محمد الفيتوري وروافده الشعرية

محمد الفيتوري وروافده الشعرية

باستطاعتنا أن نوزع شعر الشاعر محمد الفيتوري (1936 - 2015) إلى خمسة روافد، ولا شكّ في أن إفريقيا هي الرافد الأول في شعره... إفريقيا القارة السوداء بغاباتها وشمسها المحرقة، وحيواناتها وسكانها الزنوج الحفاة العراة.  نظم فيها أربعة دواوين، فبعد ديوانه الأول «أغاني إفريقيا»، يأتي «اذكريني يا إفريقيا» ثم «عاشق من إفريقيا»، وأخيراً المسرحية الشعرية «أحزان إفريقيا» أو «سولارا» التي تدور حول سرقة البشر وبيعهم كعبيد في أميركا.

يقول محمود أمين العالم حول تأثر الشاعر بإفريقيا:
«لقد كانت إفريقيا رمزه الأكبر لخلاصه الداخلي ووسيلته للارتباط شيئاً فشيئاً بالواقع الموضوعي الكبير، وعودة الثقة إلى نفسه والثقة بنفسه، والثقة بالإنسان وبالحياة.
ومن هنا، أخذت إفريقيا نفسها رؤية شعرية جديدة.. لم تعد طبولاً زاعقة، ولا تماثيل حاقدة ولا أغنيات متوفزة، بل أصبحت صوراً هادئة يتدفق في عروقها دم الواقع البسيط».
هاجسه إفريقيا والرجل الأبيض الذي أذلّها واستغلّها. شعره يعبق برائحتها وباللون الأسود والأبنوس وبقرع الطبول، وهو الشاعر العربي الأول والوحيد الذي يتناول في شعره مأساة الإنسان الزنجي الأسود. وهو يريد من إفريقيا أن تستيقظ، أن تحطّم القيود وتتحرر.
يقول في قصيدة «حدث في أرضي»:
أنا لا أملك شيئاً غير إيماني بشعبي..
وبتاريخ بلادي
وبلادي أرض إفريقيا البعيدة
هذه الأرض التي أحملها ملء دمائي
والتي أنشقها ملء الهواءِ
والتي أعبدها في كبرياءِ
هذه الأرض التي يعتنق العطر عليها والخمول
والخرافات وأعشاب الحقول
هذه الأسطورة الكبرى.. بلادي
- الرافد الثاني في شعر الفيتوري: هو الصوفية. وذلك يظهر في ديوانه «معزوفة لدرويش متجول»، والدرويش المتجول هو الشاعر، وقد نظم القسم الأكبر من قصائد هذا الديوان في لبنان. وقصيدته الأولى، التي أعطت المجموعة اسمها، نظمها في بيروت سنة 1967، يقول في المقطع الأول منها:
شحُبت روحي، صارت شفقاً
شعّت غيماً وسنا
كالدرويش المتعلق في قدمي مولاه أنا
أتمرّغ في شجني
أتوهّج في بدني
غيري أعمى، مهما أصغى، لن يُبصرني
فأنا جسدٌ.. حجرٌ
شيءٌ عبرَ الشارع
جُزرٌ غرقى في قاع البحر..
حريقٌ في الزمن الضائعْ
قنديلٌ زيتيّ مبهوتْ
في أقصى بيت، في بيروتْ
أتالق حيناً. ثمّ أرنِّق ثم أموت
 ولأن والده كان صاحب طريقة من طرق الصوفية، فقد نشأ الشاعر في جوّ الصوفية، وتشرّب الفكر الصوفي وهو صغير لا يفقه ما يجري حواليه من رموز واحتفالات وحلقات الذِكْر ونقر الدفوف والتواشيح والأشعار والأناشيد التي كانت تتلى.
وكما أجاد الشاعر في شعره الإفريقي، أجاد في شعره الصوفي، مما جعل د. إحسان عباس يقول عنه: «للفيتوري جانبان يتألق فيهما حين يكتب الشعر: تصوير لحظات الرعب النفسي بين الفرد - أو الجماعة – والسلطة، وتصوير لحظات الوجد الصوفي في مراحل التأمل في واقعنا العربي والإنساني».
