شُرفة فنية تطلّ على الجمال وتنتصر للحداثة مهرجان تطوان لسينما البحر المتوسط

في عام 1985، قررت مجموعة من الشباب المتحمسين والحالمين أن تعلن على الملأ عشقها وتعلّقها بالسينما، فأسست جمعية أصدقاء السينما بتطوان، لتقتسم مع الآخرين انجذابها الجارف نحو الفن السابع، ولتحثّهم على التعرف إلى عوالم سحرية متخيلة منتمية لجغرافيات ومدارس متباينة. وقد كان هذا المشروع مرتبطًا بحركية النوادي السينمائية التي نادت بحق الشباب في فرجة سينمائية ذكية، وتبنت مطالب التغيير والتحديث في مرحلة كان الاحتقان هو ما يميّز العلاقة بين الدولة والمجتمع بالمغرب.
تطورت هذه الجمعية التي رصدت انتظارات الجمهور، وخاصة الجمهور الشاب، في المجال الفني وطبيعة تفاعله مع الظاهرة السينمائية، وذلك عبر تنظيمها عروضًا منتظمة واستضافتها تجارب سينمائية مختلفة، متأثرة في جوانب عدة بالأحلام والشعارات السياسية التي روجت لها حركة شهر مايو 1968 الباريسية، ومتبنيّة في اقترابها من الفعل السينمائي طروحات النقاد الطلائعيين، خصوصًا منهم أولئك الذين نشروا كتاباتهم بمجلتي دفاتر السينما وبوزيتيف، أو لنقاد منتمين للاتحاد السوفييتي قبل تفككه، أو لبعض بلدان أمريكا اللاتينية.
استمرت المغامرة سنوات عديدة بإمكانات متواضعة وبطموح وبعناد قويّين، واصطدمت أكثر من مرة بأبواب مسدودة، لكنها تمكّنت من أن تتحايل على المعيقات والصعوبات إلى أن تبيّن لجهات عدة ولمؤسسات رسمية وغير رسمية وجاهة الفكرة التي دافع عنها أولئك الشباب، فانخرطت في هذا المشروع وساندته.
وبهذا الشكل، ومنذ ربيع 1999، تحولت لقاءات سينمائية هاوية إلى مهرجان متوسطي جذّاب لا يمكن الاستغناء عنه.
مهرجان ومدينة
ليس من قبيل المصادفة أن هذه التظاهرة السينمائية قد وجدت تربة مناسبة لها بمدينة تطوان، هذه المدينة التاريخية العريقة التي عرفت طوال تاريخها، ولا تزال، مبادرات ثقافية وفنية وإعلامية رائدة، مما جعل منظمة اليونسكو العالمية تصنفها في أكتوبر 2017 مدينة مبدعة، لتكون بذلك المدينة العربية الثالثة التي منحت هذا الوسام الرمزي، إلى جانب القاهرة وتونس. وقبل ذلك، صنفت المدينة العتيقة لتطوان تراثًا إنسانيًّا.
وإذا كانت تطوان ذات تاريخ أندلسي، فسماها البعض اأخت غرناطةب، فإنها كانت قبل ذلك مجاورة لحاضرة رومانية تدعى اتمودةب، يرجع تاريخ تأسيسها إلى القرن الثالث قبل الميلاد، وكانت مركزًا تجاريًّا مهمًا مطلًا على البحر الأبيض المتوسط. والجائزة الكبرى التي يمنحها مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط أطلق عليها تحديدًا اسم اتمودةب، تيمّنًا بهذه الحاضرة وربطًا لحاضر متوثب بماض مضيء.
وفي ورقة أثارت كثيرًا من الاهتمام والتفكير، سجّل الكاتب الصحفي الراحل، وزير الإعلام المغربي الأسبق محمد العربي المساري، ما يلي: انريد أن يبقى المهرجان (يقصد مهرجان تطوان) قائمًا تقديرًا للرؤية التنبؤية لمؤسسيه الذين أطلقوا المبادرة منذ 20 عامًا (1985)، ثم جاءت أحداث سياسية وثقافية، فيما بعد، لترسخ الاقتناع بالهوية المتوسطيةب.
