‭ ‬تقولان‭ ‬إن‭ ‬مصطفى‭ ‬هو‭ ‬الصحافة،‭ ‬وإن‭ ‬الصحافة‭ ‬هي‭ ‬مصطفى،‭ ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬عصر‭ ‬الصحافة،‭ ‬مَن‭ ‬يستحق‭ ‬أن‭ ‬يعبّر‭ ‬عنه‭ ‬بهاتين‭ ‬المعادلتين‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أمين‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬الصحافة‭ ‬ومارسها‭ ‬وطوّرها‭ ‬وعلّمها‭ ‬ووظفها‭ ‬ورفّعها‭ ‬وتوّجها‭ ‬وحارب‭ ‬بها‭ ‬وكرّمها‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬لم‭ ‬يتح‭ ‬لغيره‭ ‬بذات‭ ‬القدر‭ ‬في‭ ‬معاصريه‭ ‬العرب‭ ‬والأجانب‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء؟‭ ‬وبلغة‭ ‬علوم‭ ‬البيولوجيا‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬كُرياته‭ ‬الدموية‭ ‬الحُمر‭ ‬صحافة،‭ ‬وكانت‭ ‬صفيحاته‭ ‬الدموية‭ ‬صحافة،‭ ‬وكانت‭ ‬خلاياه‭ ‬البيض‭ ‬صحافة،‭ ‬لم‭ ‬يعش‭ ‬لغير‭ ‬الصحافة،‭ ‬ولم‭ ‬يعش‭ ‬لحظة‭ ‬من‭ ‬حياته‭ ‬بلا‭ ‬صحافة‭.‬

هيأ‭ ‬الله‭ ‬لمصطفى‭ ‬أمين‭ ‬نشأة‭ ‬متميزة‭ ‬في‭ ‬كنف‭ ‬الزعيم‭ ‬سعد‭ ‬زغلول‭ ‬ببيت‭ ‬الأمة،‭ ‬ففتحت‭ ‬له‭ ‬النافذة‭ ‬تلو‭ ‬النافذة‭ ‬على‭ ‬الحقائق‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يعلمها‭ ‬إلا‭ ‬قليلون،‭ ‬وهيأ‭ ‬له‭ ‬نفسًا‭ ‬تحب‭ ‬التفوق‭ ‬وتنزع‭ ‬إلى‭ ‬التأثير،‭ ‬وهكذا‭ ‬اكتملت‭ ‬له‭ ‬الذخيرتان‭ ‬الكفيلتان‭ ‬بالمكانة‭ ‬التي‭ ‬وصل‭ ‬إليها‭ ‬ولم‭ ‬ينافسه‭ ‬فيها‭ ‬أحد‭.‬

قرن‭ ‬أمين‭ ‬عمله‭ ‬اليومي‭ ‬الراتب‭ ‬بأستاذية‭ ‬الصحافة‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة،‭ ‬وكان‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأستاذية‭ ‬يؤدي‭ ‬حقوق‭ ‬الوطن‭ ‬على‭ ‬المهنة‭ ‬من‭ ‬نقل‭ ‬الخبرة‭ ‬وضرب‭ ‬القدوة،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يؤدي‭ ‬أيضًا‭ ‬حقوق‭ ‬المهنة‭ ‬على‭ ‬الوطن‭ ‬في‭ ‬استقطاب‭ ‬الزهور‭ ‬وانتقائها‭ ‬واستنباتها‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬هؤلاء‭ ‬الطلاب‭ ‬والطالبات‭ ‬الذين‭ ‬يحضرون‭ ‬محاضراته،‭ ‬ويستمعون‭ ‬إلى‭ ‬خبراته‭ ‬ويناقضونه‭ ‬أو‭ ‬يناقشونه‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نجد‭ ‬له‭ ‬الآن‭ ‬نظيرًا‭ ‬في‭ ‬حياتنا‭ ‬العامة،‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬قادرًا‭ ‬على‭ ‬أداء‭ ‬هذا‭ ‬الدور‭ ‬بهذه‭ ‬السلاسة‭ ‬بفضل‭ ‬الموهبة‭ ‬التي‭ ‬رُزقها‭.‬

