محمد عبدالوهاب موسيقار ومطرب القرن العشرين

محمد عبدالوهاب موسيقار ومطرب القرن العشرين

كان‭ ‬اللقب‭ ‬الشائع‭ ‬لمحمد‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬قد‭ ‬انتقل‭ ‬من‭ ‬موسيقار‭ ‬الجيل،‭ ‬إلى‭ ‬موسيقار‭ ‬الأجيال،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تجاوز‭ ‬به‭ ‬العمر‭ ‬التسعين‭ ‬بأربع‭ ‬سنوات،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يزال‭ ‬يواصل‭ ‬الإبداع‭ ‬بوتيرة‭ ‬نشيطة،‭ ‬ويوزع‭ ‬ألحانه‭ ‬على‭ ‬أشهر‭ ‬مطربي‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬ومطرباته،‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يتسابقون‭ ‬في‭ ‬الحصول‭ ‬ولو‭ ‬على‭ ‬لحن‭ ‬واحد‭ ‬منه،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬عادت‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬عمرها‭ ‬دخلت‭ ‬في‭ ‬تعاون‭ ‬مثمر‭ ‬معه،‭ ‬امتد‭ ‬إلى‭ ‬10‭ ‬ألحان،‭ ‬8‭ ‬منها‭ ‬عاطفية،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬لحنين‭ ‬وطنيين،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬شيخ‭ ‬النقاد‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬كمال‭ ‬النجمي،‭ ‬اختار‭ ‬‮«‬مطرب‭ ‬المئة‭ ‬عام‮»‬‭ ‬عنوانًا‭ ‬للكتاب‭ ‬الذي‭ ‬وضعه‭ ‬عن‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬بعد‭ ‬رحيله‭ ‬بأشُهر‭. ‬

الحقيقة‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الألقاب،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬لقبه‭ ‬الأول‭ ‬امطرب‭ ‬الملوك‭ ‬والأمراءب،‭ ‬تعطي‭ ‬في‭ ‬مجموعها‭ ‬مستوى‭ ‬من‭ ‬التقدير‭ ‬الفني‭ ‬الرفيع‭ ‬الذي‭ ‬يتمتع‭ ‬به‭ ‬هذا‭ ‬الفنان‭ ‬الاستثنائي‭ ‬الذي‭ ‬وُلد‭ ‬قبل‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬بثلاث‭ ‬سنوات،‭ ‬ليخلف‭ ‬في‭ ‬ربعه‭ ‬الأول‭ ‬أستاذه‭ ‬سيد‭ ‬درويش‭ ‬على‭ ‬عرش‭ ‬الموسيقى‭ ‬والطرب،‭ ‬ويبقى‭ ‬محتفظًا‭ ‬بموقعه‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬العرش‭ ‬المزدوج‭ ‬طوال‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬حتى‭ ‬عقده‭ ‬الأخير‭.‬

‭ ‬والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬ظروفًا‭ ‬تاريخية‭ ‬كثيرة‭ ‬قد‭ ‬اجتمعت،‭ ‬إضافة‭ ‬طبعًا‭ ‬إلى‭ ‬المواهب‭ ‬الغنائية‭ ‬والموسيقية‭ ‬التي‭ ‬وهبها‭ ‬الله‭ ‬لهذا‭ ‬الفنان‭ ‬بغير‭ ‬حساب،‭ ‬أهمها‭ ‬أنه‭ ‬وُلد‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬كان‭ ‬فيها‭ ‬رحيل‭ ‬زعيمي‭ ‬النهضة‭ ‬الموسيقية‭ ‬العربية‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر؛‭ ‬محمد‭ ‬عثمان‭ (‬1900‭) ‬وعبده‭ ‬الحمولي‭ (‬1901‭)‬،‭ ‬حين‭ ‬طرح‭ ‬السؤال‭ ‬الكبير‭: ‬ماذا‭ ‬سيكون‭ ‬مصير‭ ‬الموسيقى‭ ‬والغناء‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬العرب‭ ‬بعد‭ ‬هذا‭ ‬التزامن‭ ‬في‭ ‬الرحيل‭ ‬المفاجئ؟‭ ‬وقد‭ ‬ازداد‭ ‬إلحاح‭ ‬هذا‭ ‬التساؤل‭ ‬الكبير‭ ‬بعد‭ ‬رحيل‭ ‬كلّ‭ ‬من‭ ‬يوسف‭ ‬المنيلاوي‭ ‬وسلامة‭ ‬حجازي،‭ ‬في‭ ‬العقدين‭ ‬الأوّلين‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭.‬

