باسمة بطولي بين الشِّعر والرّسم

باسمة بطولي  بين الشِّعر والرّسم

العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الشعر‭ ‬والرسم‭ ‬متنوّعةٌ‭ ‬وموغلةٌ‭ ‬في‭ ‬القدم؛‭ ‬ومن‭ ‬تمظهراتها‭ ‬أنّهما‭ ‬يتّفقان‭ ‬في‭ ‬المنبع‭ ‬والمصب،‭ ‬ويختلفان‭ ‬في‭ ‬المجرى‭. ‬كلاهما‭ ‬يتحدّر‭ ‬من‭ ‬الأرومة‭ ‬نفسها،‭ ‬يُعنى‭ ‬بالحقل‭ ‬المعرفي‭ ‬نفسه،‭ ‬ويُحدِث‭ ‬الأثر‭ ‬النفسيَّ‭ ‬نفسه‭. ‬غير‭ ‬أنّهما‭ ‬يختلفان‭ ‬في‭ ‬أداة‭ ‬التعبير،‭ ‬ففي‭ ‬حين‭ ‬يستخدم‭ ‬الأول‭ ‬الكلمة،‭ ‬يستخدم‭ ‬الثاني‭ ‬اللون،‭ ‬وقد‭ ‬شغلت‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬الدرس‭ ‬النقدي‭ ‬عبر‭ ‬العصور‭.‬

في‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد،‭ ‬نُسِبَ‭ ‬إلى‭ ‬الشاعر‭ ‬اليوناني‭ ‬سيمونيدس‭ (‬ت‭ ‬465‭ ‬ق‭.‬م‭) ‬قوله‭: ‬االشعر‭ ‬رسم‭ ‬ناطق،‭ ‬والرسم‭ ‬شعرٌ‭ ‬صامتب،‭ ‬وفي‭ ‬القرن‭ ‬الأوّل‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭ ‬شبّه‭ ‬الشاعر‭ ‬اللاتيني‭ ‬هوراس‭ (‬ت‭ ‬8‭ ‬ق‭.‬م‭) ‬القصيدة‭ ‬باللوحة،‭ ‬وفي‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬الميلادي‭ ‬عرّف‭ ‬الجاحظ‭ (‬ت‭ ‬868م‭) ‬الشعر‭ ‬بأنّه‭ ‬اصياغةٌ‭ ‬وجنسٌ‭ ‬من‭ ‬التصويرب،‭ ‬وفي‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬الميلادي‭ ‬رأى‭ ‬الفنّان‭ ‬التشكيلي‭ ‬الإسباني‭ ‬بابلو‭ ‬بيكاسو‭ (‬ت‭ ‬1973م‭) ‬أنّه‭ ‬ايمكن‭ ‬أن‭ ‬نكتب‭ ‬لوحة‭ ‬بالكلمات،‭ ‬كما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نرسم‭ ‬المشاعر‭ ‬في‭ ‬قصيدةب،‭ ‬وعنون‭ ‬الشاعر‭ ‬السوري‭ ‬نزار‭ ‬قبّاني‭ (‬ت‭ ‬1989م‭) ‬إحدى‭ ‬مجموعاته‭ ‬الشعرية‭ ‬بـ‭ ‬االرسم‭ ‬بالكلماتب،‭ ‬مما‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬قِدَمِ‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الفنّين‭ ‬وطبيعتها‭.‬

‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الشرفة،‭ ‬نُطلّ‭ ‬على‭ ‬الشاعرة‭ ‬والفنانة‭ ‬التشكيلية‭ ‬اللبنانية‭ ‬باسمة‭ ‬بطولي‭ ‬التي‭ ‬تمارس‭ ‬الفنّين‭ ‬كليهما،‭ ‬وتتقنهما‭ ‬على‭ ‬حدٍّ‭ ‬سواء‭.‬