أما الرافد الثالث فهو الحرية، فالشاعر الفيتوري يقف إلى جانب الشعوب المقهورة والمستغَلّة يستحثها على الثورة والتحرر.
وكذلك نجده يدافع عن حرية الإنسان وحق الشعوب في العيش الحرّ الكريم. وهو يستلهم شعره من انتفاضة الشعوب المقهورة، الشعوب المستغلّة المستضعَفة، نجد ذلك كله في قصيدة «لو ماتت في شفتي الكلمات»، وفي قصيدة «حصاد شعب»، وهو لا ينسى فلسطين ومأساتها، وفي قصيدته «مقاطع فلسطينية» يستحثّ الهمم للثأر ويهاجم الخونة الذين باعوا فلسطين.
وفي قصيدة «ملك أو كتابة» يتناول قضية فلسطين وما أصابها من خيانة، فيقول:
عيدُ السيادة.. ذكرى اغتصاب فلسطين
عيدُ فلسطين.. ذكرى المعاهدة البربرية
عيدُ الصعودِ.. وعيد الهبوطِ
ويومُ الصيامِ.. ويومُ الضحية
وأفتى ابنُ مالك والشافعية..
وهذا انقلابٌ لأجل القضية
وآخر أيضاً، لنفس القضية
وهو يختصر موقفه من القضية الفلسطينية بهذا البيت من الشعر: «إن جرحَ فلسطين ليس تضمده الكلمات».
يقول في مقابلة صحفية معه:
«إن مجتمعي العربي يحاول أن يتخلص من أغلاله التاريخية، العدوان الثلاثي على مصر، الثورات المتلاحقة، الانتفاضات الكثيرة، دويّ أصوات الحياة من حولي، إن فكراً جديداً يولد في ذاتي، وأنا أحاول التعبير عنه».
والرافد الرابع هو العروبة، فإذا كان الشاعر قد بدأ ينظم الشعر في إفريقيا والدفاع عن قضاياها والذود عن مصالح شعوبها، فإنه لا يتنكر لواقعه وقوميته العربية، فهو عربي أولاً وإفريقي ثانياً. فلا عجب أن نجد في شعره التيار العروبي هادراً صاخباً. وهو لابدّ أن يتأثر بواقع أمته العربية ويبادر للدفاع عن قضاياها. لقد صدمته الهزيمة التي نزلت بها سنة 1967، فاكتشف أن الطغيان المسلط على رقاب العرب، من الداخل والخارج، أشد وقعاً وأكثر إيلاماً من الظلم التاريخي المحيق بإفريقيا وبالإفريقيين، أو إن الاستعمار والنضال ضده حلقات أخذ بعضها ببعض على امتداد التاريخ والواقع الجغرافي، فأخذت الرؤية القومية تتكثف في شعره. وهي أجلى ما تكون في مجموعاته الشعرية «البطل والثورة والمشنقة» التي يهديها إلى روح المناضل جمال عبدالناصر، و«أقوال شاهد إثبات»، و«ابتسمي حتى تمرّ الخيل». يضاف إلى ذلك كله مسرحيته الشعرية «عُمر المختار» البطل الليبي، وهي في ثلاثة فصول. وفيها يظهر أن عمر المختار كان يتزعم الثورة الوطنية ضد الطغيان الإيطالي الفاشستي، إلا أن البطل الحقيقي هو الشعب الليبي نفسه. وله كذلك مسرحية عن يوسف بن تاشفين، البطل المغربي البربري الذي أعاد إلى الأندلس مجدها، بعد أن كاد يتساقط في القرن الحادي عشر الميلادي. وهو ناقم وثائر لما أصاب أمته العربية من ذلّ وهوان، ولما ألمّ بها من هزائم وضعف وتشتت. يقول مقرّعاً إياها هازئاً وساخراً منها:
قد سقط القدس
وغاص حافر القاتل في دمائنا المحرّمة
وسقط البُراق والوحي
فهل عرفتِ، أو، هل ستعرفين
متى ستسقطين
يا مكة المكرّمة؟!