لكن‭ ‬الله‭ ‬لم‭ ‬يبخل‭ ‬علينا‭ ‬بإرسال‭ ‬العبقريين‭ ‬الموهوبين‭ ‬أبي‭ ‬العلا‭ ‬محمد‭ ‬وسيد‭ ‬درويش،‭ ‬فقام‭ ‬الأول‭ ‬بتطوير‭ ‬وحفظ‭ ‬تراث‭ ‬القصيدة‭ ‬الغنائية‭ ‬العربية،‭ ‬وأرسى‭ ‬الثاني،‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬6‭ ‬سنوات‭ ‬فقط‭ (‬1917‭ - ‬1923‭)‬،‭ ‬جسر‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬نهضة‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬إلى‭ ‬نهضة‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭.‬

 

ملامح‭ ‬مشتركة

كان‭ ‬من‭ ‬الملامح‭ ‬المشتركة‭ ‬لكل‭ ‬هؤلاء‭ ‬العباقرة‭ ‬أنهم‭ ‬كانوا‭ ‬أصلًا‭ ‬من‭ ‬المشايخ‭ ‬المتمرسين‭ ‬بأصول‭ ‬الإنشاد‭ ‬الديني،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬المشايخ،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬تلقوا‭ ‬التربية‭ ‬على‭ ‬أصول‭ ‬المقامات‭ ‬العربية‭ ‬عن‭ ‬كبار‭ ‬المشايخ‭.‬

هذه‭ ‬القاعدة‭ ‬الذهبية‭ ‬لم‭ ‬يشذ‭ ‬عنها‭ ‬العبقري‭ ‬الطفل‭ ‬عبدالوهاب،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬والده‭ ‬شيخًا،‭ ‬وشقيقه‭ ‬الأكبر‭ ‬شيخًا،‭ ‬فترعرع‭ ‬في‭ ‬طفولته‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬أحضان‭ ‬الإنشاد‭ ‬الديني‭ ‬بجامع‭ ‬حي‭ ‬باب‭ ‬الشعرية‭ ‬بالقاهرة،‭ ‬وظل‭ ‬لصيقًا‭ ‬بكبار‭ ‬المشايخ؛‭ ‬مثل‭ ‬علي‭ ‬محمود‭ ‬ودرويش‭ ‬الحريري‭ ‬ومحمد‭ ‬رفعت،‭ ‬حتى‭ ‬الشيخ‭ ‬مصطفى‭ ‬إسماعيل،‭ ‬إلى‭ ‬سن‭ ‬متقدمة،‭ ‬حتى‭ ‬تربّع‭ ‬على‭ ‬عرش‭ ‬الغناء‭ ‬والموسيقى‭ ‬العربيين،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬رفاقه‭ ‬العباقرة‭ ‬محمد‭ ‬القصبجي‭ ‬وزكريا‭ ‬أحمد‭ ‬ورياض‭ ‬السنباطي‭.‬

وكان‭ ‬نديمه‭ ‬المفضل‭ ‬في‭ ‬العقدين‭ ‬الأخيرين‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬عمران،‭ ‬آخر‭ ‬عظماء‭ ‬الإنشاد‭ ‬الديني‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬يصر‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يعقد‭ ‬معه‭ ‬جلسة‭ ‬فنية‭ ‬أسبوعية‭.‬

هذا‭ ‬الأساس‭ ‬المتين‭ ‬الذي‭ ‬تربّت‭ ‬مواهب‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬الموسيقية‭ ‬والغنائية‭ ‬في‭ ‬أحضانه،‭ ‬ظل‭ ‬الجذور‭ ‬الصلبة‭ ‬التي‭ ‬بقي‭ ‬ملتصقًا‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬عمره،‭ ‬والعمود‭ ‬الفقري،‭ ‬الذي‭ ‬صانه‭ ‬من‭ ‬احتمالات‭ ‬التغرب،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬انغماسه‭ ‬الشديد‭ ‬بالإعجاب‭ ‬بالموسيقى‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬الأوربية‭.‬