غير‭ ‬أنّه،‭ ‬قبل‭ ‬الإطلالة،‭ ‬نشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬كثيرين‭ ‬من‭ ‬المبدعين،‭ ‬حول‭ ‬العالم‭ ‬وعبر‭ ‬العصور،‭ ‬عرفوا‭ ‬الازدواجية‭ ‬الفنّية‭ ‬أو‭ ‬التعدّد‭ ‬الفني،‭ ‬وطغى‭ ‬أحد‭ ‬الفنون‭ ‬فيهم‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬عداه،‭ ‬فالشاعر‭ ‬الياباني‭ ‬ماتسو‭ ‬باشو‭ (‬ت‭ ‬1694م‭)‬،‭ ‬والشاعر‭ ‬الألماني‭ ‬جوته‭ (‬ت‭ ‬1832م‭)‬،‭ ‬والشاعر‭ ‬الفرنسي‭ ‬بودلير‭ (‬ت‭ ‬1867م‭)‬،‭ ‬والشاعر‭ ‬اللبناني‭ ‬جبران‭ ‬خليل‭ ‬جبران‭ (‬ت‭ ‬1931م‭)‬،‭ ‬والشاعر‭ ‬الهندي‭ ‬طاغور‭ (‬ت‭ ‬1941م‭)‬،‭ ‬والشاعر‭ ‬السوري‭ ‬أدونيس،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬لا‭ ‬الحصر،‭ ‬مارسوا‭ ‬الرسم‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬عمرية‭ ‬مختلفة،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬فيهم‭ ‬طغى‭ ‬على‭ ‬الرسّام‭.‬

أمّا‭ ‬باسمة‭ ‬بطولي،‭ ‬وبمعزل‭ ‬عن‭ ‬المقارنة،‭ ‬فقد‭ ‬عرفت‭ ‬كيف‭ ‬تُوازن‭ ‬بين‭ ‬الفنّين،‭ ‬وتُعطي‭ ‬كلاًّ‭ ‬منهما‭ ‬حقّه،‭ ‬وإذ‭ ‬قصائدها‭ ‬ولوحاتها‭ ‬يضارع‭ ‬بعضها‭ ‬بعضًا‭ ‬في‭ ‬الفنّ‭ ‬والجمال،‭ ‬حتى‭ ‬قال‭ ‬فيها‭ ‬الشاعر‭ ‬اللبناني‭ ‬الراحل‭ ‬سعيد‭ ‬عقل‭ (‬ت‭ ‬2014م‭): ‬اليس‭ ‬أجمل‭ ‬من‭ ‬شعرها‭ ‬إلّا‭ ‬رسومها،‭ ‬وليس‭ ‬أجمل‭ ‬من‭ ‬رسومها‭ ‬إلّا‭ ‬شعرهاب‭. ‬

 

باسمة‭ ‬الشاعرة

في‭ ‬الشعر،‭ ‬أصدرَتْ‭ ‬الشاعرة‭ ‬6‭ ‬مجموعات‭ ‬شعرية،‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬امع‭ ‬الحبّ‭ ‬حتى‭ ‬الموتب،‭ ‬مرورًا‭ ‬بـ‭ ‬امكلّلة‭ ‬بالشوقب،‭ ‬واعربات‭ ‬الصدىب،‭ ‬واحين‭ ‬ترتدي‭ ‬النار‭ ‬عريهاب،‭ ‬واسلالي‭ ‬ومياه‭ ‬الوقتب،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬اعلى‭ ‬مقام‭ ‬الصِّبا‭ ‬والصَّباب‭. ‬وتشتمل‭ ‬على‭ ‬مئتين‭ ‬وثلاثٍ‭ ‬وسبعين‭ ‬قصيدة‭. ‬وثمّة‭ ‬ثلاث‭ ‬مجموعات‭ ‬أخرى،‭ ‬إحداها‭ ‬بالمحكية‭ ‬اللبنانية،‭ ‬يُنتَظر‭ ‬أن‭ ‬تُبصِرَ‭ ‬النور‭ ‬قريبًا‭. ‬