وهو رافض لهذا الواقع العربي المتردّي، ولكن رفضه ليس ذلك الرفض الهدّام الذي يريد أن يهدم كل شيء دون أن يبني شيئاً. إن رفضه رفض بنّاء يبغي من ورائه النهوض بالأمّة العربية ودفعها نحو الرقي والتمدّن.
وهكذا يبدو لنا أن قصيدة الفيتوري وثيقة الصلة بالواقع العربي، وبالإنسان العربي، وبالتاريخ العربي. وهو بالتالي يصوّر بشعره الواقعي هذا طموحات الإنسان العربي المعذب والمسلوب الإرادة. وهو بالتالي يستلهم التراث العربي في شعره، والقصيدة عنده تنتمي إيقاعاً ونغماً إلى الإيقاع العربي الإنساني المعاصر المتداخل مع إيقاعات هذا العصر، وهي ليست تكراراً أو صدى لقصائد الشعراء الآخرين، بل هو شاعر له شخصيته المميزة وطابعه الخاص وأسلوبه الذي يتفرد به. له رؤيته السياسية وصوته الرافض ومناصرته لقضايا جماهير الشعب العربي. لا يتعمّد الغموض والإبهام، ولا يدّعي الحداثة الزائفة، بل إنه يرى أن الشعر ليس هدفه أن يصوّر الأشياء أو ينقل الطبيعة، بل عليه أن يكون أداة فضح وتحريض وثورة وتحدٍّ.
يبقى المحور الخامس الأخير: وهو رافد الحبّ، وهل يستطيع الشاعر أن ينظم الشعر، أو أن يعيش من دون حبّ؟! كان الفيتوري في أول الأمر يخجل من أن يبوح بحبه. لذلك كان يتستّر على هذا الحب ويلمّح عنه تلميحاً في قصائده. ولكن ما لبث أن تجرّأ على البوح، ولم يعد يخاف من إظهار الحبّ.
ولعلّ شعر الحبّ عنده يظهر أوضح ما يظهر في مجموعته «ابتسمي حتى تمرّ الخيل» التي يهديها: «إلى تلك التي تعبق في وجودي كله: وتغزل رؤيا الشاعر وموسيقى الشعر». وهي فتاة لبنانية.
وهو في حبّه صوفي، يسعى إلى الفناء في ذات الحبيب، يقول في قصيدة «أعرف أنكِ كنتِ ستأتين»
أن أُحبّكِ
كانت عيون من الدم تسطع
في الساحة النبوية
أن تنبتَ الزهرةُ المستحيلةُ ثانية
في صحارى الحرائق والملح
أن تولدي أنتِ
لا.. ليس غيرك
أن تولدي أنتِ فيّ..
وأولد فيكِ
 
الفيتوري ولبنان
جميع الشعراء العرب الكبار زاروا لبنان وعاشوا وتغنوا فيه ونظموا أجمل شعرهم؛ من أمير الشعراء أحمد شوقي الذي نظم رائعته «زحلة» (يا جارة الوادي) التي غنّاها محمد عبدالوهاب، إلى محمد الفيتوري الذي نظم في لبنان وفي شعراء لبنان أجمل ما نظم، مروراً بالشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري، الذي أحصيت له 14 قصيدة في وصف لبنان وذكر لبنانيين كبار من شعراء وأدباء وسياسيين. إلى شعراء سورية الكبار الثلاثة عمر أبوريشة ونزار قباني وأدونيس، الذين سكنوا لبنان وتغنوا به وحملوا هويته.
عاش الفيتوري في السودان ومصر وليبيا والمغرب ولبنان، ولكنه أحب لبنان ونظم أربعة دواوين من وحيه: «معزوفة لدرويش متجوّل»، و«ابتسمي حتى تمرّ الخيل»، و«عصفورة الدم»، و«شرق الشمس غرب القمر»، وعقد صداقات متينة مع عدد من أدبائه وشعرائه ومبدعيه، وعلى رأسهم الشاعر عبدالله الأخطل ابن الأخطل الصغير والمبدع منصور الرحباني.