كانت‭ ‬الفترة‭ ‬التي‭ ‬قضاها‭ ‬أمين‭ ‬في‭ ‬دراسته‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ (‬وقد‭ ‬كان‭ ‬والده‭ ‬وزير‭ ‬مصر‭ ‬المفوض‭ ‬في‭ ‬واشنطن‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬رؤساء‭ ‬البعثات‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬المصريون‭ ‬يسمون‭ ‬بهذا‭ ‬الاسم‭) ‬ذات‭ ‬أثر‭ ‬بالغ‭ ‬في‭ ‬أدائه‭ ‬الوظائف‭ ‬والرئاسات‭ ‬التي‭ ‬خلقها‭ ‬لنفسه،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬مغرمًا‭ ‬بالطموح‭ ‬البشري،‭ ‬مشجعًا‭ ‬له،‭ ‬مدركًا‭ ‬لحدود‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يضيف‭ ‬هذا‭ ‬الطموح‭ ‬من‭ ‬إنجاز‭ ‬ومجد‭ ‬وتفوّق‭ ‬لصاحب‭ ‬العمل،‭ ‬وكان‭ ‬هو‭ ‬بطبعه‭ ‬محبًّا‭ ‬واستيعابيًّا،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬يطيق‭ ‬فكر‭ ‬الاستبعاد‭ ‬بالقدر‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يطيق‭ ‬فكر‭ ‬الاستعباد،‭ ‬وهكذا‭ ‬كان‭ ‬يريد‭ ‬من‭ ‬تلامذته‭ ‬والقادمين‭ ‬للتلمذة‭ ‬على‭ ‬يديه‭ ‬أن‭ ‬يكونوا‭ ‬أحرارًا‭ ‬منفتحين‭ ‬منتجين،‭ ‬وقد‭ ‬ظل‭ ‬طوال‭ ‬حياته‭ ‬يسأل‭ ‬تلاميذه‭ ‬حين‭ ‬يلقاهم‭ ‬سؤاله‭ ‬التقليدي‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬ورثه‭ ‬كثيرون‭ ‬منا‭ ‬عنه‭ ‬وهو‭: ‬إيه‭ ‬الأخبار؟

 

كرامة‭ ‬المهنة

كان‭ ‬مصطفى‭ ‬أمين‭ ‬طوال‭ ‬حياته‭ ‬الصحفية‭ ‬أبرز‭ ‬زملائه‭ ‬في‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬كرامة‭ ‬المهنة،‭ ‬وتتعدد‭ ‬القصص‭ ‬والروايات‭ ‬التي‭ ‬تصور‭ ‬نجاحه‭ ‬في‭ ‬فرض‭ ‬هذا‭ ‬الخلق‭ ‬والعمل‭ ‬من‭ ‬أجله،‭ ‬فيؤكد‭ ‬بعضها‭ ‬بعضًا،‭ ‬لكننا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نلمح‭ ‬فيها‭ ‬كلّها‭ ‬إيمانه‭ ‬الحقيقي‭ ‬بأن‭ ‬كرامته‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬تنبع‭ ‬من‭ ‬كرامة‭ ‬أصغر‭ ‬صحفي،‭ ‬وأن‭ ‬المهنة‭ ‬تفرض‭ ‬الاحترام‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬شأن‭ ‬من‭ ‬يؤديها،‭ ‬ولهذا‭ ‬السبب‭ ‬فإنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعنى‭ ‬بأن‭ ‬يكون‭ ‬الصحفي‭ ‬قد‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬مؤهله‭ ‬أم‭ ‬لم‭ ‬يحصل،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬يتمنى‭ ‬له‭ ‬بالطبع‭ ‬أن‭ ‬يسارع‭ ‬بالحصول‭ ‬على‭ ‬مؤهل،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يشغل‭ ‬باله‭ ‬بالوضع‭ ‬الوظيفي؛‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬معيّن‭ ‬أم‭ ‬متقاعد‭ ‬أم‭ ‬تحت‭ ‬التمرين،‭ ‬أم‭ ‬متعاون‭ ‬مع‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬صحيفة،‭ ‬ولا‭ ‬بالوضع‭ ‬النقابي؛‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬عضو‭ ‬في‭ ‬النقابة،‭ ‬أم‭ ‬تحت‭ ‬التمرين،‭ ‬أم‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬ينتمي‭ ‬للنقابة‭ ‬حتى‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭... ‬إلخ‭.‬

كانت‭ ‬الصحافة‭ ‬عنده‭ ‬امهمةب‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬امهنةب،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كنا‭ ‬سنتحدث‭ ‬حديثًا‭ ‬براجماتيًّا‭ ‬مطلقًا‭ ‬بعيدًا‭ ‬عمّا‭ ‬نؤمن‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬قيم‭ ‬االرسالةب‭ ‬واالأمانةب‭ ‬وعن‭ ‬االمكانةب‭.‬

كان‭ ‬مصطفى‭ ‬أمين‭ ‬واعيًا‭ ‬لمكانة‭ ‬الفنان‭ ‬التشكيلي‭ ‬وفنان‭ ‬الكاريكاتير‭ ‬وفنان‭ ‬الإخراج‭ ‬الصحفي‭ ‬بين‭ ‬عناصر‭ ‬الصحيفة،‭ ‬وعلى‭ ‬يديه‭ ‬أصبح‭ ‬هؤلاء‭ ‬صحفيين‭ ‬اكاملي‭ ‬الصحفيةب‭ ‬وليسوا‭ ‬فنانين‭ ‬متعاونين‭ ‬مع‭ ‬الصحافة،‭ ‬وما‭ ‬من‭ ‬فنان‭ ‬تشكيلي‭ ‬ذي‭ ‬قيمة‭ ‬أو‭ ‬أثر‭ ‬إلا‭ ‬وخاض‭ ‬تجربة‭ ‬العمل‭ ‬مع‭ ‬أمين‭ ‬بصورة‭ ‬أو‭ ‬أخرى‭.‬