 

جمال‭ ‬الصوت‭ ‬والأداء

بدأ‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬يلفت‭ ‬النظر‭ ‬بجمال‭ ‬صوته‭ ‬وجمال‭ ‬أدائه‭ ‬الغنائي،‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬طفلًا‭ ‬لم‭ ‬يتجاوز‭ ‬سنواته‭ ‬العشر،‭ ‬حيث‭ ‬بدأ‭ ‬يفتتن‭ ‬بالموسيقى‭ ‬والغناء،‭ ‬فيهرب‭ ‬من‭ ‬بيته‭ ‬إلى‭ ‬مجالس‭ ‬الطرب‭ ‬والغناء،‭ ‬ويتحمل‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬المشاق،‭ ‬حتى‭ ‬التحق‭ ‬مطربًا‭ ‬بين‭ ‬الفصول‭ ‬المسرحية‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬فرقة‭ ‬تمثيلية،‭ ‬ولقي‭ ‬عنتًا‭ ‬شديدًا‭ ‬من‭ ‬والده‭ ‬وشقيقه‭ ‬الأكبر،‭ ‬اللذين‭ ‬كانا‭ ‬يرغبان‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬الفتى‭ ‬الموهوب‭ ‬شيخًا‭ ‬من‭ ‬حفظة‭ ‬الإنشاد‭ ‬الديني‭.‬

وقد‭ ‬كشف‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬قمة‭ ‬أمجاده‭ ‬الموسيقية‭ ‬والغنائية،‭ ‬أنه‭ ‬منذ‭ ‬طفولته،‭ ‬كانت‭ ‬أذناه‭ ‬مشدودتين‭ ‬نحو‭ ‬كبار‭ ‬المشايخ،‭ ‬لا‭ ‬كبار‭ ‬المطربين،‭ ‬وذلك‭ ‬رغم‭ ‬اعترافه‭ ‬بأنه‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬ملاصقي‭ ‬حفلات‭ ‬الطرب‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يحييها‭ ‬المطرب‭ ‬المخضرم‭ ‬صالح‭ ‬عبدالحي‭.‬

وبعد‭ ‬هذا‭ ‬التمرّس‭ ‬الطويل‭ ‬لأذني‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬بأصول‭ ‬المقامات‭ ‬العربية،‭ ‬وفنون‭ ‬الغناء‭ ‬والطرب‭ ‬وأساليبه‭ ‬المعقدة،‭ ‬بدأ‭ ‬اهتمامه‭ ‬يزداد‭ ‬بأعمال‭ ‬كبار‭ ‬عباقرة‭ ‬الموسيقى‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬الأوربية،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬أوساط‭ ‬العائلات‭ ‬الموسرة،‭ ‬التي‭ ‬دخل‭ ‬أجواءها‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تربّع‭ ‬على‭ ‬عرش‭ ‬الموسيقى‭ ‬والغناء،‭ ‬فور‭ ‬رحيل‭ ‬أستاذه‭ ‬سيد‭ ‬درويش،‭ ‬في‭ ‬العقد‭ ‬الثالث،‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬عشرينيات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭.‬

ومما‭ ‬يرويه‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬في‭ ‬مذكراته‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يمارس‭ ‬مع‭ ‬أستاذه‭ ‬في‭ ‬آلة‭ ‬العود،‭ ‬وزميله‭ ‬فيما‭ ‬بعد،‭ ‬العبقري‭ ‬محمد‭ ‬القصبجي،‭ ‬جلسات‭ ‬الاستماع‭ ‬المتواصل‭ ‬إلى‭ ‬أعمال‭ ‬عباقرة‭ ‬الموسيقى‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬الأوربية،‭ ‬وكل‭ ‬منهما‭ ‬يحتضن‭ ‬عوده،‭ ‬ويقوم‭ ‬عليه‭ ‬بملاحقة‭ ‬الجمل‭ ‬الموسيقية‭ ‬الأصلية‭ ‬والفرعية‭ ‬في‭ ‬سيمفونيات‭ ‬وأعمال‭ ‬هؤلاء‭ ‬العباقرة،‭ ‬وقد‭ ‬شكلت‭ ‬هذه‭ ‬الممارسة،‭ ‬التي‭ ‬يقول‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬إنها‭ ‬استمرت‭ ‬برفقة‭ ‬القصبجي‭ ‬سنوات‭ ‬عديدة،‭ ‬المدرسة‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬تطورت‭ ‬في‭ ‬إطارها‭ ‬مواهبه‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭ ‬الموسيقي‭.‬