‭ ‬ولعلّ‭ ‬ما‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬المجموعات،‭ ‬في‭ ‬المضمون،‭ ‬أنّ‭ ‬ثيمة‭ ‬الحب‭ ‬هي‭ ‬المحورية‭ ‬فيها،‭ ‬حيث‭ ‬الحبيبة‭ ‬واحدة‭ ‬هي‭ ‬الأنا‭ ‬الشاعرة،‭ ‬والأحبّة‭ ‬كثر؛‭ ‬بعضهم‭ ‬الحبيب‭ ‬والأم‭ ‬والوطن‭ ‬والأرض‭... ‬وغيرهم‭.‬

ولعلّ‭ ‬ما‭ ‬يجمع‭ ‬بينها،‭ ‬في‭ ‬الشكل،‭ ‬أنّ‭ ‬القصائد‭ ‬قصيرة‭ ‬أو‭ ‬متوسّطة،‭ ‬مما‭ ‬يجعلها‭ ‬تحافظ‭ ‬على‭ ‬شعرية‭ ‬عالية،‭ ‬وتتجنّب‭ ‬الإطالة‭ ‬التي‭ ‬تنزلق‭ ‬بالقصيدة‭ ‬إلى‭ ‬النظم‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬المقام‭ ‬لا‭ ‬يتّسع‭ ‬لمقالٍ‭ ‬يغطّي‭ ‬المجموعات‭ ‬الستّ‭ ‬المنشورة،‭ ‬فحسبنا‭ ‬أن‭ ‬نضيء‭ ‬المجموعة‭ ‬السادسة‭ ‬والأخيرة‭ ‬منها‭ ‬اعلى‭ ‬مقام‭ ‬الصِّبا‭ ‬والصَّباب،‭ ‬لعلّ‭ ‬الجزء‭ ‬يُومئ‭ ‬إلى‭ ‬الكلّ،‭ ‬والباقة‭ ‬ترمز‭ ‬إلى‭ ‬الحديقة‭.‬

‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2017،‭ ‬صدرَتْ‭ ‬اعلى‭ ‬مقام‭ ‬الصِّبا‭ ‬والصَّباب‭ ‬في‭ ‬سبعٍ‭ ‬وأربعين‭ ‬قصيدة،‭ ‬يتراوح‭ ‬طول‭ ‬الواحدة‭ ‬منها‭ ‬بين‭ ‬أربعة‭ ‬أبيات،‭ ‬في‭ ‬الحدِّ‭ ‬الأدنى،‭ ‬واثني‭ ‬عشر‭ ‬بيتًا،‭ ‬في‭ ‬الحدِّ‭ ‬الأقصى‭. ‬

وبذلك،‭ ‬تعزف‭ ‬الشاعرة‭ ‬عن‭ ‬المطوّلات‭ ‬كرمى‭ ‬لعين‭ ‬الشعر،‭ ‬وتراعي‭ ‬الإيقاع‭ ‬السريع‭ ‬كرمى‭ ‬لعين‭ ‬العصر،‭ ‬وهي‭ ‬قصائد‭ ‬تتمحور‭ ‬حول‭ ‬الحبّ،‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬تاريخية‭ ‬حرجة،‭ ‬يستشري‭ ‬فيها‭ ‬الكره،‭ ‬ويزدهر‭ ‬الحقد،‭ ‬مما‭ ‬يشكّل‭ ‬خطوة‭ ‬جميلة،‭ ‬وجريئة،‭ ‬وسباحة‭ ‬عكس‭ ‬التيّار‭. ‬ولعلّ‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬هذه‭ ‬الخطوة‭ ‬كذلك‭ ‬هو‭ ‬ندرة‭ ‬الحب‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬المعاصرة‭ ‬وتسليعه‭ ‬ومادّيّته‭. ‬على‭ ‬أن‭ ‬الحبّ‭ ‬في‭ ‬المجموعة‭ ‬يعكس‭ ‬العلاقة‭ ‬الراقية‭ ‬التي‭ ‬تلامس‭ ‬العبادة،‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬تجلّياتها،‭ ‬بين‭ ‬الأنا‭ ‬الشاعرة‭ ‬والآخر‭ ‬الحبيب،‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬نقع‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬حياتنا‭ ‬اليومية‭.‬

