باسمة بطولي بين الشِّعر والرّسم

العلاقة بين الشعر والرسم متنوّعةٌ وموغلةٌ في القدم؛ ومن تمظهراتها أنّهما يتّفقان في المنبع والمصب، ويختلفان في المجرى. كلاهما يتحدّر من الأرومة نفسها، يُعنى بالحقل المعرفي نفسه، ويُحدِث الأثر النفسيَّ نفسه. غير أنّهما يختلفان في أداة التعبير، ففي حين يستخدم الأول الكلمة، يستخدم الثاني اللون، وقد شغلت هذه العلاقة الدرس النقدي عبر العصور.
في القرن الخامس قبل الميلاد، نُسِبَ إلى الشاعر اليوناني سيمونيدس (ت 465 ق.م) قوله: االشعر رسم ناطق، والرسم شعرٌ صامتب، وفي القرن الأوّل قبل الميلاد شبّه الشاعر اللاتيني هوراس (ت 8 ق.م) القصيدة باللوحة، وفي القرن التاسع الميلادي عرّف الجاحظ (ت 868م) الشعر بأنّه اصياغةٌ وجنسٌ من التصويرب، وفي القرن العشرين الميلادي رأى الفنّان التشكيلي الإسباني بابلو بيكاسو (ت 1973م) أنّه ايمكن أن نكتب لوحة بالكلمات، كما يمكن أن نرسم المشاعر في قصيدةب، وعنون الشاعر السوري نزار قبّاني (ت 1989م) إحدى مجموعاته الشعرية بـ االرسم بالكلماتب، مما يشير إلى قِدَمِ العلاقة بين الفنّين وطبيعتها.
من هذه الشرفة، نُطلّ على الشاعرة والفنانة التشكيلية اللبنانية باسمة بطولي التي تمارس الفنّين كليهما، وتتقنهما على حدٍّ سواء.
غير أنّه، قبل الإطلالة، نشير إلى أن كثيرين من المبدعين، حول العالم وعبر العصور، عرفوا الازدواجية الفنّية أو التعدّد الفني، وطغى أحد الفنون فيهم على ما عداه، فالشاعر الياباني ماتسو باشو (ت 1694م)، والشاعر الألماني جوته (ت 1832م)، والشاعر الفرنسي بودلير (ت 1867م)، والشاعر اللبناني جبران خليل جبران (ت 1931م)، والشاعر الهندي طاغور (ت 1941م)، والشاعر السوري أدونيس، على سبيل المثال لا الحصر، مارسوا الرسم في مراحل عمرية مختلفة، غير أن الشاعر فيهم طغى على الرسّام.
أمّا باسمة بطولي، وبمعزل عن المقارنة، فقد عرفت كيف تُوازن بين الفنّين، وتُعطي كلاًّ منهما حقّه، وإذ قصائدها ولوحاتها يضارع بعضها بعضًا في الفنّ والجمال، حتى قال فيها الشاعر اللبناني الراحل سعيد عقل (ت 2014م): اليس أجمل من شعرها إلّا رسومها، وليس أجمل من رسومها إلّا شعرهاب.
باسمة الشاعرة
في الشعر، أصدرَتْ الشاعرة 6 مجموعات شعرية، بدءًا من امع الحبّ حتى الموتب، مرورًا بـ امكلّلة بالشوقب، واعربات الصدىب، واحين ترتدي النار عريهاب، واسلالي ومياه الوقتب، وصولاً إلى اعلى مقام الصِّبا والصَّباب. وتشتمل على مئتين وثلاثٍ وسبعين قصيدة. وثمّة ثلاث مجموعات أخرى، إحداها بالمحكية اللبنانية، يُنتَظر أن تُبصِرَ النور قريبًا.
ولعلّ ما يجمع بين هذه المجموعات، في المضمون، أنّ ثيمة الحب هي المحورية فيها، حيث الحبيبة واحدة هي الأنا الشاعرة، والأحبّة كثر؛ بعضهم الحبيب والأم والوطن والأرض... وغيرهم.
ولعلّ ما يجمع بينها، في الشكل، أنّ القصائد قصيرة أو متوسّطة، مما يجعلها تحافظ على شعرية عالية، وتتجنّب الإطالة التي تنزلق بالقصيدة إلى النظم. وإذا كان المقام لا يتّسع لمقالٍ يغطّي المجموعات الستّ المنشورة، فحسبنا أن نضيء المجموعة السادسة والأخيرة منها اعلى مقام الصِّبا والصَّباب، لعلّ الجزء يُومئ إلى الكلّ، والباقة ترمز إلى الحديقة.
في عام 2017، صدرَتْ اعلى مقام الصِّبا والصَّباب في سبعٍ وأربعين قصيدة، يتراوح طول الواحدة منها بين أربعة أبيات، في الحدِّ الأدنى، واثني عشر بيتًا، في الحدِّ الأقصى.