 

ملحّن‭ ‬لا‭ ‬مطرب

متأثرًا‭ ‬بهذه‭ ‬المدرسة‭ ‬الكبيرة،‭ ‬لم‭ ‬يتوقف‭ ‬عبدالوهاب،‭ ‬كما‭ ‬يعتقد‭ ‬كثيرون،‭ ‬أمام‭ ‬اقتباس‭ ‬بعض‭ ‬الجمل‭ ‬اللحنية‭ ‬العبقرية‭ ‬من‭ ‬أعمال‭ ‬لبتهوفن‭ ‬وشوبرت‭ ‬وفيردي‭ ‬وتشايكوفسكي،‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أهم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬بكثير،‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬اكتشاف‭ ‬الأساليب‭ ‬العبقرية‭ ‬في‭ ‬التأليف‭ ‬الموسيقي‭ ‬لدى‭ ‬هؤلاء‭ ‬العباقرة،‭ ‬وقد‭ ‬ظل‭ ‬أثر‭ ‬هذه‭ ‬المدرسة‭ ‬يبدو‭ ‬جليًّا‭ ‬في‭ ‬ألحانه‭ ‬منذ‭ ‬بداياته‭ ‬الأولى‭ ‬العبقرية،‭ ‬وحتى‭ ‬نهايته‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭.‬

وفي‭ ‬إحدى‭ ‬الجلسات‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أستمتع‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬لقاءاتي‭ ‬المتكررة‭ ‬بعبدالوهاب،‭ ‬سألته‭: ‬هل‭ ‬يعتبر‭ ‬نفسه‭ ‬أولًا‭ ‬ملحنًا‭ ‬أم‭ ‬مطربًا؟‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬تردد‭ ‬أجابني‭ ‬بسرعة‭: ‬ملحن‭.‬

لكن‭ ‬هذا‭ ‬الاعتداد‭ ‬من‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬بصفته‭ ‬ملحنًا،‭ ‬لا‭ ‬يحجب‭ ‬أبدًا،‭ ‬أنه‭ - ‬كما‭ ‬قال‭ ‬شيخ‭ ‬النقاد‭ ‬العرب‭ ‬كمال‭ ‬النجمي‭ - ‬كان‭ ‬مطرب‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭. ‬ولعل‭ ‬اعتداده‭ ‬أولاً‭ ‬بصفته‭ ‬كملحن‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬صوته‭ ‬قد‭ ‬مرّ‭ ‬بتحولات‭ ‬كثيرة،‭ ‬كلما‭ ‬مر‭ ‬بمرحلة‭ ‬متقدمة‭ ‬من‭ ‬حياته‭ ‬المديدة،‭ ‬مما‭ ‬اضطره‭ ‬إلى‭ ‬التوقف‭ ‬عن‭ ‬الغناء‭ ‬رسميًّا‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬عقد‭ ‬الستينيات،‭ ‬وواصل‭ ‬الأعوام‭ ‬الثلاثين‭ ‬الباقية‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬يتربع‭ ‬على‭ ‬عرش‭ ‬الموسيقى‭ ‬العربية،‭ ‬مزودًا‭ ‬بألحانه‭ ‬العبقرية‭ ‬أجمل‭ ‬الأصوات‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬وعبدالحليم‭ ‬حافظ‭ ‬وفايزة‭ ‬أحمد‭ ‬ونجاة‭ ‬الصغيرة‭ ‬ووردة‭ ‬وفيروز‭ ‬وشادية‭ ‬وصباح،‭ ‬وغيرهم‭ ‬وغيرهن‭ ‬الكثير،‭ ‬حتى‭ ‬بعض‭ ‬نجوم‭ ‬الغناء‭ ‬الموهوبين‭ ‬من‭ ‬الجيل‭ ‬الجديد‭.‬