 

نظرة‭ ‬متفائلة

‭ ‬وهكذا،‭ ‬ترتقي‭ ‬بنا‭ ‬الشاعرة،‭ ‬بالكلمة‭ ‬والصورة‭ ‬والإيقاع‭ ‬والتركيب،‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬مادّي،‭ ‬آلي،‭ ‬استهلاكي،‭ ‬إلى‭ ‬عالمٍ‭ ‬مُفارقٍ‭ ‬يُفرد‭ ‬للمشاعر‭ ‬والأحاسيس‭ ‬مكانها‭ ‬ومكانتها‭. ‬وترفع‭ ‬الأرضي‭ ‬إلى‭ ‬السماوي‭. ‬أليست‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬وظيفة‭ ‬الفن،‭ ‬بتعبيراته‭ ‬المختلفة،‭ ‬عبر‭ ‬العصور؟

انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الوظيفة،‭ ‬تَشهر‭ ‬الشاعرة‭ ‬ريشتها‭ ‬بوجه‭ ‬السأم‭ ‬والظلمة‭ ‬والزمن،‭ ‬وتُصدّر‭ ‬عن‭ ‬نظرة‭ ‬متفائلة‭ ‬للحياة،‭ ‬وترفض‭ ‬العدم‭. ‬هي‭ ‬عاشقة‭ ‬الجمال،‭ ‬على‭ ‬أنواعه،‭ ‬لا‭ ‬ترى‭ ‬حولها‭ ‬إلّا‭ ‬كلّ‭ ‬جميل،‭ ‬تؤمن‭ ‬بالصيرورة‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬النقص‭ ‬اكتمالاً‭:‬

كلُّ‭ ‬شمسٍ‭ ‬إن‭ ‬تَبْدُ‭ ‬في‭ ‬الليلٍ‭ ‬نقصًا‭      

رجعَتْ‭ ‬في‭ ‬وجهِ‭ ‬الصباحِ‭ ‬اكتمالا‭ ‬

                   

وتؤمن‭ ‬بالتجدّد‭ ‬الدائم،‭ ‬فيغدو‭ ‬الفناء‭ ‬في‭ ‬المحبوب،‭ ‬الإلهي‭ ‬أو‭ ‬الإنساني،‭ ‬شرطًا‭ ‬لولادة‭ ‬جديدة،‭ ‬ويغدو‭ ‬الحب‭ ‬علاقة‭ ‬خلق‭ ‬متبادل‭ ‬بين‭ ‬طرفيه‭. ‬

العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الأنا‭ ‬الشاعرة‭ ‬والآخر‭ ‬الحبيب‭ ‬في‭ ‬المجموعة‭ ‬هي‭ ‬علاقة‭ ‬جدلية‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬تبادل‭ ‬الأدوار‭ ‬والخلق‭ ‬المتبادل‭. ‬هو‭ ‬يخلقها‭ ‬بالحب‭ ‬وبحضوره‭ ‬في‭ ‬عالمها،‭ ‬وهي‭ ‬تخلقه‭ ‬بالشعر،‭ ‬وتقوم‭ ‬على‭ ‬التكامل‭ ‬حتى‭ ‬التوحّد‭ ‬والاكتمال‭:‬

أنا‭ ‬البعض‭ ‬الذي‭ ‬بك‭ ‬صار‭ ‬كلاّ

 