وبذلك، تعزف الشاعرة عن المطوّلات كرمى لعين الشعر، وتراعي الإيقاع السريع كرمى لعين العصر، وهي قصائد تتمحور حول الحبّ، في لحظة تاريخية حرجة، يستشري فيها الكره، ويزدهر الحقد، مما يشكّل خطوة جميلة، وجريئة، وسباحة عكس التيّار. ولعلّ ما يجعل هذه الخطوة كذلك هو ندرة الحب في الحياة المعاصرة وتسليعه ومادّيّته. على أن الحبّ في المجموعة يعكس العلاقة الراقية التي تلامس العبادة، في بعض تجلّياتها، بين الأنا الشاعرة والآخر الحبيب، ما لا نقع عليه في حياتنا اليومية.
نظرة متفائلة
وهكذا، ترتقي بنا الشاعرة، بالكلمة والصورة والإيقاع والتركيب، من عالم مادّي، آلي، استهلاكي، إلى عالمٍ مُفارقٍ يُفرد للمشاعر والأحاسيس مكانها ومكانتها. وترفع الأرضي إلى السماوي. أليست هذه هي وظيفة الفن، بتعبيراته المختلفة، عبر العصور؟
انطلاقًا من هذه الوظيفة، تَشهر الشاعرة ريشتها بوجه السأم والظلمة والزمن، وتُصدّر عن نظرة متفائلة للحياة، وترفض العدم. هي عاشقة الجمال، على أنواعه، لا ترى حولها إلّا كلّ جميل، تؤمن بالصيرورة التي تجعل النقص اكتمالاً:
كلُّ شمسٍ إن تَبْدُ في الليلٍ نقصًا
رجعَتْ في وجهِ الصباحِ اكتمالا
وتؤمن بالتجدّد الدائم، فيغدو الفناء في المحبوب، الإلهي أو الإنساني، شرطًا لولادة جديدة، ويغدو الحب علاقة خلق متبادل بين طرفيه.
العلاقة بين الأنا الشاعرة والآخر الحبيب في المجموعة هي علاقة جدلية تقوم على تبادل الأدوار والخلق المتبادل. هو يخلقها بالحب وبحضوره في عالمها، وهي تخلقه بالشعر، وتقوم على التكامل حتى التوحّد والاكتمال:
أنا البعض الذي بك صار كلاّ
التفاتة جميلة
وإذا كانت الأنا الشاعرة واحدة، في معظم الحالات، فإنّ الحبيب متعدّد، وهو يتراوح بين حدّي البشرية والألوهية، والشاعرة؛ إذ ترفعه إلى هذا المستوى، لا تعتورها أيّ عقدة نقص إزاءه؛ بل هي تحبّ نفسها، وتعرف قدرها، وتتدلّل، ويحقّ لها ذلك. وقد ترفع نفسها فوقه فتجعل نفسها شمسًا، غير أنّ إشراقها مرهونٌ بنظرة منه، كما في هذه الالتفاتة الجميلة التي تربط بين بيتيها علاقة التعليل، في الشكل، وتبادل الأدوار بين الحبيبين، في المضمون. هو يضيء الصباح بحبّه، وهي تُشرق بنظرته:
وإذا ما استعطيتك الحبّ يومًا
ليُضاء الصباح في عينيّا
فلأني شمسٌ ولا أحسنُ الإشـراق
إن أنت ما رنـــوتَ إليّــــــــا
الحبيب في امقام الصِّبا والصَّباب هو أقرب إلى المتخيّل منه إلى الواقع، وأدنى إلى الحلم منه إلى الحقيقة.
هو شيء غير متحقّق، بعيد، إلهي، غامض، يتعذّر الوصول إليه. هو فكرة في البال وخاطر في الظن. وهو في الماضي أو المستقبل أكثر منه في الحاضر.
ولعلّ بُعدَه، على المستويين المكاني والزماني، هو ما يمنحه غوايته، ويجعلها تتعلّق به. هي تريده أن يبقى بعيدًا لتحبّه، لكنّها في الوقت نفسه لا تريد للبعد أن يصبح حجابًا بينهما، فالقرب حجاب والبُعد حجاب، وهي تتأرجّح بين الحجابين. هي تفضّل الشوق على اللقاء، والدرب على الوصول:
فأحلى من اللانهايات شوقٌ
إليها... بها مستمرُّ التحلّي
ولعلّها تخشى أن تتحقّق فيها التفاتة ابن عربي الجميلة: اكلُّ شوق يموت باللقاء لا يُعوّل عليهب، فتريده أن يبقى بعيدًا لتحتفظ بحبّه، ولا تريد للقاء أن يتحقّق خشية أن يموت الشوق.
في اعلى مقام الصِّبا والصَّباب، نحن إزاء رؤى حديثة، جميلة، عميقة، تصبّها الشاعرة في البحور الخليلية المعروفة، وتثبت قدرة هذه البحور على استيعاب الحداثة ورؤاها، وتُسقط ذريعة القائلين بعجـز البحور وانتهاء صلاحيتها.