 

طبيعة‭ ‬مختلفة

مر‭ ‬أداء‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬الغنائي‭ ‬بمراحل‭ ‬متعددة،‭ ‬فكان‭ ‬لصوته‭ ‬طبيعة‭ ‬مختلفة‭ ‬كل‭ ‬عقد‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬المستمع‭ ‬إلى‭ ‬مجموع‭ ‬تراثه‭ ‬يعتقد‭ ‬أنه‭ ‬يستمع‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مطرب‭ ‬واحد،‭ ‬لكن‭ ‬الأداء‭ ‬الصوتي‭ ‬بقي‭ ‬يتصاعد‭ ‬معه‭ ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬الأعمال‭ ‬بصوته‭ ‬امن‭ ‬غير‭ ‬ليهب،‭ ‬التي‭ ‬ظهرت‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬الثمانينيات‭.‬

ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬صوت‭ ‬مطرب‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬هذا‭ ‬قد‭ ‬مرّ‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬مرحلة‭ ‬ذهبية‭ ‬من‭ ‬مراحل‭ ‬تطور‭ ‬أوتار‭ ‬حنجرته‭ ‬الذهبية،‭ ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬العهد‭ ‬الذهبي‭ ‬الأول‭ ‬لغناء‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬قد‭ ‬امتد‭ ‬لعشر‭ ‬سنوات‭ ‬بين‭ ‬أوائل‭ ‬العشرينيات‭ ‬وأوائل‭ ‬الثلاثينيات،‭ ‬عندما‭ ‬أسمعنا‭ ‬بصوته‭ ‬العبقري‭ ‬وأدائه‭ ‬المدهش‭ ‬أعمالًا،‭ ‬مثل‭ ‬قصائد‭: ‬يا‭ ‬جارة‭ ‬الوادي،‭ ‬وعلّموه‭ ‬كيف‭ ‬يجفو،‭ ‬وردّت‭ ‬الروح،‭ ‬ويا‭ ‬ناعمًا،‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬غصون‭ ‬البان‭.‬

بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بدأت‭ ‬المرحلة‭ ‬الصوتية‭ ‬الذهبية‭ ‬الثانية‭ ‬طوال‭ ‬عقد‭ ‬الثلاثينيات‭ ‬في‭ ‬سلسلة‭ ‬الأفلام‭ ‬السينمائية‭ ‬التي‭ ‬بدأ‭ ‬يمارس‭ ‬الظهور‭ ‬فيها‭ ‬مرة‭ ‬كل‭ ‬عامين،‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1933‭ (‬الوردة‭ ‬البيضاء‭) ‬حتى‭ ‬عام‭ ‬1946‭ (‬لست‭ ‬ملاكًا‭).‬

وحتى‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬السينمائية‭ ‬المهمة‭ ‬عرفت‭ ‬مرحلتين؛‭ ‬سواء‭ ‬لدى‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬الملحن،‭ ‬أو‭ ‬لدى‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬المغني‭: ‬المرحلة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬الثلاثينيات،‭ ‬والثانية‭ ‬في‭ ‬الأربعينيات،‭ ‬حيث‭ ‬بدأ‭ ‬المرحلة‭ ‬الأولى‭ ‬بأغنيات‭ ‬مثل‭ ‬اجفنه‭ ‬علّم‭ ‬الغزلب‭ ‬واسهرت‭ ‬منه‭ ‬اللياليب‭ ‬واالنيل‭ ‬نجاشيب،‭ ‬واختتمها‭ ‬بأغنياته‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬ايحيا‭ ‬الحبب‭ ‬مع‭ ‬المطربة‭ ‬الكبيرة‭ ‬ليلى‭ ‬مراد‭ (‬عندما‭ ‬يأتي‭ ‬المساء،‭ ‬والظلم‭ ‬دا‭ ‬كان‭ ‬ليه‭).‬

 