وقد انتبهت هذه التظاهرة بالفعل، بشكّل مبكر، إلى أهمية أن يستثمر المغرب موقعه الاستراتيجي وانتماءه إلى الفضاء المتوسطي الغني بروافده الثقافية المتعددة، والمنفتح على مختلف التأثيرات والتيارات.
نحب الحياة فنعشق السينما
إن أي مهرجان فني هو فسحة للقاء والحوار وذريعة للدهشة والاكتشاف، ومناسبة لتأكيد حق الفرد في الفرح والحلم. وهذه الخاصيات المذكورة تنسحب بيُسر على مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط الذي نظّم في شهر مارس 2019 دورته الفضية، أي أن في ذخيرة المهرجان 25 دورة، أساسها حب السينما وعشق الفن الرفيع والتعلق بالحياة. فما يحرك مهرجان تطوان هي السينيفيليا (عشق السينما)، بما تعنيه من قدرة على الاختيار واعتماد معايير للتمييز بين المنتوج السينمائي الجيد والمنتوج الهزيل، وبما تعنيه من إلحاحها على ضرورة الاعتراف بالسينما كشكل قائم الذات، ومن ارتباطها بالمواقف السياسية والفكرية المتقدمة، خاصة في المجتمعات الواقعة جنوب المتوسط، ثم إن مهرجان تطوان حرص دومًا، وما يزال، على طابعه الحميمي وعلى قربه من جمهوره وضيوفه، وعلى أن يساهم في تقريب السينما من الشباب المنجذبين اليوم إلى هوايات أخرى وانشغالات مغايرة.
وقد تكون أهم ميزة تسم مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط، مقارنة مع مهرجانات عربية كبيرة ومكرّسة مثل امهرجان القاهرة السينمائي الدوليب واأيام قرطاج السينمائيةب وامهرجان وهران للفيلم العربيب مثلاً، هي أن هذه المهرجانات الأخيرة هي تظاهرات تنظمها جهات رسمية تشرف على تحديد خطها التحريري وتوجهاتها العامة، في حين أن مهرجان تطوان تنظمه هيئة مدنية، بدعم من جهات رسمية أو منتخبة وجهات ممولة أو حاضنة، مما يتيح له فسحة حرية أكبر لحظة الاختيار والبرمجة في مختلف الفقرات، سواء تعلّق الأمر باختيار الأفلام التي ستتبارى فيما بينها، أو عند اختيار مواضيع الندوات والموائد المستديرة التي تؤطر الفرجات المقترحة وتمنحها المعنى.
مهارات إنسانية
حرص المهرجان، خلال مختلف دوراته، على الاحتفاء بالفنانين المتوسطيين وبتجاربهم المثيرة للاهتمام، إيمانًا منه بأن السينما هي إبداع بقدر ما هي صناعة، وأن هذا الإبداع مصدره مهارات إنسانية وأحلام وحالات تمرّد.
كما اهتم المهرجان بشكل لافت بالورشات التي تنظم في مختلف التخصصات، لاقتناعه بأن السينما هي فن يخاطب المستقبل، لذا وجب أن يهتم بالفئات الشابة.
وقد يكون مهرجان تطوان هو أقرب في تصوره وهندسته إلى مهرجانات توجد في الضفة الأخرى من المضيق، مثل مهرجانات فالنسيا ومونبوليي ومارسيليا.
كما يمكن ملاحظة أن عددًا من المهرجانات المغربية المعروفة قد خرجت من معطفه، وأن مجموعة من النقاد المغاربة والعرب المرموقين قد أصابتهم لوثة السينما في دورة من دوراته، ثم إنه مهرجان أعلن دون مواربة أنه يتعهد أحلامًا مشتركة وينتصر للانفتاح وللحرية، ضدًّا للانغلاق والتطرف، وأنه يعلي إلى الضوء قيم الصداقة والإبداع والحرية، فضلاً عن كونه مهرجانًا ملتزمًا، بمعنى أنه لا يحتمل أن يغضّ الطرف عن قضايا سياسية أو إنسانية حارقة وذات راهنية، تفرض نفسها في الفضاء المتوسطي.