وقل‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬عن‭ ‬موقفه‭ ‬مع‭ ‬الشعراء‭ ‬وكتّاب‭ ‬الأغاني،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬مما‭ ‬قد‭ ‬يبدو‭ ‬من‭ ‬بُعد‭ ‬مجالهم‭ ‬عن‭ ‬ميدان‭ ‬العمل‭ ‬الصحفي،‭ ‬لكن‭ ‬أمين‭ ‬كان‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬مكانهم‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يكونوا‭ ‬موجودين‭ ‬في‭ ‬المؤسسة‭ ‬الصحفية؛‭ ‬سواء‭ ‬كتبوا‭ ‬الأغنية‭ ‬أو‭ ‬الخاطرة‭ ‬أو‭ ‬الصحافة‭ ‬أو‭ ‬المقال،‭ ‬أو‭ ‬تفرغوا‭ ‬للشعر‭ ‬أو‭ ‬لكتابة‭ ‬الأغاني‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يقدموا‭ ‬شيئًا‭ ‬مباشرًا‭ ‬للصحيفة‭.‬

 

الأستاذ‭ ‬الرائد

ترك‭ ‬مصطفى‭ ‬أمين‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬آثار‭ ‬شخصيته‭ ‬في‭ ‬تلاميذه،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬حفيًّا‭ ‬بالقدر‭ ‬الموازي‭ ‬بأن‭ ‬يترك‭ ‬هذا‭ ‬الأثر‭ ‬في‭ ‬عمل‭ ‬مهني‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬مراجع‭ ‬التجارب‭ ‬المهنية،‭ ‬وهو‭ ‬معذور‭ ‬في‭ ‬هذا،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬التاريخ‭ ‬والعلم‭ ‬يلومانه‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يقدم‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬واجبًا‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يقدمه،‭ ‬لكنّ‭ ‬الدراسات‭ ‬الحديثة‭ ‬كفيلة‭ ‬بأن‭ ‬تقدمه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬دراسة‭ ‬أعماله‭ ‬الكاملة‭ ‬يومًا‭ ‬بيوم‭ ‬في‭ ‬الصحافة‭ ‬التي‭ ‬عشقها‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬سبعين‭ ‬عامًا‭.‬

نعرف‭ ‬أنه‭ ‬الرائد‭ ‬الأول‭ ‬والأعظم‭ ‬لصحافة‭ ‬الخبر،‭ ‬وأنه‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬نقل‭ ‬الصحافة‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬أفق‭ ‬صناعة‭ ‬الخبر‭ ‬وصحافة‭ ‬الخبر،‭ ‬وما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬شك،‭ ‬لكنه‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬أيضًا‭ ‬الأستاذ‭ ‬الرائد‭ ‬لعصر‭ ‬المعلومات،‭ ‬لأن‭ ‬عنايته‭ ‬الفائقة‭ ‬بالخبر‭ ‬قادته‭ ‬إلى‭ ‬النتيجة‭ ‬الطبيعية،‭ ‬وهي‭ ‬العناية‭ ‬بالمعلومات،‭ ‬ولما‭ ‬كانت‭ ‬المعلومات‭ ‬متعددة‭ ‬ومتشعّبة،‭ ‬فقد‭ ‬تنبه‭ ‬منذ‭ ‬وهلة‭ ‬مبكرة‭ ‬إلى‭ ‬الحاجة‭ ‬إليها‭ ‬وإلى‭ ‬ضبطها‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تقدّم‭ ‬للقارئ،‭ ‬وهكذا‭ ‬امتد‭ ‬مصطفى‭ ‬أمين‭ ‬بالمكتبة‭ ‬إلى‭ ‬أفق‭ ‬المعلومات‭ ‬سابقًا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأقسام‭ ‬الأكاديمية‭ ‬الجامعية‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬وضع‭ ‬أفضل‭ ‬الأسس‭ ‬للأرشيف‭ ‬الصحفي‭ ‬ولملفات‭ ‬المعلومات‭ ‬والصور‭ ‬والنيجاتيف‭ ‬المطلوب‭ ‬لكل‭ ‬حدث‭. ‬

كان‭ ‬مصطفى‭ ‬أمين‭ ‬هو‭ ‬الأستاذ‭ ‬الأول‭ ‬لعلم‭ ‬المعلومات‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬علّم‭ ‬أصحاب‭ ‬القلم‭ ‬وأصحاب‭ ‬الصحف‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬للمعلومات‭ ‬مكان‭ ‬في‭ ‬اهتماماتهم‭ ‬وفي‭ ‬ترتيب‭ ‬أولوياتهم‭ ‬وفي‭ ‬عرضهم‭ ‬للحقائق‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬العرض‭ ‬مستهدفًا‭ ‬للسلاسة‭ ‬والتشويق‭. ‬كان‭ ‬المسؤولون‭ ‬عن‭ ‬أقسام‭ ‬المعلومات‭ ‬ومكتبات‭ ‬الصحف‭ ‬كلما‭ ‬رأوني‭ ‬مشغولًا‭ ‬بتحقيق‭ ‬جزئية‭ ‬من‭ ‬مصادرها‭ ‬المختلفة‭ ‬يقولون‭ ‬لي‭: ‬آه‭ ‬لو‭ ‬رآك‭ ‬مصطفى‭ ‬بك‭ ‬في‭ ‬عز‭ ‬مجده‭ ‬لجعل‭ ‬مشاهدتك‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الحال‭ (‬الفرجة‭ ‬عليك‭) ‬أحد‭ ‬مؤهلات‭ ‬كل‭ ‬صحفي‭.‬