المرحلة‭ ‬الذهبية

أما‭ ‬مرحلة‭ ‬الأربعينيات‭ ‬فقد‭ ‬افتتحها‭ ‬بالاشتراك‭ ‬مع‭ ‬المطربة‭ ‬الكبيرة‭ ‬أسمهان،‭ ‬في‭ ‬اقيس‭ ‬وليلىب‭ ‬واختتمها‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬فيلم‭ ‬غزل‭ ‬البنات‭ ‬مع‭ ‬ليلى‭ ‬مراد‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬الأربعينيات،‭ ‬برائعته‭ ‬الخالدة‭ ‬اعاشق‭ ‬الروحب‭.‬

ولعل‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬المطرب‭ (‬والموسيقار‭) ‬قد‭ ‬بلغ‭ ‬ذروة‭ ‬مراحله‭ ‬الذهبية‭ ‬في‭ ‬عقد‭ ‬الأربعينيات،‭ ‬الذي‭ ‬قدّم‭ ‬فيه‭ ‬سلسلة‭ ‬روائعه‭ ‬التاريخية،‭ ‬مثل‭ ‬الجندول‭ ‬والكرنك‭ ‬وكليوباترا،‭ ‬وحياتي‭ ‬أنت،‭ ‬والحبيب‭ ‬المجهول،‭ ‬وقصيدة‭ ‬قالت،‭ ‬وقصيدة‭ ‬دمشق،‭ ‬وهمسة‭ ‬حائرة،‭ ‬واختتمها‭ ‬بعاشق‭ ‬الروح،‭ ‬وبنشيد‭ ‬االحريةب،‭ ‬حيث‭ ‬بلغ‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬ذروة‭ ‬الرفعة‭ ‬والمستوى‭ ‬المدهش‭ ‬في‭ ‬براعته‭ ‬الصوتية‭ ‬وفي‭ ‬أدائه‭ ‬الغنائي‭ ‬الساحر،‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬مؤســــس‭ ‬على‭ ‬أعلى‭ ‬درجة‭ ‬من‭ ‬التطور‭ ‬في‭ ‬التأليف‭ ‬الموسيقي‭.‬

ومع‭ ‬أن‭ ‬موسيقار‭ ‬ومطرب‭ ‬الأجيال‭ ‬مر‭ ‬في‭ ‬عقد‭ ‬الخمسينيات‭ ‬بمرحلة‭ ‬فتور‭ ‬نسبي‭ ‬في‭ ‬التلحين‭ ‬والغناء،‭ ‬بسبب‭ ‬اضطراب‭ ‬ظروف‭ ‬حياته‭ ‬الزوجية‭ ‬ربما،‭ ‬فقد‭ ‬عرفنا‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬روائع‭ ‬كثيرة،‭ ‬مثل‭ ‬امن‭ ‬قد‭ ‬إيه‭ ‬كنا‭ ‬هناب‭ ‬واالصبر‭ ‬والإيمانب‭ ‬وقصائد‭ ‬مثل‭ ‬ادعاء‭ ‬الشرقب‭ ‬واالروابي‭ ‬الخضرب‭ ‬واالنهر‭ ‬الخالدب،‭ ‬وأغنيات‭ ‬مثل‭ ‬ابفكر‭ ‬في‭ ‬اللي‭ ‬ناسينيب،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬إبداعه‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬الألحان‭ ‬الوطنية‭ ‬الكبيرة؛‭ ‬مثل‭ ‬االوطن‭ ‬الأكبرب‭ ‬والجيل‭ ‬الصاعد‭ ‬وصوت‭ ‬الجماهير‭ ‬والأغنية‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬قدّمها‭ ‬مع‭ ‬قيام‭ ‬الوحدة‭ ‬بين‭ ‬مصر‭ ‬وسورية‭.‬

 