التفاتة‭ ‬جميلة

وإذا‭ ‬كانت‭ ‬الأنا‭ ‬الشاعرة‭ ‬واحدة،‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الحالات،‭ ‬فإنّ‭ ‬الحبيب‭ ‬متعدّد،‭ ‬وهو‭ ‬يتراوح‭ ‬بين‭ ‬حدّي‭ ‬البشرية‭ ‬والألوهية،‭ ‬والشاعرة؛‭ ‬إذ‭ ‬ترفعه‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬المستوى،‭ ‬لا‭ ‬تعتورها‭ ‬أيّ‭ ‬عقدة‭ ‬نقص‭ ‬إزاءه؛‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬تحبّ‭ ‬نفسها،‭ ‬وتعرف‭ ‬قدرها،‭ ‬وتتدلّل،‭ ‬ويحقّ‭ ‬لها‭ ‬ذلك‭. ‬وقد‭ ‬ترفع‭ ‬نفسها‭ ‬فوقه‭ ‬فتجعل‭ ‬نفسها‭ ‬شمسًا،‭ ‬غير‭ ‬أنّ‭ ‬إشراقها‭ ‬مرهونٌ‭ ‬بنظرة‭ ‬منه،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الالتفاتة‭ ‬الجميلة‭ ‬التي‭ ‬تربط‭ ‬بين‭ ‬بيتيها‭ ‬علاقة‭ ‬التعليل،‭ ‬في‭ ‬الشكل،‭ ‬وتبادل‭ ‬الأدوار‭ ‬بين‭ ‬الحبيبين،‭ ‬في‭ ‬المضمون‭. ‬هو‭ ‬يضيء‭ ‬الصباح‭ ‬بحبّه،‭ ‬وهي‭ ‬تُشرق‭ ‬بنظرته‭:‬

وإذا‭ ‬ما‭ ‬استعطيتك‭ ‬الحبّ‭ ‬يومًا

ليُضاء‭ ‬الصباح‭ ‬في‭ ‬عينيّا

فلأني‭ ‬شمسٌ‭ ‬ولا‭ ‬أحسنُ‭ ‬الإشـراق

إن‭ ‬أنت‭ ‬ما‭ ‬رنـــوتَ‭ ‬إليّــــــــا‭ ‬

 

‭ ‬الحبيب‭ ‬في‭ ‬امقام‭ ‬الصِّبا‭ ‬والصَّباب‭ ‬هو‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬المتخيّل‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬الواقع،‭ ‬وأدنى‭ ‬إلى‭ ‬الحلم‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬الحقيقة‭. ‬

هو‭ ‬شيء‭ ‬غير‭ ‬متحقّق،‭ ‬بعيد،‭ ‬إلهي،‭ ‬غامض،‭ ‬يتعذّر‭ ‬الوصول‭ ‬إليه‭. ‬هو‭ ‬فكرة‭ ‬في‭ ‬البال‭ ‬وخاطر‭ ‬في‭ ‬الظن‭. ‬وهو‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬أو‭ ‬المستقبل‭ ‬أكثر‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬الحاضر‭.‬

ولعلّ‭ ‬بُعدَه،‭ ‬على‭ ‬المستويين‭ ‬المكاني‭ ‬والزماني،‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يمنحه‭ ‬غوايته،‭ ‬ويجعلها‭ ‬تتعلّق‭ ‬به‭. ‬هي‭ ‬تريده‭ ‬أن‭ ‬يبقى‭ ‬بعيدًا‭ ‬لتحبّه،‭ ‬لكنّها‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬لا‭ ‬تريد‭ ‬للبعد‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬حجابًا‭ ‬بينهما،‭ ‬فالقرب‭ ‬حجاب‭ ‬والبُعد‭ ‬حجاب،‭ ‬وهي‭ ‬تتأرجّح‭ ‬بين‭ ‬الحجابين‭. ‬هي‭ ‬تفضّل‭ ‬الشوق‭ ‬على‭ ‬اللقاء،‭ ‬والدرب‭ ‬على‭ ‬الوصول‭:‬

فأحلى‭ ‬من‭ ‬اللانهايات‭ ‬شوقٌ

إليها‭... ‬بها‭ ‬مستمرُّ‭ ‬التحلّي

ولعلّها‭ ‬تخشى‭ ‬أن‭ ‬تتحقّق‭ ‬فيها‭ ‬التفاتة‭ ‬ابن‭ ‬عربي‭ ‬الجميلة‭: ‬اكلُّ‭ ‬شوق‭ ‬يموت‭ ‬باللقاء‭ ‬لا‭ ‬يُعوّل‭ ‬عليهب،‭ ‬فتريده‭ ‬أن‭ ‬يبقى‭ ‬بعيدًا‭ ‬لتحتفظ‭ ‬بحبّه،‭ ‬ولا‭ ‬تريد‭ ‬للقاء‭ ‬أن‭ ‬يتحقّق‭ ‬خشية‭ ‬أن‭ ‬يموت‭ ‬الشوق‭. ‬