ويمكن الاستدلال على ذلك بمثالين اثنين: المثال الأول، تجسده القضية الفلسطينية بمختلف تعقيداتها ورهاناتها، ويبدو أن التزامه هذا ظل ثابتًا منذ الدورات الأولى، حيث عرض مثلاً في التسعينيات من القرن الماضي أفلام المبدع ميشيل خليفي انشيد الحجارةب، واحكاية الجواهر الثلاثب، واعرس الجليلب، وعرض في الدورة الخامسة والعشرين فيلم امفكب للمخرج الشاب بسام الجرباوي، وفيلم اتقارير حول سليم وسارةب للمخرج مؤيد عليان، إضافة إلى تخصيص السينما الفلسطينية بفقرة، عرضت فيها أفلامًا تمثّل مختلف مراحلها التاريخية واختياراتها الجمالية.
مواقف فكرية مثيرة
يهتم المهرجان بالسينما الفلسطينية لا لأنها فلسطينية، بل لمجازفاتها الفنية المعتمدة على رؤى ذاتية مبدعة تعبّر عن مواقف فكرية وسياسية مثيرة للجدل أحيانًا في مختلف السجلات المطروقة، وبغضّ النظر عن التصنيفات التي تلحق بها (سينما الداخل، سينما الشتات، سينما عرب إسرائيل).
أما المثال الثاني بخصوص القضايا التي حرصت هذه التظاهرة على إثارتها، فيتمثل في ظاهرة الهجرة بآلامها وتحدياتها الرهيبة، إذ تبنى مهرجان تطوان موقفًا مناهضًا لكل أنواع الحدود، وعمد في عديد من المناسبات إلى فضح ما تخلّفه من مآسٍ إنسانية على مستوى الأفراد والجماعات، سواء تعلّق الأمر بالهجرة السريّة وبالمد العنصري والحرمان اللذين يرافقانها، أو كانت حدودًا فعليّة أو ذهنية تتمثل في الأفكار المسبقة والصور النمطية والتحجر، فالسينما هي في الأصل حريّة، وهي إبداع إنساني مشترك يتحرك في عالم من المفترض أن يجعل كرامة الإنسان أوليّة الأولويات.
انفتح مهرجان تطوان السينمائي منذ بداياته على تجارب سينمائية من مختلف البلدان العربية والمتوسطية (مصر، لبنان، سورية، فلسطين، فرنسا، إسبانيا، إيطاليا، تركيا، الجزائر ...)، وكان بمنزلة ورشة للنقاد المغاربة والعرب والمتوسطيين، واستضاف منهم أسماء لامعة، أمثال أمير العمري وخميس خياطي ونورالدين الصايل وسيد سعيد وجورج توبيانا وميشيل جوست ومحمد نورالدين أفاية ومصطفى المسناوي، الذي سميت جائزة النقد بالمهرجان باسمه.
أما فيما يتعلق بالسينما المغربية، فقد احتفى المهرجان بمسارات مختلفة لفنانين متميزين، سواء من الممثلين، من قبيل محمد البسطاوي وثريا العلوي والسعدية لديب ومحمد خيي وأمل عيوش وثريا جبران، أو من المخرجين سعد الشرايبي وحكيم بلعباس وفوزي بنسعيدي، وذلك ما مكّن المتتبعين من إقامة مقارنة بين هذه المسارات ومسارات سينمائيين متوسطيين مكرسين.