 

أمين‭ ‬وعبدالناصر

كانت‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الفعاليات‭ ‬تتطلب‭ ‬إتقانًا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أمين‭ ‬يبخل‭ ‬به‭ ‬أبدًا،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬تتطلب‭ ‬إنفاقًا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يبخل‭ ‬به‭ ‬أبدًا،‭ ‬وكان‭ ‬إذا‭ ‬زار‭ ‬صحيفة‭ ‬في‭ ‬الخارج‭ ‬نظر‭ ‬إلى‭ ‬قدراتها‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الأقسام‭ ‬الحديثة،‭ ‬واستقى‭ ‬منها‭ ‬أفضل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬متاح‭.‬

ويتصل‭ ‬بهذا‭ ‬المجال‭ ‬ما‭ ‬تأخرت‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬عمد،‭ ‬وهو‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬تنظيم‭ ‬كل‭ ‬المعلومات‭ ‬الخاصة‭ ‬بالمجتمع‭ ‬المصري‭ ‬والعربي‭ ‬وبما‭ ‬يحتاج‭ ‬إليه‭ ‬أي‭ ‬صاحب‭ ‬قرار‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬وقت،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬الرئيس‭ ‬عبدالناصر‭ ‬دائمًا‭ ‬ما‭ ‬يعوّل‭ ‬على‭ ‬ملف‭ ‬المعلومات‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬مصطفى‭ ‬أمين،‭ ‬مقدّرًا‭ ‬أفضليته‭ ‬على‭ ‬ملفات‭ ‬المعلومات‭ ‬القادمة‭ ‬من‭ ‬أجهزة‭ ‬المخابرات‭ ‬والأمن،‭ ‬وكان‭ ‬يجاهر‭ ‬بهذا،‭ ‬وكان‭ ‬محقًا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬أيضًا‭.‬

ويعتقد‭ ‬تلاميذ‭ ‬أمين‭ ‬ومعاصروهم‭ ‬أن‭ ‬نجاحه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬ركيزتين،‭ ‬أولاهما‭ ‬هي‭ ‬شبكة‭ ‬المعلومات‭ ‬التي‭ ‬استطاع‭ ‬تكوينها‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬فذّ‭ ‬ومذهل،‭ ‬وثانيتهما‭ ‬ترتبط‭ ‬بشخصية‭ ‬مصطفى‭ ‬نفسه‭ ‬كمحب‭ ‬للعلم‭ ‬والاستطلاع‭ ‬معًا،‭ ‬وقد‭ ‬وصل‭ ‬حبه‭ ‬للعلم‭ ‬والاستطلاع‭ ‬إلى‭ ‬ذروة‭ ‬الشبق‭ ‬المطلوب‭ ‬المتفوق،‭ ‬فكم‭ ‬من‭ ‬أستاذ‭ ‬كبير‭ ‬كان‭ ‬محبًا‭ ‬للعلم‭ ‬متيمًا‭ ‬به،‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬يفتقد‭ ‬حب‭ ‬الاستطلاع‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يسمّونه‭ ‬الفضول،‭ ‬وكم‭ ‬من‭ ‬فضولي‭ ‬كان‭ ‬يجيد‭ ‬التقاط‭ ‬الحوادث‭ ‬والأخبار،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نسميه‭ ‬ادولاب‭ ‬العلمب‭ ‬الذي‭ ‬يستطيع‭ ‬حفظ‭ ‬هذه‭ ‬المعلومات‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الكاشف‭ ‬والمضيء‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬أمين‭ ‬يملكه‭.‬

 