في‭ ‬اعلى‭ ‬مقام‭ ‬الصِّبا‭ ‬والصَّباب،‭ ‬نحن‭ ‬إزاء‭ ‬رؤى‭ ‬حديثة،‭ ‬جميلة،‭ ‬عميقة،‭ ‬تصبّها‭ ‬الشاعرة‭ ‬في‭ ‬البحور‭ ‬الخليلية‭ ‬المعروفة،‭ ‬وتثبت‭ ‬قدرة‭ ‬هذه‭ ‬البحور‭ ‬على‭ ‬استيعاب‭ ‬الحداثة‭ ‬ورؤاها،‭ ‬وتُسقط‭ ‬ذريعة‭ ‬القائلين‭ ‬بعجـز‭ ‬البحور‭ ‬وانتهاء‭ ‬صلاحيتها‭.‬

 

باسمة‭ ‬الرسّامة

في‭ ‬الرسم،‭ ‬رسمت‭ ‬باسمة‭ ‬بطولي‭ ‬ثلاثة‭ ‬آلاف‭ ‬ومئتي‭ ‬لوحة،‭ ‬زيتية‭ ‬ومائية،‭ ‬جمعت‭ ‬مئة‭ ‬وخمس‭ ‬عشرة‭ ‬لوحة‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬كتابها‭ ‬اأصداء‭ ‬بصريةب،‭ ‬وأقامت‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬المعارض‭ ‬الفردية،‭ ‬وشاركت‭ ‬في‭ ‬أخرى‭ ‬جماعية،‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬والبلاد‭ ‬العربية‭ ‬والعالم‭. ‬وبذلك،‭ ‬ترجح‭ ‬كفّة‭ ‬الرسم‭ ‬على‭ ‬الشعر‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الكم،‭ ‬بينما‭ ‬تستوي‭ ‬الكفّتان‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬النوع‭.‬

والفن،‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف،‭ ‬مسألة‭ ‬نوعية‭ ‬وليس‭ ‬مسألة‭ ‬كمية،‭ ‬قليله‭ ‬يغني‭ ‬عن‭ ‬الكثير،‭ ‬ونوعه‭ ‬يختزل‭ ‬الكم‭. ‬وهي،‭ ‬في‭ ‬رسمها‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬الشعر،‭ ‬تمتح‭ ‬من‭ ‬الواقع،‭ ‬البشري‭ ‬والطبيعي،‭ ‬وتعيد‭ ‬تشكيل‭ ‬الوقائع‭ ‬وفق‭ ‬مقتضيات‭ ‬الفن‭ ‬والجمال‭. ‬

هي‭ ‬تنطلق‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬فوقه‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تقطع‭ ‬معه‭. ‬ترفع‭ ‬المتلقّي‭ ‬معها‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يفقد‭ ‬موطئ‭ ‬قدميه‭. ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬التشكيل‭ ‬والتجريد‭. ‬وتقيم‭ ‬توازنًا‭ ‬دقيقًا‭ ‬بينهما‭ ‬في‭ ‬اللوحة،‭ ‬فتنتج‭ ‬لوحة‭ ‬ممانعة،‭ ‬مراوغة،‭ ‬لا‭ ‬تسلّم‭ ‬نفسها‭ ‬بسهولة،‭ ‬ولا‭ ‬تعصى‭ ‬على‭ ‬التسليم‭ ‬في‭ ‬الآن‭ ‬نفسه‭.‬