أسماء... وأسماء
تعتبر الفرجة السينمائية من مستلزمات المجتمع الحداثي أو مجتمع يطمح إلى أن يصبح كذلك. لذا، فالمهرجان يقوم بدور الوساطة بين الإنتاجات السينمائية وبين الذين من المفترض فيهم مشاهدتها أو إعادة مشاهدتها. والمهرجانات السينمائية ببرمجتها توجّه وتؤطر وتدافع ضمنيًّا عن توجّه فني محدد. والملاحظ أن مهرجان تطوان قد تميّز بالجرأة في البرمجة وفي اختيار مواضيع اللقاءات والندوات، وأيضًا في انفتاحه، في الآن نفسه، على جمهور عريض وعلى متلقين جدّ متطلبين، باستضافته لسينمائيين كبار، من نجوم السينما المصرية (يوسف شاهين وصلاح أبوسيف ومحمد خان ونادية لطفي ونبيلة عبيد وفريد شوقي ومنى زكي ونور الشريف وليلى علوي وهدى سلطان وحسين فهمي وكمال الشيخ وكمال الشناوي ومحمود عبدالعزيز وأحمد حلمي)، فضلاً عن استضافته نجومًا سينمائيين من فرنسا (أنييس فاردا وجان بركين وكلود لولوش) ومن بلدان أخرى، من فلسطين (ميشيل خليفي وأحمد بكري وميساء عبدالهادي ومنى واصف)، ومن إسبانيا (لويس بيرلانكا وبيلار طافورا وشوس كوتييريس وإيسيار بوايلين وإيمانويل أرياس)، إلى جانب النجم السوري محمد ملص، والمبدعين التونسيين ناصر لخمير وهند صبري ورضا الباهي، وغيرهم. لقد ترك مرور هؤلاء الفنانين بفضاءات تطوان أثرًا لا يمكن نسيانه، فمنح المدينة وجاهة مضاعفة، إلا أن بعض المتتبعين المحترفين، وبعد مراجعتهم للائحة الفنانين المتوسطيين والنجمات المتوسطيات المحتفى بهم وبهن، ما فتئوا يطالبون المهرجان بتوسيع قاعدة وجغرافيات المحتفى بهم.
تظاهرة غير مهادنة
عمد مهرجان تطوان السينمائي، منذ بداياته، إلى مد الجسور بين الأجيال السينيفيلية، من خلال توقفه عند تجارب بعينها، مثل تجربة روسيليني أو روسي، ولويس بيرلانكا، وعرض روائع سينمائية لأول مرة، مثل الأفلام التالية: االليلب لمحمد ملص، اليه يا بنفسجب واعرق البلحب لرضوان الكاشف، واسارق الأطفالب لجياني أميليو، واكارمنب لكارلوس ساورا.
ومن دواعي اعتزاز فريق المهرجان عرضه في إحدى الدورات لفيلم المخرج العبقري يوسف شاهين االمهاجرب، رغم طروحاته الفكرية والسياسية المشاكسة، وعرضه في الدورة الفضية للمهرجان فيلم االضيفب للمخرج هادي الباجوري، رغم صداميته وتسميته الأشياء بمسمياتها، مما قد يسمح بوصف هذه التظاهرة بأنها غير مهادنة، وبأنها تحرص على أن تتجه نحو المستقبل. وإلى جانب اختياره المتوسطي، انفتح مهرجان تطوان في مختلف دوراته على سينمات وتجارب لا تنتمي لحوض البحر الأبيض المتوسط، مثل بعض السينمات الإفريقية والسينما الإيرانية والتشيلية والمكسيكية والبلجيكية والصينية، وذلك توخيًّا منه لخلق فسحة حوار وتلاقح فنيين.
عشق متواصل للسينما
سيبقى مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط تظاهرة فنية راقية، تحتاج إليها مدينة تطوان كما يحتاج إليها المغرب وتحتاج إليها منطقة البحر الأبيض المتوسط التي تعرف اليوم عديدًا من بؤر التوتر والتطاحن. وهو فسحة للتفاعل الثقافي وللانصهار المنتج بين حساسيات وتجارب جمالية متباينة، تؤثر في الوجدان وتلتقي في انتمائها لهذه المنطقة الجميلة، منطقة البحر الأبيض المتوسط الفاتنة. وقد ظل مهرجان تطوان محتفظًا بتلك الصلة مع بداياته اللذيذة الأولى، حينما كان عشق السينما هو الموجّه، وحينما علت الصداقة والحميمية لتصبحا شعارين مركزيين وتلقائيين يسندان هذه التظاهرة ويغنيانها. إنه لحظة جذابة تجمع بين التثقيف المرتبط بالبرمجة الجيدة والإثارة التي يضمنها حضور النجوم والترويج الذي يعني إيجاد قنوات للتعريف بالإنتاجات السينمائية المتفردة والجديدة .
عرض للمهرجان بالهواء الطلق