تنافس‭ ‬مع‭ ‬المخابرات

على‭ ‬أن‭ ‬حب‭ ‬مصطفى‭ ‬أمين‭ ‬للمعلومات‭ ‬كان‭ ‬سر‭ ‬نكبته،‭ ‬حيث‭ ‬أجج‭ ‬التنافس‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬أجهزة‭ ‬المخابرات‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬كما‭ ‬سهّل‭ ‬وصم‭ ‬كل‭ ‬نشاط‭ ‬له‭ ‬بالوصمة‭ ‬الاستخباراتية‭ ‬أو‭ ‬المخابراتية،‭ ‬وهكذا‭ ‬كانت‭ ‬قضية‭ ‬مصطفى‭ ‬أمين‭ ‬تتحرك‭ ‬على‭ ‬أرضية‭ ‬من‭ ‬عمله‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الخبر‭ ‬والمعلومات‭ ‬وعلى‭ ‬خلفية‭ ‬من‭ ‬تعاونه‭ ‬الفائق‭ ‬مع‭ ‬رئيس‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬استطلاع‭ ‬النوايا‭ ‬والتوجهات،‭ ‬هكذا‭ ‬يصبح‭ ‬حديث‭ ‬المستقبل‭ ‬عن‭ ‬التاريخ‭ ‬في‭ ‬قضية‭ ‬مصطفى‭ ‬أمين‭ ‬شائكًا‭ ‬للدولة‭ ‬بأكثر‭ ‬مما‭ ‬كان‭ ‬شائكًا‭ ‬لأي‭ ‬إنسان،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬الظلم‭ ‬قد‭ ‬حاق‭ ‬بمصطفى‭ ‬كشخص‭ ‬وحاق‭ ‬بالدولة‭ ‬كوطن‭ ‬وأرض‭ ‬وكيان‭ ‬كبير‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬أفاق‭ ‬على‭ ‬هزيمة‭ ‬1967‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬المستحيل‭ ‬أن‭ ‬تحدث‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬أمين‭ ‬حرًّا‭ ‬طليقًا،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬إتاحة‭ ‬تدفق‭ ‬المعلومات‭ ‬للمستويات‭ ‬القيادية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الصحافة‭ ‬المطبوعة‭ ‬كفيلة‭ ‬بتنوير‭ ‬المستويات‭ ‬المختلفة‭ ‬من‭ ‬السلطة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تندفع‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬اندفعت‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬مايو‭ ‬1967‭ ‬من‭ ‬إغلاق‭ ‬المضايق‭ ‬والتمهيد‭ ‬لإعلان‭ ‬الحرب‭.‬

لو‭ ‬كان‭ ‬مصطفى‭ ‬يومئذ‭ ‬حرًا‭ ‬طليقًا‭ ‬لاستطاع‭ ‬بمقدرته‭ ‬الفذة‭ ‬أن‭ ‬يدل‭ ‬الرئيس‭ ‬وغير‭ ‬الرئيس‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬ينتظر‭ ‬مصر‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬نُصب‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬شباك‭ ‬العدو‭ ‬وكمائنه،‭ ‬لكنه‭ ‬أودع‭ ‬السجن‭ ‬وتركت‭ ‬الصحافة‭ ‬يتيمة‭ ‬من‭ ‬دونه،‭ ‬بل‭ ‬تركت‭ ‬ضائعة‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تحصل‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬خبر‭ ‬يشتمّ‭ ‬منه‭ ‬أنه‭ ‬يقلل‭ ‬من‭ ‬حكمة‭ ‬الزعيم‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬معرفته،‭ ‬وهكذا‭ ‬فإنه‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬أمين‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬حدوث‭ ‬الكارثة‭ ‬التي‭ ‬سبقت‭ ‬كارثة‭ ‬1967،‭ ‬ومهدت‭ ‬لها،‭ ‬وهي‭ ‬كارثة‭ ‬التجهيل‭ ‬المتعمد‭ ‬لحقيقة‭ ‬الموقف‭ ‬ولعواقب‭ ‬القرارات‭.‬

 

عوامل‭ ‬متقطعة

إذا‭ ‬كان‭ ‬بعضنا‭ ‬يوافق‭ ‬على‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬نكسة‭ ‬1967‭ ‬كانت‭ ‬نتيجة‭ ‬عوامل‭ ‬عديدة‭ ‬متقطعة،‭ ‬فإن‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬العوامل‭ ‬أنك‭ ‬أودعت‭ ‬السجن‭ ‬مصدرك‭ ‬الأول‭ ‬للمعلومات‭ ‬عن‭ ‬أمريكا،‭ ‬واستبقيت‭ ‬بالقرب‭ ‬منك‭ ‬المورد‭ ‬الأول‭ ‬للمعلومات‭ ‬إلى‭ ‬أمريكا‭. ‬وهكذا‭ ‬أصبح‭ ‬الميزان‭ ‬المعلوماتي‭ ‬يميل‭ ‬تمامًا‭ ‬لزيادة‭ ‬المعلومات‭ ‬المصدرة‭ ‬عنك‭ ‬إلى‭ ‬أمريكا‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬ندرة‭ ‬معلوماتك‭ ‬المستوردة‭ ‬عنها،‭ ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬كارثة‭ ‬الكوارث‭ ‬بكل‭ ‬المقاييس‭.‬