طرابيش‭ ‬المسرح

ومع‭ ‬أنه‭ ‬بكّر‭ ‬في‭ ‬اعتزال‭ ‬الغناء‭ ‬الارتجالي‭ ‬على‭ ‬المسرح‭ (‬1939‭)‬،‭ ‬فإن‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬كان،‭ ‬في‭ ‬عشرينيات‭ ‬وثلاثينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬المنافس‭ ‬الأكبر‭ ‬لحفلات‭ ‬الغناء‭ ‬الارتجالي‭ ‬لأم‭ ‬كلثوم،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬الملحن‭ ‬اللبناني‭ ‬خالد‭ ‬أبوالنصر‭ ‬قد‭ ‬روى‭ ‬لشقيقي‭ ‬المايسترو‭ ‬سليم‭ ‬سحّاب،‭ ‬أنه‭ ‬حضر‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1929‭ ‬حفلة‭ ‬لعبدالوهاب‭ ‬في‭ ‬حلب،‭ ‬قدّم‭ ‬خلالها‭ ‬أغنيته‭ ‬الشهيرة‭ ‬اكتير‭ ‬يا‭ ‬قلبي‭ ‬الذل‭ ‬عليكب،‭ ‬التي‭ ‬تستغرق‭ ‬على‭ ‬الأسطوانة‭ ‬6‭ ‬دقائق،‭ ‬أما‭ ‬على‭ ‬المسرح‭ ‬فقد‭ ‬غناها‭ ‬طوال‭ ‬ساعتين،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬انتهى‭ ‬من‭ ‬الغناء،‭ ‬حتى‭ ‬كان‭ ‬المسرح‭ ‬مكتسيًا‭ ‬باللون‭ ‬الأحمر‭ ‬من‭ ‬الطرابيش‭ ‬التي‭ ‬ألقيت‭.‬

لكن‭ ‬الطلاق‭ ‬بين‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬وعهد‭ ‬الغناء‭ ‬الارتجالي‭ ‬على‭ ‬المسرح،‭ ‬تم‭ ‬عند‭ ‬ظهور‭ ‬رائعته‭ ‬التاريخية‭ ‬االجندولب،‭ ‬فقد‭ ‬فاجأه‭ ‬الجمهور‭ ‬وهو‭ ‬يهمّ‭ ‬بتقديم‭ ‬رائعته‭ ‬الجديدة‭ ‬هذه،‭ ‬بأنه‭ ‬يريد‭ ‬الاستماع‭ ‬إلى‭ ‬أغنياته‭ ‬القديمة،‭ ‬مثل‭ ‬امين‭ ‬عذبكب‭ ‬والما‭ ‬أنت‭ ‬ناويب،‭ ‬عندها‭ ‬قرر‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬حصر‭ ‬إبداعاته‭ ‬داخل‭ ‬الاستديو،‭ ‬حيث‭ ‬يتمتع‭ ‬بالتجديد‭ ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬مدى‭.‬

وما‭ ‬إن‭ ‬انتصف‭ ‬القرن‭ ‬العشرون‭ ‬حتى‭ ‬دخلت‭ ‬كل‭ ‬الأجيال‭ ‬الجديدة‭ ‬من‭ ‬الموسيقيين‭ ‬والمطربين‭ ‬تحت‭ ‬التأثير‭ ‬والتأثر‭ ‬المباشر‭ ‬بموسيقى‭ ‬وغناء‭ ‬عبدالوهاب،‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬ولبنان‭ ‬وسائر‭ ‬أرجاء‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬مشرقه‭ ‬إلى‭ ‬مغربه‭.‬

هذه‭ ‬ملامح‭ ‬عابرة‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬البالغة‭ ‬الثراء‭ ‬لموسيقار‭ ‬ومطرب‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬الذي‭ ‬أجمع‭ ‬المعجبون‭ ‬به‭ ‬على‭ ‬مواقع‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ ‬بالذات‭ ‬على‭ ‬إحياء‭ ‬ذكراه،‭ ‬ملقين‭ ‬عليه‭ ‬هذين‭ ‬اللقبين‭ ‬في‭ ‬إجماع‭ ‬يلفت‭ ‬النظر،‭ ‬ويؤكد‭ ‬قصور‭ ‬أجهزة‭ ‬الإعلام‭ ‬العربية‭ ‬عن‭ ‬الإكثار‭ ‬في‭ ‬إسماعنا‭ ‬لأعمال‭ ‬كل‭ ‬هؤلاء‭ ‬الكبار‭ ‬من‭ ‬زملاء‭ ‬عبدالوهاب،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الإبداع‭ ‬الموسيقي،‭ ‬أو‭ ‬الغنائي‭ .