تتّخذ‭ ‬بطولي‭ ‬من‭ ‬مواد‭ ‬الأرض‭ ‬ما‭ ‬تتطلّع‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬السماء،‭ ‬وتتّخذ‭ ‬من‭ ‬لوازم‭ ‬الجسد‭ ‬ما‭ ‬ترقى‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الروح‭. ‬وهي‭ ‬في‭ ‬صنيعها‭ ‬الفني‭ ‬لا‭ ‬تصدر‭ ‬عن‭ ‬مدرسة‭ ‬معيّنة‭ ‬ولا‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬تيار‭ ‬فني‭ ‬محدد،‭ ‬حسبها‭ ‬أن‭ ‬تمارس‭ ‬حريّتها‭ ‬كما‭ ‬تشتهي،‭ ‬وتعيش‭ ‬حضورها‭ ‬كما‭ ‬تريد‭.‬

والمفارقة‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تدرس‭ ‬الرسم‭ ‬يومًا‭ ‬في‭ ‬معهد‭ ‬أو‭ ‬جامعة،‭ ‬بل‭ ‬درسته‭ ‬على‭ ‬نفسها،‭ ‬واحتكمت‭ ‬إلى‭ ‬حسّها‭ ‬الفني‭ ‬المرهف‭ ‬وذائقتها‭ ‬المثقفة‭ ‬ونعمة‭ ‬الموهبة‭ ‬التي‭ ‬حباها‭ ‬بها‭ ‬الخالق‭ ‬جل‭ ‬وعلا‭. ‬والناظر‭ ‬في‭ ‬لوحاتها‭ ‬كالمصغي‭ ‬إلى‭ ‬قصائدها‭ ‬يحلّق‭ ‬في‭ ‬فضاءات‭ ‬مختلفة،‭ ‬فكأن‭ ‬اللوحة‭ ‬أو‭ ‬القصيدة‭ ‬تمنحه‭ ‬أجنحة‭ ‬لروحه‭ ‬وتعلّمه‭ ‬ارتياد‭ ‬الأعالي‭. ‬

 

فكرة‭ ‬مبتكرة‭ ‬وإخراج‭ ‬متقن

تعرف‭ ‬باسمة‭ ‬كيف‭ ‬تختار‭ ‬الفكرة‭ ‬وتخرجها‭ ‬كي‭ ‬تتحوّل‭ ‬إلى‭ ‬لوحة،‭ ‬وتعرف‭ ‬كيف‭ ‬تبتكر‭ ‬الفكرة،‭ ‬فتأتي‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يخطر‭ ‬على‭ ‬بال،‭ ‬وتخرجها‭ ‬بعناية،‭ ‬فتجمع‭ ‬اللوحة‭ ‬بين‭ ‬الفكرة‭ ‬المبتكرة‭ ‬والإخراج‭ ‬المتقن؛‭ ‬ففي‭ ‬اقبعة‭ ‬أمّيب‭ ‬يحوّل‭ ‬الطفل‭ ‬قبّعة‭ ‬أمّه‭ ‬إلى‭ ‬طائرة‭ ‬ورقيّة،‭ ‬وفي‭ ‬اكرسي‭ ‬أبيب‭ ‬ترسم‭ ‬باقة‭ ‬زهرٍ‭ ‬على‭ ‬كرسيٍّ‭ ‬قديم،‭ ‬وفي‭ ‬االمرأة‭ ‬المصلوبةب‭ ‬تقدّم‭ ‬المرأة‭ ‬مصلوبة‭ ‬في‭ ‬تمايز‭ ‬عن‭ ‬المأثور‭ ‬الديني‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬الصلب‭ ‬من‭ ‬نصيب‭ ‬الرجل،‭ ‬وفي‭ ‬المرّة‭ ‬على‭ ‬الأقلب‭ ‬يبلغ‭ ‬الابتكار‭ ‬حدّ‭ ‬الغرابة‭ ‬حين‭ ‬ترسم‭ ‬باقة‭ ‬زهرٍ‭ ‬طالعةً‭ ‬من‭ ‬كرسيّ‭ ‬حمّام‭.‬

‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الرسامة‭ ‬تلتقط‭ ‬بعض‭ ‬أفكارها‭ ‬من‭ ‬الطريق‭ ‬التي‭ ‬تحدّث‭ ‬عنها‭ ‬الجاحظ‭ ‬ذات‭ ‬يوم،‭ ‬فإنها‭ ‬لا‭ ‬تلتقط‭ ‬سوى‭ ‬الجميل،‭ ‬وتضرب‭ ‬صفحًا‭ ‬عن‭ ‬البشاعات‭ ‬الكثيرة‭ ‬التي‭ ‬يزخر‭ ‬بها‭ ‬الواقع‭. ‬ولذلك،‭ ‬حين‭ ‬سألها‭ ‬بعضهم،‭ ‬ذات‭ ‬معرض‭ ‬فني،‭ ‬في‭ ‬اغاليري‭ ‬العاليةب،‭ ‬بمدينة‭ ‬عمان‭ ‬الأردنية،‭ ‬عام‭ ‬1989،‭ ‬عن‭ ‬الحرب‭ ‬في‭ ‬لوحاتها،‭ ‬وهي‭ ‬الآتية‭ ‬من‭ ‬بلدٍ‭ ‬طالعٍ‭ ‬للتوّ‭ ‬من‭ ‬حرب‭ ‬أهلية‭ ‬طاحنة،‭ ‬أجابت‭ ‬بأن‭ ‬الفنان‭ ‬ليس‭ ‬كاتب‭ ‬عدل‭ ‬يوثّق‭ ‬الأحداث،‭ ‬وأنها‭ ‬لا‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تعيش‭ ‬الحرب‭ ‬مرّتين،‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬وعلى‭ ‬القماشة‭.‬

اللوحة،‭ ‬عندها،‭ ‬دعوة‭ ‬مفتوحة‭ ‬إلى‭ ‬السفر،‭ ‬في‭ ‬تواطؤ‭ ‬غير‭ ‬معلن‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬المتلقّي،‭ ‬ولكلِّ‭ ‬متلقٍّ‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الدعوة‭ ‬نصيب‭ ‬تبعًا‭ ‬لقدرته‭ ‬على‭ ‬السير‭ ‬والغوص‭ ‬والتحليق‭. ‬

من‭ ‬الناحية‭ ‬التقنية،‭ ‬تُبدي‭ ‬بطولي‭ ‬اهتمامًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬بتأليف‭ ‬اللوحة،‭ ‬وتُعنى‭ ‬بالتدرّج‭ ‬الضوئي‭ ‬في‭ ‬ألوانها،‭ ‬وتتصرّف‭ ‬به‭ ‬وفق‭ ‬مقتضيات‭ ‬الموضوع‭ ‬وزاوية‭ ‬الرؤية،‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬ووفق‭ ‬متطلّبات‭ ‬التوازن،‭ ‬بحيث‭ ‬لا‭ ‬تبدو‭ ‬اللوحة‭ ‬عرجاء،‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬فتتحوّل‭ ‬إلى‭ ‬سيمفونيّة‭ ‬لونية،‭ ‬تُطرب‭ ‬العين‭ ‬والأذن‭ ‬والقلب‭. ‬وهي،‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬تهتمّ‭ ‬بنظافة‭ ‬اللون‭ ‬والريشة،‭ ‬مما‭ ‬يجعل‭ ‬التدرّج‭ ‬الضوئي‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬الوضوح‭.‬

لعلّ‭ ‬خير‭ ‬مسك‭ ‬لختام‭ ‬هذه‭ ‬المقاربة‭ ‬القول‭ ‬إنّ‭ ‬باسمة‭ ‬بطولي‭ ‬مبدعة‭ ‬مزدوجة،‭ ‬رسّامة‭ ‬في‭ ‬شعرها‭ ‬وشاعرة‭ ‬في‭ ‬رسمها،‭ ‬وفي‭ ‬الحالتين‭ ‬هي‭ ‬عاشقة‭ ‬جمال‭ ‬ومبدعة‭ ‬فن‭ >‬

ربيع‭ ‬أيلول

حدود‭ ‬الحرية