أنتقل‭ ‬إلى‭ ‬الأسلوب‭ ‬البياني‭ ‬لمصطفى‭ ‬أمين‭ ‬أو‭ ‬أسلوبه‭ ‬في‭ ‬الإبانة‭ ‬والستر،‭ ‬وإذا‭ ‬قيل‭ ‬إن‭ ‬اللغة‭ ‬والكتابة‭ ‬قد‭ ‬اخترعتا‭ ‬لتمكنانا‭ ‬من‭ ‬تجاهل‭ ‬ما‭ ‬نريد‭ ‬تجاهله‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬ذكرنا‭ ‬لما‭ ‬نريد‭ ‬ذكره،‭ ‬فإن‭ ‬أمين‭ ‬كان‭ ‬مخلصًا‭ ‬للحقيقة‭ ‬التي‭ ‬يريد‭ ‬إبرازها‭ ‬إخلاصًا‭ ‬غريبًا،‭ ‬فقد‭ ‬استطاع‭ ‬بألفاظ‭ ‬محايدة‭ ‬جدًا‭ ‬أن‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المعاني‭ ‬الإنسانية‭ ‬والسياسية‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬المستحب‭ ‬لأحد‭ ‬أن‭ ‬يتناولها‭ ‬من‭ ‬قريب‭ ‬ولا‭ ‬من‭ ‬بعيد،‭ ‬لكنه‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يجسدها‭ ‬وأن‭ ‬يمثّلها‭ ‬ويسرد‭ ‬وقائعها‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬مُعجز‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تتهمه‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬لفظ،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬فإنه‭ ‬لم‭ ‬يترك‭ ‬جزئية‭ ‬من‭ ‬جزئيات‭ ‬المعنى‭ ‬إلا‭ ‬وقد‭ ‬مسّها‭ ‬مسًّا‭ ‬مباشرًا‭.‬

وعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬يحثون‭ ‬على‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬المدفونات‭ ‬أو‭ ‬الحفائر‭ ‬أو‭ ‬يبحثون‭ ‬عن‭ ‬المستمسكات،‭ ‬فإن‭ ‬أمين‭ ‬أجاد‭ ‬وصف‭ ‬نفسية‭ ‬السحاقيات‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬لم‭ ‬يُتح‭ ‬لغيره‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬إليه‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬كتبوا‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬أو‭ ‬الطبية‭ ‬بصراحة‭ ‬شديدة‭.‬

 

حقائق‭ ‬مخفية

كانت‭ ‬نصوص‭ ‬أمين‭ ‬المتخذة‭ ‬لشكل‭ ‬فنون‭ ‬السرد‭ ‬ذات‭ ‬خصائص‭ ‬انفرد‭ ‬هو‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭ ‬الذي‭ ‬عرف‭ ‬عن‭ ‬أدبه‭. ‬وعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬فإنه‭ ‬كان‭ ‬يتمتع‭ ‬بخاصية‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬المعلومات‭ ‬وتوثيقها،‭ ‬وهي‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يطعّم‭ ‬بها‭ ‬بعض‭ ‬كتاباته‭ ‬السياسية‭ ‬وأعماله‭ ‬القصصية،‭ ‬وعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬فإن‭ ‬قصة‭ ‬الاب‭ ‬حافلة‭ ‬بوقائع‭ ‬التاريخ‭ ‬التي‭ ‬تفرّد‭ ‬أمين‭ ‬بنشر‭ ‬حقائق‭ ‬مخفية‭ ‬عنها‭ ‬لم‭ ‬تنشر‭ ‬في‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬القصص‭ ‬والروايات،‭ ‬كذلك‭ ‬فإن‭ ‬قصة‭ ‬اكافب‭ ‬تمثّل‭ ‬معينًا‭ ‬ليس‭ ‬ينضب‭ ‬لا‭ ‬للمعلومات‭ ‬التاريخية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬فحسب،‭ ‬ولكن‭ ‬لوصف‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأمزجة‭ ‬والبيئات‭ ‬الخاصة‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬أمين‭ ‬واستوعبها‭ ‬ونقدها‭ ‬واستعرضها‭ ‬واستذكرها‭ ‬وأجاد‭ ‬وصفها‭ ‬وتشريحها‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬إحسان‭ ‬عبدالقدوس‭ ‬قد‭ ‬نجح‭ ‬أيّما‭ ‬نجاح‭ ‬في‭ ‬عرض‭ ‬رؤية‭ ‬المرأة‭ ‬لنفسها‭ ‬ولمشكلاتها،‭ ‬فإن‭ ‬أمين‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يضع‭ ‬المشكلة‭ ‬العاطفية‭ ‬في‭ ‬المحل‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬سرده،‭ ‬وإنما‭ ‬كان‭ ‬يوردها‭ ‬في‭ ‬موضع‭ ‬االممثل‭ ‬المساعدب‭ ‬أو‭ ‬البطل‭ (‬الثاني‭) ‬فيما‭ ‬بين‭ ‬الأبطال‭ ‬التي‭ ‬تقود‭ ‬حركة‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬اللاوعي،‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬إحسان‭ ‬قد‭ ‬حرّك‭ ‬مرآته‭ ‬في‭ ‬الاتجاه‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬العاطفة‭ ‬تعبّر‭ ‬عن‭ ‬السياسة‭ ‬برمزية‭ ‬ناقصة،‭ ‬فإن‭ ‬أمين‭ ‬عبّر‭ ‬بالسياسة‭ ‬عن‭ ‬العاطفة‭ ‬برمزية‭ ‬واضحة‭ ‬ربما‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬المباشرة،‭ ‬ولهذا،‭ ‬وطبقًا‭ ‬لمنطق‭ ‬الفن،‭ ‬فإن‭ ‬إحسان‭ ‬حظي‭ ‬بمكانة‭ ‬فنية‭ ‬وأدبية‭ ‬تفوق‭ ‬مكانة‭ ‬أمين،‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬إسهام‭ ‬الأخير‭ ‬أعمق‭ ‬وأوسع،‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬حريصًا‭ ‬على‭ ‬المباشرة‭ ‬ومضحيًّا‭ ‬بالفن‭ ‬عن‭ ‬قصد،‭ ‬بل‭ ‬عن‭ ‬عمد‭ ‬متعمد،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬هذا‭ ‬ضعفًا‭ ‬فنيًّا‭ ‬ولا‭ ‬قلة‭ ‬خبرة‭ ‬ولا‭ ‬قلة‭ ‬طموح‭ ‬من‭ ‬أمين،‭ ‬بل‭ ‬بالعكس‭.‬