وهو القائل: «بيروت لي ليست مجرد مدينة جميلة ومعطاء، إنما هي مناخ ثقافي ومحطة حضارية وامتداد مضيء وعميق نحو الحياة العربية الأفضل».
وعن لبنان يقول: «قررت ألا يكون لي وطن غير لبنان، فعدت إليه على أن أقيم فيه. لقد اخترته وطناً ثانياً، أو ربما وطناً أول».
ومن أجمل ما نظم الفيتوري من شعر هو ما نظمه في لبنان؛ بدءاً بالقصيدة العصماء التي ألقاها سنة 1969 في مهرجان الأخطل الصغير بشارة عبدالله الخوري «إلى الأخطل الصغير» التي يقول فيها:
أنتَ في لبنان..
والشعرُ له في رُبى لبنان عرشٌ ومُقامُ
شاده الأخطلُ قصراً عالياً
يزلقُ الضوءُ عليه والغمامُ
وتبيتُ الشمسُ في ذروته
كلّما داعبَ عينيها المنامُ
***
أنتَ في لبنان..
والخلدُ هنا..
والرجالُ العبقريون أقاموا..
حملوا الكونَ على أكتافهم
ورعوا غربَته وهو غُلامُ
غرسوا الحبَّ.. فلما أثمرَ الحبُّ..
أهدوه إلى الناس وهاموا..
غرباءً.. ومغنِّين..
وأحلى أغانيهم على الأرض السلامُ
 كما نظم قصيدة رائعة في مهرجان الشاعر والأديب أمين نخلة سنة 1972. وألقى قصيدة في ذكرى مرور 50 سنة على وفاة الشاعر الكبير إلياس أبو شبكة سنة 1997.
وأروع ما نظم في لبنان قصيدته العصماء التي ألقاها سنة 1994 في مهرجان معرض الكتاب الدولي الذي يقيمه النادي الثقافي العربي في بيروت، وقد قدّمته يومها وعنوانها «الزائر والأسئلة».
يبدأها بعتاب عشيقته التي تنتظره وتقول له:
أبطأتَ، وهي وراءَ البابِ تنتظرُ
 هل جئتَ تُحيي الهوى أم جئتَ تعتذرُ؟
إلى أن يقول:
وتسأل القادةَ الفانين، كيف نسوا
والضعفُ ينخرُ فيهم أنهم بشرُ
وأن مقبرةَ الطغيان مُوْحِشَةٌ
من فوقها حجر، من تحتها حجرُ
***
ويسألونكَ عن لبنان، يسألك
الفجر السماوي والأصداف والدُرَرُ
وجوقةٌ من ملوكِ الشعر، ترسم 
في بلُّورِ بيروتَ رؤياها وتبتكرُ
***
ويسألونك عن لبنان، كيف صحا
الفينيقُ والنارُ في التابوت تستعِرُ
كأنهم صادروا حق الحياة فلا 
حياةَ تنبضُ إلا حيثما أمروا
كأنما استصغروا لبنان فاحتسبُوا
ما تُبصرُ العينُ لا ما يدركُ البصرُ
كأنهم جهلوا أن الألى حملوا 
سرّ الحضارة يوماً من هنا عَبَروا
***
لبنان والشعرُ موسيقى الإله، وَبَعْــ
ضُ الشعر من كرمة في الغيب يعتصرُ
لو كان لي لغفرتُ الإثم معتذراً
عن مَن أساءوا ومن هانوا ومَن غَدَروا
ولانكفأتُ على ذاتي كما انفكأوا
ولانكسرتُ على ضعفي كما انكسروا
لكنَّ تلك العذابات التي ارتسمت 
على وجوه الضحايا كيف تُغْتَفَرُ؟
 هذا هو الشاعر محمد الفيتوري الذي عشق لبنان ونظم فيه أجمل شعره وواساه في محنته وآلامه، وشارك سكان بيروت معاناتهم زمن الحصار الإسرائيلي لها سنة 1982.
فإذا كان الشاعر الكبير محمد الفيتوري قد مات، فإن شعره هذا لا يموت .