باسمة الرسّامة
في الرسم، رسمت باسمة بطولي ثلاثة آلاف ومئتي لوحة، زيتية ومائية، جمعت مئة وخمس عشرة لوحة منها في كتابها اأصداء بصريةب، وأقامت عددًا من المعارض الفردية، وشاركت في أخرى جماعية، في لبنان والبلاد العربية والعالم. وبذلك، ترجح كفّة الرسم على الشعر من حيث الكم، بينما تستوي الكفّتان من حيث النوع.
والفن، في نهاية المطاف، مسألة نوعية وليس مسألة كمية، قليله يغني عن الكثير، ونوعه يختزل الكم. وهي، في رسمها كما في الشعر، تمتح من الواقع، البشري والطبيعي، وتعيد تشكيل الوقائع وفق مقتضيات الفن والجمال.
هي تنطلق من الواقع إلى ما فوقه دون أن تقطع معه. ترفع المتلقّي معها دون أن يفقد موطئ قدميه. تجمع بين التشكيل والتجريد. وتقيم توازنًا دقيقًا بينهما في اللوحة، فتنتج لوحة ممانعة، مراوغة، لا تسلّم نفسها بسهولة، ولا تعصى على التسليم في الآن نفسه.
تتّخذ بطولي من مواد الأرض ما تتطلّع به إلى السماء، وتتّخذ من لوازم الجسد ما ترقى به إلى عالم الروح. وهي في صنيعها الفني لا تصدر عن مدرسة معيّنة ولا تنتمي إلى تيار فني محدد، حسبها أن تمارس حريّتها كما تشتهي، وتعيش حضورها كما تريد.
والمفارقة أنها لم تدرس الرسم يومًا في معهد أو جامعة، بل درسته على نفسها، واحتكمت إلى حسّها الفني المرهف وذائقتها المثقفة ونعمة الموهبة التي حباها بها الخالق جل وعلا. والناظر في لوحاتها كالمصغي إلى قصائدها يحلّق في فضاءات مختلفة، فكأن اللوحة أو القصيدة تمنحه أجنحة لروحه وتعلّمه ارتياد الأعالي.
فكرة مبتكرة وإخراج متقن
تعرف باسمة كيف تختار الفكرة وتخرجها كي تتحوّل إلى لوحة، وتعرف كيف تبتكر الفكرة، فتأتي بما لا يخطر على بال، وتخرجها بعناية، فتجمع اللوحة بين الفكرة المبتكرة والإخراج المتقن؛ ففي اقبعة أمّيب يحوّل الطفل قبّعة أمّه إلى طائرة ورقيّة، وفي اكرسي أبيب ترسم باقة زهرٍ على كرسيٍّ قديم، وفي االمرأة المصلوبةب تقدّم المرأة مصلوبة في تمايز عن المأثور الديني الذي يجعل الصلب من نصيب الرجل، وفي المرّة على الأقلب يبلغ الابتكار حدّ الغرابة حين ترسم باقة زهرٍ طالعةً من كرسيّ حمّام.
وعلى الرغم من أن الرسامة تلتقط بعض أفكارها من الطريق التي تحدّث عنها الجاحظ ذات يوم، فإنها لا تلتقط سوى الجميل، وتضرب صفحًا عن البشاعات الكثيرة التي يزخر بها الواقع. ولذلك، حين سألها بعضهم، ذات معرض فني، في اغاليري العاليةب، بمدينة عمان الأردنية، عام 1989، عن الحرب في لوحاتها، وهي الآتية من بلدٍ طالعٍ للتوّ من حرب أهلية طاحنة، أجابت بأن الفنان ليس كاتب عدل يوثّق الأحداث، وأنها لا تريد أن تعيش الحرب مرّتين، في الواقع، وعلى القماشة.
اللوحة، عندها، دعوة مفتوحة إلى السفر، في تواطؤ غير معلن بينها وبين المتلقّي، ولكلِّ متلقٍّ من هذه الدعوة نصيب تبعًا لقدرته على السير والغوص والتحليق.
من الناحية التقنية، تُبدي بطولي اهتمامًا كبيرًا بتأليف اللوحة، وتُعنى بالتدرّج الضوئي في ألوانها، وتتصرّف به وفق مقتضيات الموضوع وزاوية الرؤية، من جهة، ووفق متطلّبات التوازن، بحيث لا تبدو اللوحة عرجاء، من جهة أخرى، فتتحوّل إلى سيمفونيّة لونية، تُطرب العين والأذن والقلب. وهي، إلى ذلك، تهتمّ بنظافة اللون والريشة، مما يجعل التدرّج الضوئي في غاية الوضوح.
لعلّ خير مسك لختام هذه المقاربة القول إنّ باسمة بطولي مبدعة مزدوجة، رسّامة في شعرها وشاعرة في رسمها، وفي الحالتين هي عاشقة جمال ومبدعة فن >
ربيع أيلول
حدود الحرية