ولو‭ ‬أن‭ ‬أمين‭ ‬لجأ‭ ‬إلى‭ ‬تقديم‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬ثوب‭ ‬الفنان‭ ‬لفقد‭ ‬خطابه‭ ‬السياسي‭ ‬جزءًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬من‭ ‬مصداقيته،‭ ‬وهي‭ ‬مصداقية‭ ‬كانت‭ ‬مطلوبة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬صباح‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬خمسة‭ ‬أو‭ ‬ستة‭ ‬عقود‭ ‬بلا‭ ‬مبالغة،‭ ‬وإذا‭ ‬بحثت‭ ‬في‭ ‬الصحفيين‭ ‬المعاصرين‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬كله‭ ‬عن‭ ‬صحفي‭ ‬استمر‭ ‬تأثيره‭ ‬طوال‭ ‬هذه‭ ‬الفترة،‭ ‬وامتد‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النطاق‭ ‬الذي‭ ‬امتد‭ ‬إليه‭ ‬أمين،‭ ‬فلن‭ ‬تجد‭ ‬من‭ ‬يتفوق‭ ‬عليه‭ ‬لا‭ ‬أمريكيًّا‭ ‬ولا‭ ‬غربيًّا‭ ‬ولا‭ ‬شرقيًّا‭.‬

 

كاتب‭ ‬رائع

لم‭ ‬يكن‭ ‬مصطفى‭ ‬أمين‭ ‬يشغل‭ ‬باله‭ ‬بدوره‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬القصة‭ ‬التي‭ ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬بطلها،‭ ‬كان‭ ‬ما‭ ‬يهمه‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يقصده‭ ‬من‭ ‬معنى‭ ‬حين‭ ‬يروي‭ ‬القصة،‭ ‬وهو‭ ‬واثق‭ ‬بأن‭ ‬دوره‭ ‬معروف‭ ‬وحقه‭ ‬محفوظ،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬يحتاط‭ ‬لأي‭ ‬صورة‭ ‬تنطبع‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ما‭ ‬يسجله‭ ‬من‭ ‬وقائع،‭ ‬ومن‭ ‬الإنصاف‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬إنه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الخلق‭ ‬كان‭ ‬كاتبًا‭ ‬رائعًا‭ ‬بحق،‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬بهذا‭ ‬الترفع‭ ‬التلقائي‭ ‬يتجاوز‭ ‬حق‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬معرفة‭ ‬الانفعالات‭ ‬التي‭ ‬مر‭ ‬بها‭ ‬الراوي‭ ‬حين‭ ‬يشارك‭ ‬فيما‭ ‬شارك‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬أحداث‭ ‬يرويها،‭ ‬ومع‭ ‬أن‭ ‬أسلوب‭ ‬أمين‭ ‬أنفع‭ ‬لعظمة‭ ‬صاحبه‭ ‬فإني‭ ‬بما‭ ‬جُبلت‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬طبع‭ ‬مهنتي‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أجاريه‭ ‬فيما‭ ‬كان‭ ‬يفعله،‭ ‬لأنني‭ ‬أعتقد‭ ‬أني‭ ‬أكون‭ ‬خائنًا‭ ‬للجزء‭ ‬الشعوري‭ ‬والانفعالي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬للمستمع‭ ‬أو‭ ‬القارئ‭ ‬أن‭ ‬يحيط‭ ‬به،‭ ‬وإلا‭ ‬فقدت‭ ‬القصة‭ ‬قيمتها‭ ‬أو‭ ‬مبررها‭.‬

لكن‭ ‬أمين،‭ ‬كصاحب‭ ‬مجد،‭ ‬كان‭ ‬مشغولاً‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬تمامًا‭ ‬بمجده،‭ ‬لا‭ ‬أقول‭ ‬المتحقق،‭ ‬لكن‭ ‬الذي‭ ‬كان
لا‭ ‬يزال‭ ‬يتجدد‭.‬

وكان‭ ‬إذا‭ ‬كتب‭ ‬عن‭ ‬شخصية‭ ‬من‭ ‬الشخصيات‭ ‬التي‭ ‬عاشت‭ ‬السياسة‭ ‬وصل‭ ‬في‭ ‬سرعة‭ ‬البرق‭ ‬إلى‭ ‬منطقة‭ ‬التفوق‭ ‬أو‭ ‬التميز‭ ‬في‭ ‬أدائها،‭ ‬وحلل‭ ‬هذا‭ ‬التفوق‭ ‬منحازًا‭ ‬للقيمة‭ ‬لا‭ ‬للشخص‭. 

أما‭ ‬العلاقة‭ ‬الأقوى‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬أمين‭ ‬فهي‭ ‬علاقته‭ ‬بالسيدة‭ ‬الفنانة‭ ‬أم‭ ‬كلثوم،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬مصطفى‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬زوج،‭ ‬وأكثر‭ ‬من‭ ‬أخ،‭ ‬وأكثر‭ ‬من‭ ‬مستشار،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬حتى‭ ‬بأموالها‭ ‬سندًا‭ ‬لمؤسسة‭ ‬االأخبارب‭ ‬ومساهمة‭ ‬من‭ ‬المساهمات‭ ‬الأصليين‭ ‬في‭ ‬الشركة‭ ‬المساهمة‭ ‬التي‭ ‬أسست‭ ‬اأخبار‭ ‬اليومب‭.‬

 

أمين‭ ‬وأم‭ ‬كلثوم

لسنا‭ ‬في‭ ‬الشرفة‭ ‬التي‭ ‬تسمح‭ ‬لنا‭ ‬بوصف‭ ‬علاقة‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬بمصطفى‭ ‬أمين‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬دقيق،‭ ‬ولماذا‭ ‬اتخذت‭ ‬حياتهما‭ ‬الزوجية‭ ‬هذا‭ ‬الطابع‭ ‬الذي‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نصفه‭ ‬بأنه‭ ‬البعيد‭ ‬عن‭ ‬الضوء‭ ‬والقريب‭ ‬من‭ ‬الصوت،‭ ‬لكننا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نفهم‭ ‬أن‭ ‬طرفي‭ ‬العلاقة‭ ‬كانا‭ ‬يملكان‭ ‬من‭ ‬الذكاء‭ ‬المهني‭ ‬والاجتماعي‭ ‬ما‭ ‬يحدّ‭ ‬من‭ ‬التألق‭ ‬العاطفي‭ ‬بأي‭ ‬علاقة‭ ‬يكون‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬طرفًا‭ ‬فيها،‭ ‬فقد‭ ‬كانا‭ ‬بالغين‭ ‬وقادرين‭ ‬على‭ ‬التحكّم‭ ‬في‭ ‬الصورة‭ ‬وفي‭ ‬التصرفات‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬كبير،‭ ‬وقد‭ ‬وجدا‭ ‬لأسباب‭ ‬كثيرة‭ ‬أن‭ ‬علاقة‭ ‬غير‭ ‬كاملة‭ ‬الصورة‭ ‬أفضل‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬العلاقة‭ ‬الكاملة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ينفي‭ ‬هذا‭ ‬أن‭ ‬الزواج‭ ‬بينهما‭ ‬قد‭ ‬تم‭ ‬واستمر‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة‭.‬

ونحن‭ ‬نعرف‭ ‬أن‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬لم‭ ‬تظهر‭ ‬في‭ ‬السينما‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬قصة‭ ‬كتبها‭ ‬مصطفى‭ ‬أمين،‭ ‬وأنها‭ ‬لم‭ ‬تظهر‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الرسمي‭ ‬إلا‭ ‬بترتيب‭ ‬دبره‭ ‬هو،‭ ‬كما‭ ‬نعرف‭ ‬أيضًا‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مرتاحة‭ ‬البال‭ ‬حين‭ ‬عاشت‭ ‬الألم‭ ‬وهي‭ ‬تراه‭ ‬يعتقل‭ ‬ويتّهم‭ ‬ويتعرض‭ ‬لبطش‭ ‬القوة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هي‭ ‬نفسها‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬فرملتها‭ ‬أو‭ ‬إيقافها‭ ‬عند‭ ‬حد‭.   

عاش‭ ‬مصطفى‭ ‬أمين‭ ‬منفقًا‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬إنفاق‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يخشى‭ ‬الفقر

لم‭ ‬يعرف‭ ‬البخل‭ ‬وإن‭ ‬عرف‭ ‬الاقتصاد‭. ‬

لم‭ ‬يعرف‭ ‬الشحّ‭ ‬وإن‭ ‬عرف‭ ‬المحاسبة‭.‬

لم‭ ‬يعرف‭ ‬التقييد‭ ‬وإن‭ ‬عرف‭ ‬التسجيل‭.‬

لم‭ ‬يعرف‭ ‬الندم‭ ‬وإن‭ ‬عرف‭ ‬المراجعة‭. ‬

لم‭ ‬يعرف‭ ‬النكوص‭ ‬وإن‭ ‬عرف‭ ‬التراجع‭.‬

لم‭ ‬يعرف‭ ‬النكث‭ ‬وإن‭ ‬عرف‭ ‬التريّث‭.‬

كنت‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬إنه‭ ‬لم‭ ‬يعرف‭ ‬القيد،‭ ‬لكنه‭ ‬مع‭ ‬الأسف‭ ‬الشديد‭ ‬عرف‭ ‬القيد‭ ‬وإن‭ ‬سعى‭ ‬حياته‭ ‬كلها‭ ‬إلى‭ ‬تحطيم‭ ‬القيود‭ .